طارق أبو عبيد الشاعر الذي أطلق عليه غازي القصيبي -رحمه الله- لقب "نزار العصر الجديد"، طارق أبو عبيد الذي شعر بنشوة الشعر الأولى وهو في عمر 13 ليصبح مزهواً بنفسه لأنه فقط أصبح قادراً على إخراج مكنوناته الذاتية وأحزانه التي وللأسف لم تنتهِ حتى الآن، طارق أبو عبيد في هذا الحوار يكشف أسرار المدن وإغراءاتها ورائحتها التي تحض الشاعر على الكتابة، يكشف عن أسباب هروبه عن الصحافة والساحات الثقافية، والوطن الحلم الذي يريد وبكامل إصراره أن يقضي ما تبقى من عمره بين ذراعيه، يكشف أيضاً وأخيراً ضريبة أن يكون الشخص نبيلاً في عالم لا يؤمن الآن بالنزاهة بقدر ما يؤمن بكيفية أن يروج لنا البكاء والاكتئاب بطريقة محترفة ومقنعة جداً: *"لو لم يشنقوا المصباح بخيطٍ مظلم يتدلى من السقف لما أضاء العتمة" ف.باكير أبسبب الوجع، بسبب الوحدة، بسبب الاختناق، بسبب تلويحة أيدينا للآخرين دون أن يكونوا نبيلين ويلتفتوا إلينا، أبسبب كل هذا صِرت شاعرا وأدرت ظهرك للحياة متجها نحو اللغة والتي هي الوسيلة الوحيدة كي نصبح تُعساء بشكلٍ أفضل؟ كيف بل لماذا أصبحت شاعراً وما الذي يقدح فيك زناد الشعر؟ - لا أدري كيف أصبحت شاعراً، كل ما أعرفه أنني بدأت في الثالثة عشرة بنظم أبيات قصيدة لم تكن معلقة لكنها كانت بداية جيدة، شعرت بالنشوة بعد كتابة تلك القصيدة، فقد شرّحت مشاعري بمبضع القلم على فراش من ورق، وبثثت همي إلى مسامع الريح التي كانت تصغي إليّ جيدا بدون أي مقاطعة، توالت بعدها القصائد وتتابعت مشاعر الانشراح العارمة التي كانت تتكلل بتهنئة وإعجاب وتشجيع من يقرأ قصائدي، أظن أن تكرار هذا الحدث مرة بعد أخرى هو تعريف مبسط لما يعنيه أن تكون شاعرا. وعندما يهجرني شيطان الشعر شهوراً وتصمت همسات الإعجاب بما أكتب، أتمنى أن أعود ذاك المبدع، كما يتمنى المضنى المشحون لو كان شاعراً يرتل لليل لواعج قلبه، أعود إلى قراءة ديواني وقصائدي بين الفينة والفينة، وأعجب كيف استطعت أن أكتب شعراً لا أستطيع كتابة حرف منه وأنا أقرأه الآن، ويستمر العجب والإحباط أسابيع طويلة، حتى تهبط عليّ القصيدة بمظلة من إلهام، فتنتشل إحباطي وتعيد إلى خيل شعري عنفوانه وصهيله. لا شيء يذكي جمر القصيدة في داخلي كما يفعل الفقد، أن يرحل الأحباب عن آفاق أبصارنا ويتركونا نلمح أطيافهم في الزوايا والصور، وأن تتساقط السنوات من أشجار أعمارنا إذا هبت عليها رياح خريف الزمان، وأن تُسلب الأحلام بريقها عندما توقظها شمس الواقع وتبهتها نور الحقيقة. تركت نصف قلبي في الخبر وبحثت عن منفى للنصف الآخر تعلمت أن العتب غناءٌ شجيّ في أذني أصمّ وأن الثأر يقتل صاحبه *"أتعرف الطريق إلى المدائن المولعة بالشجر إذن، دلني على طريق لا يحكمها سيف جلاد ولا يستحوذ على بابها القهر "! ع.الصائغ أنفقنا سنوات طويلة، وضعنا في جيب العمر أياماً وكتبنا وبكينا، ورحنا نبحث عن منفى وعن مدنٍ تشبهنا، البعض منّا وجدها مثلك تماماً كما عرفت حين مارست النميمة مع أحد أصدقائك، والبعض منّا لازال لا يملك الجرأة بعد ليقتطع تذكرته لأن وجه والدته وكلمة -لا تخليني- التي تقولها فقط بالصمت وحده تَمثل أمامه، عن المنطقة الشرقية وعن كاليفورنيا أتحدث يا طارق، عن المدينة التي تمنيت أن تضيع فيها للأبد؟ -يقول المثل الأمريكي "الوطن هو المكان الذي تترك فيه قلبك" وقد كتبت في إحدى المدن قصائدي "نصف قلبي في الخبر" وحسناً فعلت، كي أُبقي النصف الثاني؛ كي أتركه في منفى آخر يصبح وطنا!، نفتني المراكب ذات حلم إلى الظهران للدراسة الجامعية، ورغم أنها قبلت تذكرة العودة وأرجعتني مشكورة إلى الرياض؛ إلا أنها لم تلبث وألقت بي إلى جنوب كاليفورنيا لأُبَرْوز شهادتي الماجستير، لكن المعرفة الكبرى التي عدت بها هي أنني أبصرت لون البحر الحقيقي وعرفت أن بحار الدنيا ومحيطاتها تغدو مستنقعات كبيرة لو قورنت بشواطئ كاليفورنيا الساحرة، علمتني الخبر وإيرفاين في كاليفورنيا أن المدن التي ترحب بالقادمين من الأماكن القصية، ترحب بأهلها كذلك، وأن المدن الأخرى العنصرية هي مدن متغطرسة مع أهلها قبل أن تمقت الغرباء، متعبة تلك الرحلات على مد وجزر مراكب المدن والمنافي، ترهق القلب كما يرهق الوجد عاشقاً لحسناء تيّمه هواها فيقرر أن يرحل عنها كي ينساها ويُعتق من قيد العشق الذي يدمي معصمه، لكنه في طريق فراره من معشوقته يرتكب حماقةً كبرى فيهوى حسناء أخرى تتيّمه ويصبح معصماه مقيدين وأنّى له الإفلات من قبضة الذكريات والحنين، الدرس الذي تعلمته بعد هذه المطبات العاطفية مع المنافي والمدن هو أن أبني وطناً في قلبي تشير بوصلته دائماً إلى منتهى خطواتي فأستطيع أن أشم رائحة البحر في سموم القفار وأن ألمح زرقة السماء من شقوق سقوف الخرائب، أسندت قلبي على وسادة السُكنى فغلبه الاغتراب، ولكنه نام عندما غنيت له –محذراً- تهويده من شعر بلند الحيدري: "هذا هو ليل شتائك في المنفى توقد كل براكين الأرض السبعة لكنك لن تدفأ تهرب من مرفأ ... وإلى مرفأ وتغور بعيداً في أحلامك عل هنالك امرأة تسخن ليلك عل هنالك أرضاً تدفن ويلك عل هنالك شمساً توسع ظلك لكنك لن تدفأ ما دام شتاؤك في قلبك والمنفى فيك فلن تهرب إلا من منفى وإلى منفى". *"عالمي هو الشعر أنا خارج دفاتري أضيع دفاتري وطني يا أصدقاء!" م.الماغوط لقد كبرت وكبر معك الشعر، كما تنبأ غازي القصيبي -رحمه الله-، إلا أنك تخليت عنه وقلت له ذات يوم "وداعاً لقد تزوجت!"، ما الذي حدث لك يا طارق؟ أأطلقت الرصاصة على حنجرتك؟، أبسبب عقدة الكمال فعلت ذلك؟، ما الذي حدث لحزن وجهك الذي أنفقت وقتاً طويلاً تفتش عنه، ما الذي حدث للصحافة وللساحة الثقافية التي كنت تحب الحضور فيها لا الغياب عنها؟ -أتعرف ما الذي حدث لحزن وجهي الذي قضيت نصف عمري أفتش عنه؟ لقد وجدته! لمسته، ساءلته عن جذوره وشجرة عائلته وتيقنت أنه حزني القديم، مسحت على شعره كطفلٍ مشردٍ ضائعٍ منذ ولادته وعثر عليه أبواه صدفة، دعوته ليتناول معي فنجان إسبرسو والتقطت معه صورة تذكارية، أصبح الحزن صديقي فلا أحتاج أن أفتش عنه أو أكتب ديواناً آخر في هجائه، يتطلب الإبداع -والشعر أحد نتاجه- قدراً من عدم الاستقرار النفسي بل وربما درجة من العصاب تذكي قريحة الشاعر، وليس عندي هذه الأيام القدر الكافي من ذلك، ربما جنت علي مئات الكتب التي قرأتها في تطوير الذات وعلم النفس، أو ربما أرجعني للأمام عملي مدرباً غير متفرغ في دورات لزرع الإيجابية والثقة في النفس لدى الآخرين، الزواج للبعض رصاصة الرحمة التي تُطلق على الحرمان الذي هو أحد الجمار التي توقد الشعر، أما البعض الآخر فيرتدي سترة واقية ضد هذه الرصاصة بأن يستمر في مغامرات تؤجج حرمانه، رغم الزواج والأطفال والشهاب الأبيض الذي يخترق المجال الجوي للرأس ليشعله شيبا، أذكر قبل زواجي بأيام حديثاً مع الدكتور زياد الدريس بعد نشري قصيدة في مجلة المعرفة التي كان رئيسا لتحريرها، تنبأ فيه بأن جذوة الشعر في داخلي سيقل وهجها بعد زواجي، خالفته الرأي حينها مستغربا ولكني اليوم أدرك بعد نظرته، فالوحدة كهف التأمل وحبر القوافي، أما الصحافة، فلقد ولجت عالمها لأسباب براغماتية (نفعية) بحتة، بحثاً عن جلسة مع شاعر أو نقاش مع ناقد ما كانا ليصافحاني لو لم أكن صحفيا، وبعد أن حصلت على مبتغاي، أيقنت أنني أستطيع أن أكتب الشعر بدون أن أستمر في العمل الصحفي، وذات غربة، عندما أردت أن أدفع فاتورة حصص الماجستير، كانت محفظة الصحفي خاوية على عروشها وتبرع مبرمج الحاسوب الذي يشاطره هويتي بأن يكدح ليحمل تلك الفواتير الثقيلة، أصبح المبرمج إدارياً وأشياء أخرى كثيرة ولكنه أقسم ألا يرجع صحفياً منذ ذلك اليوم، وأقسم أن يظل شاعرا رغم الهويات الأخرى، ولعل ديواني الثاني الذي سأصدره بإذن الله في نهاية العام سيعزز هوية الشاعر الصامدة. *"عندما يحين اليوم والساعة وتقف أمام العزلة لأن أحباءك قد هجروك منذ زمن سوف ترى،آنذاك،أنك تماماً مثل الموت وحيد" ينز بيورنيبو حدثني عن الصداقة يا طارق،عن الوحدة، عن الأشخاص الذين تبتسم لوجوههم من أجل الحفاظ على إنسانيتك، حدثني عن من خانوك دون سبب وجيه لتقول لهم-سلاماً على نزاهتكم لقد عانت طويلاً-، حدثني عن الوقت الذي تضع رأسك على الوسادة مستعداً للنوم بالكثير من الأفكارالشاقة، ماذا تقول عندما تستيقظ وترى وجهك الوديع على المرآة والأسئلة التي أصابتك بالتجاعيد مبكراً دون جدوى، حدثني عن كل هذا؟ -مدينٌ أنا لأصدقاءٍ إخوةٍ في تشكيل شخصيتي، ونحت ملامحي التي تطمح لمضاهاة نبلهم، ممتن لليد التي امتدت لتنتشلني من غياهب الحزن، للحضن الذي استقبلني من موانئ الفراق ليذكرني بأن الغربة قد تزيد من مساحة الجزر الجرداء في محيط الرأس لكنها لا تبهت معادن الرجال بل تزيد رونقها لمعاناً، وشاكرٌ أنا لصديق الطفولة الأثير "وحدتي" التي هي منفاي الاختياري حتى أضحت وطناً لوجداني وملاذاً آمناً لنوارس بيضاء تشدو كل ليلة بمواويل الشجن والحنين في سماء روحي. أما الذين خانوا ظنون قلبي ومواثيق النبل وقابلوا صفاء السريرة بشوائب النوايا، فقد تعبت من اللوم، وعلمتني الُعتبى أن امتداد التيه في سراب قفار الشكوى وبث الحزن إلى مسارات الرياح لن يجمعني بضالة الأحلام المهرقة وراء خيبات الأماني الضائعة، تعلمت أن العتب غناءٌ شجيّ في أذنيَ أصمّ وأن الثأر يقتل صاحبه قبل أن يقتل الجاني وألّا دواء للمغدور مثل الغفران!!