يحوي كتاب "نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة" للتنوخي قصصًا منوعة وطريفة، وأذكر أني قرأت قبل سنوات طويلة فيه قصة لرجل يعمل مع العساكر في الميدان قرب بلاد الأناضول. وسأروي هذه القصة من الذاكرة مركزًا على جذر الحكاية دون تفاصيلها. تقدم القصة رجلا سئم من العمل ولم تعجبه حاله بسبب الفقر وقلة ذات اليد، وكان له مظهر جميل، فذهب ذات يوم إلى مجموعة من الجنود الجالسين يريد أن يطلب منهم مالاً، وكان لابسًا رداء طويلا وغطاء على رأسه ومعه عصا يتوكأ عليها، ولمّا أقبل عليهم، وقفوا احترامًا له، وشعروا بهيبته، فبدأ كل واحد يقدّم له التحية والإجلال والخضوع اعتقادًا منهم أنه شيخ مبارك. وحينما وجد منهم هذا التصرّف استجاب له بسرعة، وبدأ يتنحنح ويحوقل لكي يعطي نفسه هذه الصفة التي اعتقدها فيه الجنود. وراح الجنود يصغون إليه بشغف، وفي هذه اللحظات لم يكن في ذهنه أي شيء يقوله، فبدأ يتكلم عن الخير الذي ينتظر الإنسان الصالح وعن الشر الذي ينتظر الإنسان الفاسد. وسأله أحد الجنود إن كان يعرف الإنسان الصالح من الفاسد، فتعلثم هذا الرجل ولكن أحد الجنود ذكر أن المقربين من الله يرون في المنام ما يجعلهم يعرفون ما لا يعرفه غيرهم من أمور سرية. فالتقط عقله هذه الفكره بسرعة، وتفرس في وجوه الجنود للحظات ثم طلب أحدهم لكي يتفرد به على حده، وهمس في أذنه بأنه رآه البارحة في المنام وهو سعيد، وأنه جاء إلى هنا خصيصًا لكي يبشره بهذه البشارة الجميلة. فابتهج الجندي حتى كاد يطير من الفرح وراح يتلمس جيوبه واستخرج كل ما فيها وسلمها لهذا الرجل الذي جلب له البشرى بالخير. ولم تقف القصة عند هذا الحد، بل إن هذا الرجل، وجد في هذه الطريقة أسلوبًا ممتازًا للتكسّب المالي، وراح في كل مرة يزور مجموعة من الجنود ويمارس معهم ما حصل له مع الجنود السابقين، وينتهي بكسب من المال حينما يبشر أحدهم بأنه رآه في المنام سعيدًا. ويذكر المؤلف، أن هذا الرجل صدّق أنه بالفعل من المقرّبين إلى الله، وصار مؤمنًا بأن لديه قدرات خارقة لجلب الخير والسعادة إلى الناس مقابل ما يهبونه إليه من مال. ولم يأت أحد ليخبره بحقيقة نفسه أنه في الأصل وصل إلى هذه الطريقة عن طريق الحيلة لكسب المال واستغفال الجهلاء. وما حصل لهذا الرجل يحصل مع كثيرين، ممن يمارسون عملا بالصدفة ثم يجدون فيه مكسبًا معنويًا أو ماديًا، ويستمرون فيه اعتقادًا منهم أنهم بالفعل عباقرة أو يملكون قدرات خارقة لا يملكها غيرهم من البشر. يصف الباحث "ديفيد نوغل" رؤية العالم عند الإنسان بأنها بمثابة الشاشة التي تتلون بألوان، بعضها يقبل التغيير وبعضها لا يقبل التغيير بحسب القدرات العقلية والنفسية للإنسان. ويجد أن هناك ثلاث مراحل رئيسية لتكوين رؤية العالم عند المرء، أولها مرحلة يدرك فيها على وجه الحقيقة واليقين أنه يكتسب رؤية جديدة، كما يفعل الممثل في الفيلم أو المسرحية حينما يتقمّص دور شخصية يمثلها، فهو يعي جيدًا أنه يملك شخصية أخرى غير شخصية التمثيل. ولكن المسرحية محكومة بوقت وظروف محدودة، تنتهي فيها مرحلة التقمّص بانتهاء المسرحية أو الفيلم، في حين أن المرء في الحياة قد يقع ضحية للتقمص لفترة طويلة ربما تستمر معه طوال العمر دون أن يكتشف أنه يلبس قناعًا يُخفي حقيقته. والمرحلة الثانية هي نتاج لما قبلها، إذ يجد المرء مصالح تعود عليه بالنفع من هذا التقمّص، وبسبب التكيف مع الدور الجديد وإتقانه، فإن العقل يصل إلى قناعة بأنه قد خُلق لهذا الدور وخاصة إذا حظي الشخص بدعم جماهيري يجعله لا يرى إلا ما يراد له رؤيته. وهنا يفسّر "نوغل" الشاشة التي تلونت بلون لا يمكن تغييره؛ ولهذه المرحلة إيجابيات كثيرة كالإخلاص والتفاني، لكن عيبها حينما يتورط الشخص في دور سلبي، ومع هذا الصنف من الشخصيات تأتي المرحلة الثالثة التي يمارس فيها المرء سلوكًا نابعًا من قناعة تامّة بما يفعل؛ لأن ما يصدر منه نابع من رؤية خاصة للعالم عنده. وليس غريبًا لمن تلونت رؤيته للعالم بلون ثابت أن يعتقد في ذاته اعتقادات خارقة كما هو حال بطل القصة السابق، وهي حال نجدها متكررة مع شخصيات كثيرة نتعامل معها في الحياة، ممن يجدون في أنفسهم التميز على بقية البشر بمنح ربانية فريدة، وعند تأمل تلك المنح نجد أنها لا تعدو - في الغالب - أن تكون من إنتاج عقولهم.