عنوان المقال كان صدرَ بيت من قصيدة ألقاها أحد الشعراء العراقيين في الملتقى الأول للشعر العربي في العراق الذي أقامته مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في الأسبوع قبل الماضي في الكويت .. كانت المناسبة رائعة للاحتفاء بعودة العراقيين إلى أهلهم في الكويت والخليج العربي عموماً، كما كانت المناسبة رائدة كغيرها من المناسبات والأعراس الثقافية التي تقيمها المؤسسة في البلاد العربية، وأما الاحتفال بالشعر العراقي في الكويت فهو أمر لا يقدر عليه إلا شاعر أوتي الكثير من رهافة الحس وجمال الألفاظ وقوة السبك وشعور قوي بقدرة الشعر على تبديد الغيوم التي تراكمت في أجوائنا العربية . وقد كان لي شرف إلقاء كلمة الضيوف العرب في الملتقى، وفي البدء اعترتني حيرة، فماذا يمكن أن يكون خطابي لهذا الجمع المثقف القادم من مختلف البقاع؟ وماذا يمكن أن أقول للعراقيين وأنا القادمة من ثقافة عربية جديدة آمن بها بعض العرب، ثقافة حبّ الموت واحتقار الحياة، وقيادة قوافله ونشرها في أكثر من بقعة في عالمنا العربي المصاب بجنون وعقوق بعض أفراده؟ ماذا أقول لهم وموائد الذبح العراقي تحتفي بها بعض فضائياتنا وتقدمها للمشاهدين وكأنما تقدم لهم طبقاً يومياً صار طعمه مستساغاً ومذاقه حلواً بعد أن كان مرّاً علقماً؟ ماذا أقول لهم وقلمي ينزف أسىَ وعقلي يكاد يفلت من زمامه؟ ماذا أقول لهم ونحن بطريقة أو بأخرى شركاء فيما يحدث عندما عجزنا من مواقعنا كأكاديميين ومثقفين وآباء وأمهات عن ترسيخ ثقافة حب الحياة ونبذ ثقافة الكراهية بكل صورها وأشكالها؟ يقيناً إنه موقف صعب، وأحسب الشاعر إبراهيم المصري اعتراه الحياء نفسه الذي اعتراني عندما قال : (أعطانا العراق بدر شاكر السياب وأعطيناه أبو مصعب الزرقاوي أعطانا نازك الملائكة تلك المنسية بضوئها في غرفة للغياب وأعطيناه مناضلي فضائيات أخشى أن تتمزق أوداجهم قبل أن يعودوا إلى النوم في بيوتهم ) ... ولقد هداني تفكيري إلى أن أتجاوز هذه البؤر النازفة بكل ما هو قبيح وكريه، فاخترت أن تكون لغة الشعر هي الرسول بيني وبين العراقيين، هي المفتاح الموصل بين قلبي وقلوبهم بين عقلي وعقولهم، أنا القلدمة من قلب الجزيرة العربية من الرياض النابضة حباً ووفاء، وهم القادمون من أرض الشتات من جحافل الظلم والغدر من السجون ومن المنافي ومن المقابر التي تضج بصراخ قاطنيها وضراعاتهم .. فكان مما قلته «كلّ البدايات جميلة لكن أجملها ما كان الحبّ باعثه والشعر الناطق الرسمي باسمه، تأتي هذه المناسبة تتويجاً لخلاص العراقيين بعد أن نفضوا عنهم الأحزان ومسحوا دموعاً فاضت بها بكائياتهم التي عبروا فيها عن معاناتهم في محنة وجودهم الحقيقية، ومع ذلك فإن قلوبهم لما تزل تخفق، وألسنتهم شعراً تلهج، فلا غرو فالقصيدة تعويذة آلامهم وأحزانهم . وتأتي هذه الاحتفالية مؤذنة بعودة العراقيين جميعاً إلى أهلهم في الكويت وفي أقطار الخليج العربي كافة، فكم هو جميل أن يكون اللقاء الأول بهم على أرض الكويت لنحتفي بالشعر وبالعشق العراقي الذي سكننا منذ أزمان، عشقٌ لم يكن طارئاً، بل تأصّل فينا وجرى منا مجرى الدم في العروق، فمن منا لم تفتنْهُ عيون المها مذْ فتنت عليَّ بن الجهم؟» (وقد كنت أشير في هذا إلى قول علي بن الجهم : عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري). وتابعت «ومن منا لم يؤخذ بقمر بغداد الذي مات من أجله ابن زريق بعيداً، بحثاً عن الرجعة إليه» (أشير في هذا إلى ابن زريق الشاعر العراقي الذي ترك زوجته بحثاً عن عيش رغيد فودعها ذاهباً إلى الأندلس بقوله : أستودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه كم قد تشفّع بي ألا أفارقه وللضرورات حال لا تشفعه وكم تشبث بي خوف الفراق ضحىً وأدمعي مستهلات وأدمعه علّ الليالي التي أضنت بفرقتنا جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه لكنه مات بعيداً عنها ولم يلقها بعدُ.) ثم أضفت : «ومن منا لم يردد أهازيج المطر مع بدر شاكر السياب؟ ومن منا لم يرافق عبدالوهاب البياتي في ترحاله بحثاً عن ينبوع الحياة؟ وهل من شاعر لم يَصُغ على نمط قصيدة نازك الملائكة؟ إنه الإبداع العراقي الذي تضرب جذوره في عمق التاريخ وتشكّل فروعه واحات غناء في حاضرنا العربي، وأحسبني لا أبالغ في هذا فيوماً تمَنّت شاعرة الكويت سعاد الصباح أنْ لو كانت نخلة تشرب من شط العرب» . ٭٭ ٭٭٭ كان الشعر العراقي في الملتقى ضيف الشرف، جاء ومعه الحزن العراقي، ذلك الحزن الذي تلبس بالعراقيين منذ القدم فأصبح حضور أحدهما يستدعي حضور الآخر .. كان الحزن العراقي سيد المشهد فحضوره كان طاغياً، بدا في الملامح وفي الكلام، حتى الابتسامات غلفتها مسحة منه !! إنه الحزن الذي أول ما تقع عليه عيناك وأول ما تلتقطه أذناك وأول ما تلامسه يداك وأحاسيسك و مشاعرك عند أي حضور عراقي . كان العراق كله حاضراً في الكويت، بنخيله .. بدجلة والفرات .. بشناشيل بغداد، ببدر شاكر السياب ونازك الملائكة والبياتي والجواهري وغيرهم . وكان الشجن العراقي والآه العراقية حاضرة بكثافة في الحفل الغنائي الذي أقيم في ختام الملتقى.. كان الملتقى صرخة قوية في وجه الاستبداد والظلم والقهر والجبروت الذي خيم على أرض الرافدين، كان إيذاناً بعودة العراقيين إلى ذواتهم وإلى الحياة بكل ما فيها من حمولات جميلة، وكان الحبّ حاضراً أيضاً وماثلاً في الوجوه التي التقت بهم بعد طوال غياب .. وأين؟ على أرض الكويت التي تعرضت لأعنف اغتصاب شهده التاريخ .. الكويت التي كانت في يوم من الأيام محطة من المحطات التي شهدت تمزق العرب وتشرذمهم حينما اختار بعضهم الانحياز لصدام في عدوانه طمعاً بجزء من كعكة الكويت ! عادت الكويت اليوم لتجمع الشمل العربي على أرضها الذي تمثل في المثقفين والمبدعين من الشعراء والأدباء، وهل ثمة ما هو أجمل من الشعر ليكون رسول سلام ووئام وبلسماً للجراح التي مازالت تنزف على أرض الكويت والعراق معاً، إنهما بغداد والكويت اللتان تغنى بهما الشاعر العراقي مدين الموسوي في إحدى الأمسيات بقوله : بغداد شمسٌ والكويتُ مدارُ في حجرها تتوقد الأقمارُ نثرا على وجه الزمان كواكباً فصحت لتطلق وعدها الأسرارُ ولدا على حذر فكانت رعدة من بعدها تتنزل الأمطارُ غسل الزمانُ بها يديه ووجهه طهراً فلا كدرٌ ولا أوضارُ إلى أن يقول : أنا يا كويتُ الحبِّ جئتك حاملاً قلبي الجريحَ وفي ثيابي النارُ أنا يا كويتُ الأهل جئتك شاكياً جورَ الجوار فقد أُبيحَ جواري إنها صرخة الشعر الذي يعلن جحود ونكران بعض أهل الجيرة وأبناء العم الذين استباحوا الحمى وخانوا أواصر القربى . كان الملتقى ينضح بالحزن والشكوى حتى لتخالَ نخل العراق يبكي والرطب دمعه الذي يساقط جراء ذلك، وأن دجلة والفرات ما عادا ينسكبان موسيقى حبّ وهيام بل ينسكبان لحناً جنائزياً مخضباً بالدماء، إنها قوة الحزن القادرة على جعل القصيدة أداة للتعبير أحالت الألم كوناً فسيحاً تتحرك فوقه وتحكي من خلاله معاناتهم وأوجاعهم، فلا عجب فالقصيدة ملاذ العراقيين، يلجاؤون إليها يبثونها همومهم ويبكون على صدرها، عندما تضيق بهم السبل فتتلقفهم المنافي والسجون، وعندما يصعّر القريب خده، وينأى بوجهه الصديق ! أما العراق الوطن فما انفك ساكناً في دواخلهم يجري منهم مجرى الدم في العروق، وبغداد ظلت أنشودة حبّ وقصيدة وله وعشق تسكن قلوبهم وعقولهم، فكم نادوها وناجوها وتبتلوا في محرابها ووقفوا على أبوابها وساروا في أزقتها وبكوا تحت شناشيلها ... !! فلا عجب أن يصدع الشاعر علي الشلاه متغنياً بالعراق الوطن في الأمسية ذاتها بقوله : «وطنٌ لا ينام به النخلُ إذ تنتشي بالنعاس العيون وطن ليس يدري سوانا هواه إذا غلف العشقَ صوتُ الجنون وطن لا نبوح بأوجاعه لكننا نشتهيها ونمشي على صوته إذ ينادي ولا نسأل الإذن من يطلبون وطن .. كلنا والجنان - منافي- ونشتاقه .. حدَ إنّا نحبُّ اللصوص به والسكارى .. وحرَّ الزنازين في صيفه والبغايا، ومن أيدوا، ثم من عارضوا والمخبرين، ومن أُخبروا، والسجون .. وطن لا يقسّم مثل الخرائط لكنه نحن .. كلُّ عراقي ... عراق ..! فكم وطناً يقسمون ..؟ وطن .. نحن سيماؤه .. وله .. طبعُ أكراده عاشقاً حلم سنته غاضباً حزن شيعته عندما يحزنون ..» إنه الحب والعشق العراقي وهل ثمة شيء قادر على أن يفعل ذلك سواهما .. وبقدر ما كان الحزن مرجعية شاملة لمعظم الشعراء العراقيين الذين حضروا، فقد كان كشفاً لانعكاساته على واقعهم، فهو خبز العراق اليومي وماؤه ونخله وثمره، إنه الحزن الذي جعل أصغر الشاعرات منى كريم تصوغ أغصاناً للموت بقولها : «الموتُ عاملٌ يمسح أرضية المستشفى والشوارع مجاناً الدم يعيش حالة حداد ولا يعرف كيف يتخلص من موسيقى جيوبي كرسي من الصراخ يجلس في الساحة الخلفية يشبه الليل كثيراً يأتي النحيب يوزع كؤوس الشاي على المعزين ثم ينفرد في إحدى الزوايا ليغطس في نفسه ..» لا شيء سوى الحزن العراقي الذي يجعل فتاة لما تبلغ السابعة عشرة من عمرها تتحدث عن الموت وتتخذه ثيمة لكثير من قصائدها، كقولها في قصيدة أخرى : «يزحف الشرود لنا كما عباءة أمي التي تتذمر من زيارة المقابر والبيوت الحزينة كثيراً» ويلاحظ أن حضور الموت وما يتصل به من مفردات مثل حداد وصراخ ونحيب والمعزين والمقابر والبيوت الحزينة كان حضورا قويا في قصائدها . ولكن الشاعرة الصغيرة لها رؤية حول الوطن حيث تراه في صورة غير الصورة التي يراه فيها الشاعر علي الشلاه حيث تقول في قصيدة بعنوان : حيث لا وطن «وطني إنسان عارٍ يحاول دائماً زرع قلوبنا بالألغام وكل الأشياء التي تعشقنا تقيسنا حنانه: الطيور تخرجنا نحو أيقونة الغربة والوجوه الجديدة تؤرق أرواحنا ..» ولعلي أضيف على موضوع الحزن ما ذكره أحد الكتاب العراقيين من أن منشأ الحزن العراقي هورافد من الأحزان الذي لا ينضب حيث تنوعت مصادره من عوامل سياسية واقتصادية وبيئية واجتماعية وحتى عوامل خارجية، ألقت بظلالها الثقيلة على العراقيين في حقب من تاريخ العراق على مرّ العصور وامتداداً إلى عصرنا الحاضر، وكأن العراق موسوماً بالحزن الأبدي بدءاً من الحزن السومري ومروراً بالحزن الكربلائي، وكان العراقيون يعبرون عن حزنهم في الغالب من خلال الشعر والغناء الذي تميز بمسحة الحزن الطاغية على مفرداته .