منذ التحول الحاسم الذي حدث في النظام الدولي بانتهاء القطبية الثنائية التي سادت في حقبة الحرب الباردة، وبروز نظام القطب الواحد والهيمنة الأميركية، والمفكر العربي الأستاذ السيد ياسين يكرس جهده العلمي والبحثي في رصد هذا التطور في الخريطة العالمية وما صاحبها من تأكيد ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، ويؤكد خصوصاً على الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي حركت وصاغت ظاهرة العولمة، وتدفقاتها. أخيراً أصدر الاستاذ ياسين ثلاثة أعمال فكرية كبرى تحلل هذه الظواهر، هي: «أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية» (نهضة مصر)، «رؤية عربية لمشكلات العالم المعاصر» (دار عين)، «شبكة الحضارة المعرفية» (دار ميريت). وباعتبار ضخامة تلك الأعمال، فإننا سنقتصر في هذا المقال على كتاب «أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية» بصفته يعالج اكثر القضايا التصاقاً بالواقع المعاصر وباهتماماته الكبرى. وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام مترابطة: القسم الأول يجري فيه الكاتب عملية مراجعة للعولمة، والقسم الثاني عن الديموقراطية بين المجتمع الواقعي والفضاء المعلوماتي، والقسم الثالث عن أزمة السياسة في عصر العولمة، والرابع عن سقوط الهيمنة العالمية. ولعل أكثر ما يلفت في مراجعته للعولمة هو تركيزه على تأثيراتها في مجتمعات العالم الثالث والمجتمع المصري والذي يتمثل في ما تخلقه من زحف الثقافة الاستهلاكية وهي العملية التي من شأنها إعادة صياغة شخصيات الأفراد في هذه المجتمعات لكي تدفعها للدخول في مجال الاستهلاك المتواصل حتى لو كان في هذا السلوك تجاوز للقدرات الاقتصادية والمالية المتواضعة لأعضاء الطبقة المتوسطة والفقيرة، ومن هنا يطرح السؤال المركزي عن تأثير الزحف الاستهلاكي الذي أدت إليه العولمة على الاتجاهات والقيم والسلوك في مجتمع كالمجتمع المصري؟ وينتهي إلى بداية عملية «التدهور الطبقي» ويقصد بها الاتساع الضخم في الفجوة بين الفقراء والأغنياء وبروز آليات اقتصادية تسمح للأغنياء بأن يزدادوا غنى والفقراء بأن يزدادوا فقراً. ويواصل الأستاذ ياسين قراءاته لتأثيرات العولمة في مستقبل المجتمع المصري، فمن الظواهر البارزة على المستوى الدولي التي ستؤثر في المستقبل المصري والعربي ما يسميه «بروز حق التدخل» وبخاصة بعد حرب الخليج وغزو العراق وانفراد الولاياتالمتحدة بالساحة الدولية، كذلك يرصد مشكلات عدة ستؤثر تأثيراً بالغاً في صياغة المستقبل المصري، ومن أبرزها مشكلة الشمولية الفكرية ويعني بها ادعاء أصحاب إيديولوجية معينة أن لديهم الحل الكامل لمشاكل البشرية كلها، والحل الأمثل لمواجهة هذه المشكلة هو الحوار المفتوح الذي يسمح بالوصول إلى تقارب المواقف وإتاحة المناخ الصحي للتعددية الفكرية وحرية التعبير والتفكير في ضوء احترام الدستور والقانون. غير أنه يعود فيذكر أن الشمولية الفكرية ليست هي فقط التي تهدد بتعويق الإصلاح في المجتمع المصري والمجتمع العربي، ولكن ما يؤثر سلباً في مسار التقدم هو ممارسة التعددية في ظل الشمولية السياسية. لذلك، عند السيد ياسين، فإن نقد الشمولية الفكرية سواء كانت ماركسية أم رأسمالية أم إسلامية هو شرط أساسي لتحقيق التقدم العربي، غير أن هذا الشرط وحده لا يكفي، إذ لا بد للتقدم من أن يستبدل ثمار الثورة العلمية والتكنولوجية. ويخلص إلى أن العملية الأساسية التي ستحدد معايير تخلف أو تقدم المجتمعات هي مقدرتها على انتاج المعرفة التي لا بد من أن تستند إلى البحث العلمي في صورته الحديثة، ويقود هذا إلى التساؤل عن موقفنا في التعامل مع العالم، وما هي نوعية الخطاب الذي ينبغي أن نصوغه حتى يكون هذا التعامل تفاعلاً خلاقاً ليس فيه افراط في الحرص على الخصوصية الثقافية، ما يدفع بنا إلى الجمود الحضاري، وليس اندفاعاً متهوراً لقبول كل القيم الثقافية والسياسية التي يروج لها الآخر؟ كذلك يتساءل الكتاب عن تحديات الديموقراطية العربية، وما الذي يمنع تحقيق الديموقراطية في العالم العربي؟ ويخلص في هذا الصدد إلى أن الأوضاع الموروثة والحالية الناجمة من استئثار طبقات اجتماعية بعينها بالسلطة طوال مراحل تاريخية طويلة هي من بين أهم الأسباب التي تحول دون نشوء ديموقراطية عربية أصيلة. ويواصل ياسين مناقشته للديموقراطية العربية في عصر العولمة والضغوط الدولية لتحقيق شعارات العولمة السياسية في العالم العربي وكذلك من جانب منظمات المجتمع المدني العالمي الذي أصبح أحد الفاعلين الرئيسين في النظام الدولي الراهن، وهكذا يمكن القول إن الديموقراطية العربية أصبحت تمثل معضلة تحتاج إلى حلول إبداعية، ولهذا فإن السؤال الذي يكرر طرحه هو ما الذي يجعل من الديموقراطية العربية معضلة حقيقية؟ ويجيب عن هذا السؤال بأسباب عدة منها ان الميراث التاريخي للدولة العربية الإسلامية هو الميراث التاريخي الذي انتقل إلى الدولة العربية الحديثة وقد آن الأوان للانقلاب على هذا الميراث التاريخي السلبي والانتقال إلى التحول الديموقراطي الحقيقي، وهو تحول يتسم بالبطء الشديد، ومن أهم أسبابه تشبث النخب السياسية العربية الحاكمة بالسلطة المطلقة وعدم قبول مبدأ المشاركة في السلطة وهو ما يجعله يوصى الأكاديميين العرب مهما كانت علاقتهم معقدة بالسلطة بأن يصارحوا الجماهير بمؤشرات العجز الديموقراطي العربي وأسبابه المباشرة والتي تكمن أساساً في سلطوية النخب السياسية الحاكمة من ناحية وفي تخلف الثقافة السياسية السائدة من ناحية أخرى. وينتقل الكتاب إلى ما يسميه «سقوط الهيمنة العالمية» حيث يسجل أننا نعيش منذ نهاية عصر الحرب الباردة الذي شهد انهيار الاتحاد السوفياتي ما يمكن تسميته بزمن الخداع العالمي، وهو الخداع الذي يبدو ما بين الشعارات السياسية للعولمة وهي الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان وبين مجال الممارسة حيث نجد أن الولاياتالمتحدة الأميركية التي نصّبت نفسها داعية للديموقراطية وحقوق الإنسان هي التي بسياستها المعلنة وسلوكها الفعلي التي تعتدي على الديموقراطية وتستخدم التعددية لتفتيت الشعوب وتخرق حقوق الإنسان، وإذا تأملنا حصاد هذا الخداع السياسي الذي قامت به الولاياتالمتحدة مرتين في عقد واحد لأدركنا أنه يمثل خيبة كبرى لها إن لم نقل هزيمة كاملة. ويتعرض الكتاب لمأزق العولمة الرأسمالية وللبعد الاجتماعي الجذري للعولمة الذي يعد امتداداً وتجاوزاً في الوقت نفسه لنقد الرأسمالية باعتبارها مذهباً اقتصادياً وهو النقد الذي مارسه عشرات من العلماء الاجتماعيين من مختلف المشارب والاتجاهات في الشرق والغرب على حد سواء، ومن خلال هذا النقد عدّد ثلاث مشكلات أخطرها تلك التي تتعلق بالفعالية السياسية لاقتصاد العولمة، فرأسمالية العولمة هي مصدر الثراء الناشئ المتنامي، وفي الوقت نفسه لضروب من التوتر حيث لا يمكن الحفاظ على شرعية الأسواق المعولمة في الوقت الذي لا يستفيد منها إلا خُمس سكان العالم. وفي العقد الأخير خصوصاً برزت سلبيات العولمة في ضوء المنافسة غير المقننة وحماية رؤوس الأموال، ما تسبب في الحاق أضرار متعددة بالأفراد والمجتمعات. وبهذه الصورة يمكن القول إن هذه الظواهر السلبية تمثل تطرفاً يشبه في حدته تطرف النظم السلطوية واقتصاد الأوامر. هذه المشكلات التي واجهت العولمة الاقتصادية لم يهتم أحد بها ولا بالحلول المقترحة لها في غمار انهمار التراكم الرأسمالي المهول على الشركات الدولية الكبرى وعلى اقتصادات الدول العظمى مثل الولاياتالمتحدة إلى أن وقعت الواقعة وحدث الانهيار الكبير في الاقتصاد الأميركي وهو ما يكشف عن هشاشة الرأسمالية كنظام اقتصادي وعن لا عقلانية أهدافها التي تتمثل في التراكم الرأسمالي غير المحدود وفي عدم أخلاقية توجهاتها التي تقوم على استغلال الشعوب. عندما ظهرت الأزمة المالية العالمية التي هزت الاقتصاد الأميركي وامتدت إلى الأسواق والاقتصادات العالمية، ظهر الجدل حول ما إذا كانت أزمة مالية أم هي أزمة الرأسمالية. حول هذا الجدل يخصص السيد ياسين الفصول الأخيرة للكتاب، ويعدد الآراء ووجهات النظر التي قيلت في هذا الشأن ما بين من اعتبروها أنها أزمة شاملة للرأسمالية، وأورد آراء شخصيات مثل ساركوزي حين قال إن «عصر الرأسمالية انتهى»، وآراء بيل غيتس الذي نفى في شكل قاطع أننا نواجه أزمة للرأسمالية، وهو رأيّ يمثل الأقلية التي ترى أن ما حدث هو مجرد أزمة طارئة سريعاً ما سيبرأ منها الاقتصاد الأميركي. أما غالبية المفكرين، فيعتبرون أن ما حدث يمثل أزمة حقيقية للرأسمالية وإن كانوا يختلفون حول ما إذا كانت الرأسمالية تستطيع من خلال إجراءات وسياسات جديدة النجاة منها أم أنها نهاية النهاية للرأسمالية كنظام اقتصادي وإن كان لا يبدو في الأفق ملامح واضحة لنظام اقتصادي بديل. وبين هذه الآراء يستخلص ياسين أن هناك تفسيراً لا خلاف في شأنه مؤداه أن هذه الأزمة يمكن ردّها إلى النظام الفوضوي للإنتاج الرأسمالي وأن هذه الفوضى تتمثل في الافتقار إلى التنظيم regulation وإلى الشفافية وإلى المحاسبة، وبعبارة أخرى هذه الرأسمالية تفتقر إلى التخطيط. ويذهب إلى أن ليس من السهل التنبؤ بمصير الرأسمالية، غير أنه يمكن التأكيد أنها إذا استمرت باعتبارها نظاماً رأسمالياً كونياً، فإن النتيجة ستكون العجز عن وضع ضوابط للنشاط الرأسمالي وزيادة النزعة الاحتكارية والنفوذ السياسي. ويخلص ياسين إلى أنه أياً ما كان الأمر، فإنه إذا تركنا تضارب التفسيرات الاقتصادية جانباً وأهمها هل هي أزمة عابرة ستنجو منها الرأسمالية أم هي نهاية - بالمعنى التاريخي للكلمة - لهذا النظام فيبدو أننا في حاجة إلى تحليل ثقافي للأزمة يلقي الضوء على جوانبها المعتمة التي لا تستطيع - بحكم طبيعتها القاصرة - أن تضيئها التفسيرات الاقتصادية التقليدية سواء صدرت من أهل اليمين أو من أنصار اليسار. وهكذا يقدم لنا ياسين في هذا الكتاب مسحاً فكرياً لاثنتين من الظواهر الكبرى التي تشغل العالم: الأزمة التي تحيط بالعولمة التي تمثل عملية الانتقال الحضاري الكبرى من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، وبتناقضاتها والتحديات التي تمثلها، خصوصاً بالنسبة إلى الدول النامية والمجتمع المصري، أما القضية الثانية فهي الأزمة التي تعيشها اقتصادات العالم نتيجة الأزمة المالية العالمية التي هزت اقتصادات العالم وما تثيره من أسئلة حول مصير الرأسمالية كنظام اقتصادي عالمي وإذا كان مستقبل هذا النظام سيظل موضع جدل، إلا أنه في ما يخلص ياسين، فإن مراجعة أيديولوجية بالغة العمق لا بد من أن تنطلق من الآن لصوغ مذهب اقتصادي عالمي جديد. * المدير التنفيذى للمجلس المصري للشؤون الخارجية.