سبق لي في الحلقة الثالثة أن ذكرت ست فوائد من الفوائد التي ظهرت لي من تلاوة سورة يوسف.. وفيما يلي أورد ما تيسر لي من فوائد أخرى. الفائدة الأولى: تطبيق يوسف عليه السلام قاعدة ترك أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما فقال تعالى على لسان يوسف: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) فقد قارن بين مصلحة في حريته خارج السجن والحال انه معرض من قبل النسوة بالافتتان والغواية، وبين دخوله السجن ونجاته فيه من الغواية والفتنة فرأى أن السجن أحب إليه لحصوله على الطهارة والحصانة والبعد عن غواية النسوة والافتتان بهن فاختار السجن وقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. الفائدة الثانية: تطبيق يوسف عليه السلام قاعدة ارتكاب أدنى الضررين لتفويت أعلاهما. فقد علم بما يعامله إخوانه أخاه من سوء المعاملة. قال تعالى على لسان يوسف (قال هم علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) فقد رأى أن تعريض سمعة أخيه بالسرقة غير الصحيحة أهون ضرراً من وجود أخيه معهم في معاملة سيئة فجعل السقاية في رحل أخيه وفي حال اتهامهم بالسرقة استخرجها من وعاء أخيه. وقد أتفق معهم قبل التفتيش على المرجع القضائي في معاقبة السارق وتحوله من حر إلى رقيق لمن سرق منه قال تعالى: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه). الفائدة الثالثة: الشاهد من أهل امرأة العزيز لم يشهد على مشاهدة وإنما وجّه النظر إلى حال يمكن أن يستظهر منها ما يدل على كذب الدعوى مما تقتضيه الأحوال والظروف. ولو قال الشاهد بأن امرأة العزيز هي التي أرادت السوء بيوسف لكان هناك مجال لتكذيبه - أعني الشاهد - ولكنه جاء بلفت نظر من كان أهلاً للفصل والقضاء إلى النظر في الحال وواقع الأمر واستنتاج ما يدلان عليه مما لا علاقة له بشهادة الشاهد على المشاهدة. الفائدة الرابعة: لما أمرت امرأة العزيز يوسف بالخروج على النسوة وخرج ورأينه وقلن (حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) ومن المعلوم أن البشر لم يروا الملائكة وأن خلقهم متميز من حيث الجمال والكمال وحسن القوام. فلعل تعبير النسوة بقولهن: إن هذا إلا ملك كريم. مراده أن هذا الغلام قد بلغ من الجمال والكمال ما لايكون مثله للبشر. ومثل ذلك - والله أعلم - قول الله تعالى: وعبقريّ حسان. وقد ذكر أهل اللغة أن العبقري لفظ لا يتصور له معنى محسوس. إلا أنه يلفظ ويقصد منه المبالغة في كمال معناه والله أعلم. الفائدة الخامسة: يلاحظ القارئ الفرق في التعبير بين الأسلوبين في إخبار أبناء يعقوب أباهم ففي إخبارهم أباهم أن الذئب أكل يوسف كان في كلامهم معه ثغرات تدل على كذبهم ومحاولتهم تغطية هذا الكذب بالتأكيدات التي تذكر بقول العامة: كاد المريب أن يقول خذوني ومن ذلك قولهم: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين فأدرك يعقوب عليه السلام مكرهم وكذبهم وقال: بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل. وأما إخبارهم أباهم عن أخي يوسف وما حصل له ومنه فقد كانت لهجتهم في الإخبار صادقة وبريئة، وهم بهذا الإخبار يتذكرون كذبهم على أبيهم في خبر يوسف ودعواهم أن الذئب أكله. فقد بذلوا أقصى جهدهم في إقناع أبيهم بصدق خبرهم عن أخي يوسف وقالوا بعد ذلك (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون). وأرى أن هذا الاختلاف بين الخبرين والصيغتين المعبرتين عنهما تعطي الدراسات التحقيقية نماذج من أسباب التصديق والتكذيب في الإخبار. الفائدة السادسة: يعقوب عليه السلام استجاب لأبنائه في رغبتهم أخذ أخيهم من أبيهم - أخي يوسف - للسفر به معهم إلى مصر للاقتيات مع أنه يعرف حالهم ومكرهم مع يوسف فكيف صارت منه الاستجابة لهم بذلك؟ الذي يظهر - والله أعلم - أن يعقوب عليه السلام واقع تحت ضغط الحاجة الملحة إلى الطعام. وما رأى من أولاده من قوة الإلحاح عليه بالاستجابة، وأنهم لا يستطيعون الذهاب بدونه لرغبة العزيز في حضوره معهم وأنهم سيحرمون من الامتيار إن لم يحضروه معهم. يضاف إلى ذلك إيمانه بربه واعتماده عليه وأخذه العهد منهم ليحضرنّه معهم إلا أن يحاط بهم. والله أعلم. هذا ما تيسر ذكره في هذه الحلقة والله ولي التوفيق.