التعامل مع كل جديد بالشك والريبة أو بالرفض والمقاومة ليس مستحدثا، خاصة إذا كان يرجى منه الخير والنفع، فلقد واجهت دعوات الرسل - عليهم السلام - في بداياتها سدود الممانعة وحوائط المقاومة، وعلى نمطها سارت نداءات المفيد من التطوير، ولم تكن معاناة رواد تطبيق الجودة بدعة ولا غرابة، ولعلنا نسوق أمثلة لأربعة منهم لإظهار ما لاقوه من عنت وما قابلوه من صعوبات، رغم نبل الهدف، وشرف المقصد. أولهم هو "إدواردز ديمنج" الذي أراد أن يسوّق مبادئ وطرق جودة الصناعة لأصحاب الشركات العملاقة في الولاياتالمتحدة فلم يلتفت إليه أحد، فأرسلته حكومته إلى اليابان للمساعدة في إجراء التعداد السكاني بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأ يدرّس لأعضاء "الاتحاد الياباني للعلميين والمهندسين" مفاهيم الجودة، فوجد استجابة منقطعة النظير أعقبها سيطرة المنتجات اليابانية على شرائح كبيرة من أسواق العالم مقابل انكماش وتدهور الصناعة الأمريكية، ولما عاد للولايات المتحدة ظهر على التلفاز ذات ليلة وقال قولته المشهورة (والتي استعمل الرئيس أوباما شطرا منها في حملته الإنتخابية): "إذا استطاعت اليابان .. فكيف لا نستطيع نحن؟" فجاءه الرد من الأمريكيين: نعم .. نحن نستطيع!، ومن وقتها بعثت روح الجودة في صناعة أمريكا. ثانيهم هو الأمريكي "فيليب كروسبي" الذي نادى بتطبيق الجودة في كل خطوة من خطوات الإنتاج وألا ينتظر للتأكد من جودة المنتج في نهاية التصنيع لأن هذا مكلف جدا إذا ظهر عيب وقتها، وألف كتابا سماه "الجودة مجانية" لحدوث التوفير من جراء عدم إعادة التصنيع، وعانده المصنعون فكتب كتاباً آخر بعنوان "الجودة ما زالت مجانية"، وها نحن نرى آثار عدم الإصغاء إليه (مثلا الأسبوع الحالي استدعت "تويوتا" ما يقرب من 3 ملايين مركبة لتعديل أخطاء في تصنيعها، ونسمع عن مثلها باستمرار). ثالثهم "إجناك سيميلفايس" الهنغاري الذي لاحظ انتشار حمى النفاس في النساء بعد الوضع، ثم إنخفاض الإصابات لدرجة إنعدام حدوث المرض بعد الالتزام بغسل اليدين عند فحص الوالدات، فقابله زملاؤه في المجر ومعظم أوروبا بالسخرية وعارضوه وتآمروا عليه وأدخلوه مستشفى الأمراض العقلية في بودابست ليموت بعد أسبوعين من دخوله المصحة من أثر ضرب الحراس له، لكن السلطات الحاكمة في المجر كفّرت عن ذنبها فأكرمت ذكراه بإطلاق اسمه على جامعة العاصمة بودابست وطبعت صورته على عملات ذهبية وورقية، وأصبح غسل اليدين مفهوماً طبياً لا يستغنى عنه. أما رابعهم فهو أمريكي واسمه "إرنست كودمان"أول من سجّل بيانات المرضى وتشخيص حالاتهم ونوع جراحاتهم وأسماء الفريق الطبي الذي أشرف عليهم ثم نتيجة علاجهم ومتابعتهم بحياد تام وشفافية مطلقة، وأسس كلية الجراحين الأمريكية، فواجهه زملاؤه بالعنت والنبذ، ومات معزولا فقيرا معدما، ليكرم فيما بعد برائد الطب المبني على البرهان وجائزة سنوية تحمل اسمه. ليت الأفكار حديثة الطرح توضع لها سياسات وإجراءات وآلية، من خلالها تلقى نظرة فاحصة من لدن خبراء نزيهين، وتحظى بلفتة صادقة من قِبل متخصصين موثوقين، تأخذ حقها وتقييمها بناء على مقاييس ومعايير، لا يدخل فيها عنصر الهوى أو الحقد أو الغيرة، من قبل أن تجد مصيرها في أدراج النسيان أو سلات المهملات. *وكيل كلية الطب للشئون السريرية جامعة الملك خالد