انهمكَ المثقّفون الفلسطينيّون والعرب في أعقاب هزيمتي 48، 67، بالكتابة عن المنفى، سواء على مستوى تعريفه، أو على مستوى ما يسبّبه من مآسي باهظة وآلام للإنسان. لقد رسموا من خلال قصائدهم وقصصهم ورواياتهم صوراً قاتمةً للمنفى، أمّا المنفيّ فكان مقطوع الجذور، منبوذاً، ومطروداً من كلّ رحمة، يعيش تجلّيات العزلة، ويُجلّله النسيان. لقد كانت الصّدمة كبيرة بفقدان الأرض والبيت والأهل، وكان التّأقلم لم يزل صعباً في المناخات الجديدة، ولذلك فقد كان المنفى يتمتّع بكل تلك الملامح التي يكسوها الرعب والقسوة. لم يكن من السّهولة على الكتّاب والمبدعين أن يغيّروا هذه الصّورة الفظّة للمنفى، وأن يعبروا إلى ضفافه البعيدة الفائضة بالعذوبة والجمال. كان المطلوب منهم أن يتأمّلوه بعين القلب، وأن ينتموا إلى إنسانيّة شعوبه وقضاياهم ومصائرهم، وأن ينخرطوا في علاقات غرام مع البلاد الجديدة، ليس كبلاد بديلة عن أوطانهم المغتصبة، ولكن كبلاد صديقة لهم. خلال رحلته الطويلة من فلسطين وإليها، اكتشف عاشق فلسطين، وسفير حلمها في العالم، الشاعر (محمود درويش) ما يمكن أن نسمّيه نعمة المنفى، فكتب يقول، متأثّراً برحلة (أوديسيوس) المليئة بالأهوال إلى (إيثاكا): «إنّ الطريق إلى البيت أجمل من البيت». لقد اكتشف درويش بعين الشاعر الرائية اللمّاحة الصّورة الأخرى للمنفى التي تضمر بين طيّاتها مزيداً من أمواج الأحلام المتلاطمة. أوّل قصيدة كتبها الشاعر حين غادر فلسطين عام 1970 كانت قصيدة (النزول من الكرمل)، وفيها بكى درويش بحرقة هجرته من تلك الأرض الخرافية (جبل الكرمل) المطلّة على مدينة حيفا مهد أحلامه. كانت تلك القصيدة تشير إلى الوجع الأبدي الذي انغرز نصله في روح الشاعر، والذي لازمه طوال رحلته الطويلة فيما بعد: «ليومٍ يجدّد لي موعدي، قلتُ للكرمل الآن أمضي، وينتشر البحر بين السّماء ومدخل جرحي، وأذهب في أفقٍ ينحني فوقنا أو يصلّي لنا ويكسّرنا، هذه الأرض تشبهنا حين نأتي إليها، وتشبهنا حين نذهب عنها». كان درويش يشعر بيتم جارف لكنّه كشاعر موهوب وصاحب مشروع شعري كبير، شقّ طريقه في عباب المنفى. لقد تفجّرت طاقته الشعريّة وتصبّب الشعر بين يديه، واشتعل على شكل إعصار يغلي ويجتاح العالم. أقام في القاهرة، ثمّ في بيروت، فباريس، وعمّان، وأخيراً في رام الله، وخلال تلك المحطّات انفتح درويش على الإنساني الذي في المنفى، وعلى ما هو جوهري وساحر وشفّاف، وأقام في وطن آخر شبيه بفلسطين، وطن خلقه بيديه وأعصابه اسمه القصيدة. خلال رحلته استطاع درويش أن ينتقل بفلسطين من إطارها الجغرافي الضّيّق إلى معناها الإنساني الواسع، وأن يبشّر العالم بها، وقد اكتشف بحسّ الشاعر المرهف تلك الفلسطينيات الكثيرة التي يمتلئ بها العالم، فكتب لها الشعر، ودخل في صداقات حميمة معها، فما كان من العالم إلا أن بُهر بدرويش، وصفّق طويلاً لقصائده التي قرأها في عدد كبير من العواصم والبلدان. بقلب جسور واثق بالإنسان وبالإنسانية، وبوحدة النّضال في العالم، خاض درويش من خلال شعره معركة الحرية والبقاء لشعبه، وحرّض العالم على حبّ فلسطين، واستطاع أن يجمع إلى صفّه جماهير عريضة متنوّعة في أهوائها وفي رؤاها، ولكنّها كانت متوحّدة بقوّة حول فلسطين. إنّ الذي يحدث الآن من مظاهر التّأييد والحبّ لفلسطين في كلّ أرجاء العالم، ليشير إلى المهمّة الكبيرة الملقاة على كاهل الشعر والشعراء والمبدعين العرب. إنّ شهداء الحريّة الجميلين الذين سقطوا على طول الأرض العربية وعرضها، هم جزء من قصيدة كبرى يكتبها الإنسان تحيّة للأرض العربية،وتحيّة لفلسطين وأهلها، ولن تتوقّف تلك القصيدة حتى الوصول إلى شواطئها.