الشاعر عدنان الصائغ تناوشته القصيدة إلى احتمالات أبعد من الغربة وإلى وطن «غريب الوجه واليد واللسان» كما قاله عنه المتنبي، إذ إن العراق لم يغب يوماً عن ذاكرته، ولكن النص هو مسافة روح تحفل بالهدوء وبالمعركة في آن، لقد كانت أسئلته الكبرى وجعاً إنسانياً صبَّه في الفراتين حتى تكدر ماؤه، ومهما اجترحه الأصدقاء المارّون على أعتاب الكلمات فهو يُنصفهم بالنوايا كما يُلوّح له رفيق ذاته عبدالرزاق الربيعي، وكلما طافت به الظنون سبعاً فقد بنى وجهته للدراويش كما أمها أبو يزيد البسطامي ذات زُهد وتصوف. هنا في حوار «الحياة» معه فتح أبواب المعنى على مصراعيه، فما بين مكاشفة مع الآخر وما بين صراخ في أذن الغربة يسمو كثيراً عبر الغياب، ويتجددُ بملامح ورقية تؤطرها حدود الكلمات مع ذلك «يتجدد». اعتصرتْ روحه غصة فكان.. العراق. بهذه القصيدة «العراق» التي كانت مفتتحاً لديوانك (و..).. كيف تتلمس العراق اليوم؟ - كسجين خرج للحرية للمرة الأولى، متلمساً خطاه المبعثرة بارتباك وحيرة.. نعم؛ سجين مخضرم، لكنهم بدل أن يسندوه أو يرشدوه، تناوشته نبالهم ومفخخاتهم من كل صوب، وكلٌّ يدّعي هدفاً ووصلاً بليلى. يا لمحنته المركبة والمعقدة في آن! «محنة؛ يا عراقْ/ أن تظلَّ المحاصر من كل جَنْبْ/ وتظل المطارَدَ من كلِّ حَدْبْ/ وتظلَّ دماكَ - بكل العصور - تُراقْ». هكذا أتلمسه وأتهجسه اليوم، فأجده يصارع كواسر الظلام والظلاميين والمحتلين وتجار الحروب والأحزاب والميلشيات، بقلب صبور منفتح ومنجرح، وانتظار دائم لعودة شمسه وطيوره المهاجرة.. لم أبتعد عنه ولم يبتعد عني على رغم المنافي والأسوار، على رغم الدرك والمفخخات، على رغم المصادرات والمطاردات، هو جذري وقدري وصليبي ويوتوبياي، هو المفتتح والمنتهى أيضاً، الأمل والمآل، المنفى والوطن، القصيدة والراية، الجنة والجحيم أيضاً وأيضاً. لكن المفارقة أن بلادي الحبيبة وقد تخلصت من أغلال الدكتاتورية والحروب الكارثية التي قتلت وشردت وجوّعت أبناءها، راحوا يلبسونها أغلالاً أخرى، ويجوعون ويشردون ويقتلون أبناءها ثانية، تحت يافطات شتى. «لا أدخل في الآخرين؛ ولا أخرج منهم.. حيادي معناي..»، أأنت مسالمٌ إلى هذا الحد يا عدنان؟ - ليس بهذا المعنى الذي تقصده يا جفال، لكن بالمعنى الذي قصده الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: «لا تتعجبوا يا أصدقائي اللطفاء من أن جبهتي مقطّبةٌ، مجعّدةٌ، فأنا أعيش في سلام مع الناس، وفي حرب مع أحشائي..».. بمعنى أن الاشتغال والمشاكسة يكونان داخل النص للتجريب والتحريك والمغايرة. لكن بعض الشعراء، مقلدي الصرعات، يمارس الفوضى والتصعلك والمشاغبة خارج النص، وعندما تتصفح نصه تجده تقليدياً جامداً يمشي باستقامة على سكة اللغة كقطار روتيني بامتياز. مقهى حسن عجمي.. إلى أين يأخذك؟ - يأخذني ويمضي معي إلى كل مقاهي العالم، حيث ألتقي شعراء وأصدقاء من مختلف الأصقاع والتجارب، فكل مقهى يؤثث خصوصيته وثقافاته من خلال رواده ومناخاته. في قصيدة «صعاليك حسن عجمي أيضاً» التي ضمها ديواني الأخير «و..»؛ وجدتني أطوف بذلك المقهى أو يطوف بي إلى آفاق لم تكن تخطر لي ببال، وأنا أفترش حصيره البالي ذات بغداد ملتهب بكل شيء، مستذكراً دخولي إليه للمرة الأولى بدايات الثمانينات، مطقطقاً باستكان أبي داود، ذلك الشهير بشاربه الكث الطويل، وأنا أتأمل وجوه العابرين والحافلات عبر زجاجه المضبب بدخان النراجيل والزفرات، وعندما عدتُ إليه بعد سقوط الصنم نهاية 2003، بصحبة صديقي الدكتور صفاء صنكور كنا لا نرى عبر واجهته سوى منظر الحرائق والرماد، تلخيصاً لكل ما مرّ بهذا البلد وهجرة نوارسه. وطن أم زنزانة.. قدر العراقيين يا عدنان؟ - نعم، كثيراً ما كنت أتساءل مع روحي الملتاعة - أعوام الحرب وما بعدها - هل هو وطن، أم زنزانة: «وطن أم زنزانة/ الحاكم أضحى سجانه/ نحن المحكومين به منذ زمانْ/ يتوارثنا سجان/ عن/ سجان...». ثم وجدتني أعيد تشكيل تلك الصورة، رقعة الشطرنج نفسها، قبل سقوط الصنم أو كش الملك، وأنا أزور قلعة هاملت في الدنمارك، مع شعراء مهرجان «أيام مالمو العالمية للشعر»، صيف 1997، وكأن القصيدة كانت تتنبأ بما سيحدث. «يرحل الشعراء ولا يرحلون.. لكنهم.. سيبقون منهلك العذب، موئلك الصعب.. يبقون إخوتك الطيبين، وأعداءك النبلاء».. هذه نظرة مثالية وحالمة، عندما نقرأ حوارات الشعراء ومذكراتهم نجد نرجسية كبيرة وأدوار بطولة يشيدونها لهم وحالة قدسية يحيطون بها ذواتهم المأزومة أحياناً؛ هل يمكن أن يكون الشاعر عدواً نبيلاً في هذا الزمن الصعب؟ - يا صديقي، ذقتُ من نبالهم الكثير، وأيضاً شممتُ من ورودهم وأرواحهم الشفيفة الكثير، فثمة نبلاء وثمة خبثاء، على الدوام، إنها طبيعة البشر والحياة والمهن كلها، وأنا ما زلت أؤمن لليوم بضرورة أن نرى ونتعامل دائماً مع الجانب المضيء من الشاعر أو الشخص، تلك حكمة تلقفتها من صديقي الشاعر عبدالرزاق الربيعي منذ بدايات مسيرتنا الشعرية منتصف الثمانينات ولليوم، وقد أراحتني تلك الحكمة وخففت عني الكثير من الإحباط والألم اللذين يمكن أن يتسببان لك وأنت ترى الجانب الآخر. وتعلمت أيضاً من الإبداع والحياة نفسهما أن ما يبقى في النهاية من كل أديب أو فنان هو نصه وعمله وسيرته، وهما قد يتماثلان وقد يتقاطعان، فقد تجد شاعراً باهر النص لكنه شاحب الروح، والعكس صحيح، لكن العظيم والمؤسس هو مَن يشي نصه بسيرته، وتشي سيرته بنصه، أي أنه يعيش نصه ويتماثل به ويدخلنا معه في ذلك السحر الأخاذ والقيم الإنسانية العليا.. بقول بلند الحيدري: «لا أستطيع أن أرى مبدعاً بلا أخلاق»، متطابقاً مع هيغل بقوله: «كل ما هو جميل أخلاقي». عشرون عاماً.. ألم يصلك بريد يفتح نافذة كبيرة على الفرح؟ من يأتي لك بصوت العراق في مقاهٍ باردة وبعيدة؟ - بريد الفرح قليلاً ما يأتي لمغترب مثلي، من ذلك الوطن الحبيب، المرّ والعذب معاً، لكن ولأن المنفى أمرُّ وأقسى يمكن أن نتلذذ بما يأتينا من فرح شحيح، وهذا يكفي «.. وداعاً/ نغادرهُ الوطنَ المرَّ/ لكن إلى أين؟/ كلُّ المنافي أمرّ...»، وما زلت والكثير في أصقاع منافينا ننتظر بريد الوطن أن يحمل لنا يوماً الفرح والأمل، والشمس التي ننتظر.. ف«الشمس أجمل في بلادي من سواها» كما هتف شاعرنا السياب، ذات غربة ومرض. كثيراً ما يسخر البعض من منافي الشعراء، ويتحدثون عنهم كأنهم مرفهين في بلاد الله، أي جنة.. أي نار سكنت؟ - «وضعوا الشاعر في الجنة - كما قال ناظم حكمت - فصاح: أريد وطني».. فكيف وهذا الشاعر في المنفى بصقيعه وغربته ووحشته أحياناً؟ عشتُ في مدينة لوليو السويدية جنوب القطب الشمالي ستة أشهر بدرجة تصل إلى 36 تحت الصفر، ولا أكاد أرى شمساً أو شخصاً، وجبال من الصقيع والوحشة والظلام تغطي الروح والبصر والهواء. فرق أن تأتي سائحاً أو دارساً إلى بلاد الغرب، وبين أن تقيم فيه منقطعاً عن ناسك وأهلك وترابك وجذورك الأولى. وتلك حالة ذكرتها في كتابي «القراءة والتوماهوك، ويليه، المثقف والاغتيال». أقتطع لك منه هذه السطور لتتلمس تلك المفارقة بتقلباتها: «سنوات الثمانينات، داخل الوطن، ومن خلال الرقابة الصارمة، كانت تتسلل إلينا أحياناً بعض القصاصات من نتاجات أصدقائنا المهاجرين الذين سبقونا إلى المنافي، وكنا نفرح ونحزن وتختلط في دواخلنا مشاعر كثيرة لا يمكن فصلها، ونحن نقرأ الأماكن المذيلة في نهايات النصوص: حانة في باريس، مقهى على ضفاف بحر البلطيق، أحراش غابة في بولونيا، و.. ونتأوه، ونحن نتخيل سعاداتهم الضوئية بين الشقراوات والحانات وفضاءات الحرية، ولا ننتبه إلا قليلاً لخيط الألم المتسرب من نايات حنينهم المبحوحة...». «هل بشكّيَ إثم؟/ لِمَ يخلق لي العقل/ والشطح/ إن كان يخشى من العقل، والشعراء».. إلى أين يأخذك الشك؟ - تلك طامة كبرى نعيشها، فالشك الديكارتي الذي أوصل الغرب إلى ما هم عليه من تطور، نفسه أرعب سدنة الدين عندنا فمنعوه بالمطلق وكمّموا أفواهنا - منذ تفتح وعينا - عن أي سؤال أو كلمة شك، بل منعوا أي تفكير أو تفسير خارج مدى شرح البخاري وابن تيمية والطوسي وابن المفيد، فرُحنا نراوح في أماكننا منذ 1400 عاماً، ولليوم نتجادل ونحترب حول الوضوء وسبل اليدين أو التكتف والحجاب والعصمة والإمامة... إلخ تصب غضبك على فقهاء الظلام بقوة في ديوانك «و..».. أهي عداوة قديمة بينك وبينهم؟ - فقهاء السلاطين هم سبب محنتنا ولا زالوا إلى اليوم، هم مَن أداموا عروش الطغاة وأشاعوا الخرافة والدجل. وقد أشار إلى ذلك وبكثير من التفاصيل العلامة الدكتور علي الوردي في كتابه الشهير «وعاظ السلاطين». ما يهمني هنا الإشارة إلى تلك الخديعة التي مارسها علينا هؤلاء السدنة. وقد حدث مثل ذلك للأوروبيين من قبل كهنتهم في العصور الوسطى، لكنهم تخلصوا من كل هذا وفصلوا الدين عن الدولة، فتطور الشارع والعقل، وأنتجا ما أنتجا من علوم نقلت البشرية جمعاء إلى مديات متقدمة من التطور والرفاهية والوعي، فزادت الهوة أكثر بين السدنة والمجتمع، على العكس تماماً مما يحدث لدينا. بين «إنتظريني تحت نصب الحرية» بغداد 1984، حتى ديوانك الأخير «و..» 2011.. ما الذي لم يكتبه الصائغ بعد؟ - دائماً ثمة نص لم نكتبه بعد، وهو ما يظل حلمنا المؤجل والمُنتظر. نعم، فما لم أكتبه بعد هو الكثير، وما لم يكتمل بعد هو الكثير أيضاً، ومنه نصي المفتوح «نرد النص» الذي لم أنتهِ منه بعد على رغم مرور حوالى 17 عاماً، ربما سيكون الأطول والأعمق والأوجع والأجرأ في كل ما كتبتُ. في قصديتك «طواف» أسئلة حيرى وانحياز للإنسان ككائن مقدس.. حدثنا عن مكة وتطوافك فيها وكيف تولّد هذا النص الشائك؟ - وجدت في هذه البقعة النص، من التناقضات والغرائبية الكثير والمثير. تبدأ من فكرة المقدس نفسها ومفهومه ومرجعياته وإلخ.. ولا تنتهي بسطوة الأسطورة والخرافة على الحياة نفسها على رغم ما قطعته من مسافات مهولة من التطور والعلم والتجاوز. كنتُ مدعواً إلى إلقاء قصائدي في أمسية احتفالية لي، في تلك البقعة الملتبسة من الأرض أم القرى ذات الهالات والتساؤلات، ووجدتها فرصة شعرية أخرى أن أستكشفها بعين الشاعر. لقد كان طوافي شعرياً محضاً، وبما أنه كذلك فهو حاشد بالشك والتساؤل والحيرة، لم يتحمله سدنة الفقه، لذا تعرضت القصيدة للحذف في أكثر من مكان ولم تجد مَن ينشرها حتى ضمها ديواني الأخير الذي صدر في بيروت عن دار رياض الريس. «لا عصافير في الهواء / لمن خَبْطُ هذه الأجنحة»، لقد غيّب الموت أدباء وكتاب عراقيين كبار، وكأن قدر العراقيين أن يغادروا عالمنا دونماً صرخة احتجاج أو شهادة وفاة معلنة؟ مَن يعيد لزرازير البراري البهجة؟ مَن يعيد للبرحي زهوه؟ للنواعير عرس الماء في زمن الجدب؟ مَن يعيد لألف الله عنفوانها في أرض السواد؟ - المحنة شاسعة وكذلك منافينا. ونحن نصغي في الليالي الباردة إلى طرقات أصدقاء رحلوا، خفق أجنحتهم يموسق الريح والروح والليل، لكنهم لم يأتوا، تركوا لنا جذوة أرواحهم الباهرة ومضوا، أقول أيضاً: «سأجلس على باب الوطن محدودب الظهر/ كأغنية حزينة تنبعث من حقل فارغ/ يغطيني الثلج وأوراق الشجر اليابسة/ أنظر إلى أسراب العائدين من منافيهم كالطيور المتعبة/ أمسح عن أجفانهم الثلوج والغربة/ إنهم يعودون/ لكن مَن يعيد لهم ما ضيعوه/ من رمل وأحلام وسنوات». ما بين الأصدقاء والأشخاص الذين تستحضرهم في قصائدك.. أيهما ينبض في صدر الكتابة أكثر؟ - يختلط الأصدقاء بالأشخاص العابرين وهم بالأمكنة والأزمنة، فيأخذ هذا من ذاك وذاك من هذا، لذا فالنبض هنا للمعنى والحال أكثر مما للشخص بعينه. فالشاعر يعيد تشكيل الأمكنة التي يزورها والأشخاص الذين يلتقيهم والكتب التي يقرأها والأحداث التي تمر به أو يمر بها وغير ذلك، فيفكك منظوماتها المعرفية والروحية والفكرية، مثيراً للأسئلة ومستشرفاً للآفاق. أليس هو «الذي رأى كل شيء» كما يبتدئ أول سطر من ملحمة كلكامش وأنا حفيد ذلك الشاعر الذي كتب تلك الملحمة الخالدة؟ أصدقائي النادرون يضيئون مساراتي، لكن أكثرهم ضوءاً وتأثيراً دم علي الرماحي، دمه الوهاج الذي ظل ملازماً لحروفي والذي حصّنني من السقوط في تلك الأعوام الحالكة وقد أظلم كل شيء ولم يعد من بصيص وأمل وسط تشابك الرصاص والشعارات والمزايدات والموت، كان دمه الشاهد والشهيد، المنار والقصيدة. لذلك مضيت وخرجت من تلك المحنة بإصرار أكثر على مواصلة الرحلة، رحلة دمه الحر والثائر أبداً، وما زلت أحمل تلك الشعلة معي. هناك أصدقاء رائعون آخرون أثروا في حياتي وتجربتي الشعرية، ومنحوني الكثير، شعراء وأدباء وفنانون ومجانين ومتسكعون، في الهامش والمتن. ما الذي تخشاه من العتمة والأحلام.. لدرجة أنك تقول: «حياة بيضاء.. كثيراً ما نفسدها بالأحلام»؟ - في العتمة كثير ما تندلق الكوابيس وتزحف إلى طاولتي وأوراقي وسريري وتلتهم أحلامي البيضاء التي هي حياتي. هذه الأحلام كثيراً ما تفسدها أيضاً تلك الرغبات الحبيسة التي تحترقُ في الروح مخلفة رماداً ودخاناً، سيغطي المشهد: نصاً وحياةً ودرباً. لذا ففي الأحلام متسع لحياة هي «في مكان آخر» على حد قول ميلان كونديرا، لكن عندما تزداد المسافات تسقطنا في هوتها التي لا حد لها ولا قرار. الخسارات التي مرّتْ بوطنك تتردد بقلق في دواوينك.. ألم تجد نفسك في الغربة وحنينك مشدوهاً للذاكرة الأولى؟ - تلك الخسارات التي صبغت أيامنا وقصائدنا في الوطن حملناها معنا إلى منافينا، أقلّبها اليوم كألبوم حاشد بالكثير من الصور والجمال والمنغصات، وأبتسم بمرارة: «دموعي سوداء/ من فرط ما شربتْ عيوني/ من المحابر والزنازين». لكن خساراتنا تلك زادتنا وتزيدنا إلحاحاً والتصاقاً بالحياة والإبداع، فأنا «أملك هذا الألم الذي يضيء» كما قلته في ديواني «مرايا لشعرها الطويل»، وأقول أيضاً في ديواني «تأبط منفى». الأمكنة تتجول في داخلك أم تتجولها أنت؟ لدرجة أنك لا ترى مدينة إلا تُبصر بغداد قبلها.. لِمَ كل هذا الاستحضار؟ - هل أقول إن المدن كتاب مفتوح، سطوره تمتد أمامك ملأى بالحكايات والمتغيرات، تمضي بك أو تفتح لك معاني وأبواباً وتجارب وأشكالاً لا تخطر على بال، أنت حرف فيه تتحرك بك رياح الكلمات إلى المعنى المبهم، معناي بغداد، وكل المدن - الكلمات، مدارات منها وإليها، إليها، إلى القطب - الجرح. هل أترك لقصيدتي «ليلة لشبونة»، من ديواني الأخير «و..» أن تجيبك: ها أنت تطوف العالم/ ها أنت تطوف لوحدك/ ها أنت تنوح على ما مَرَّ/ تناسَ المُرَّ/ تناساكَ المارّون/ فما تنظر أو تنتظر..».