لم يتنبه أحد لمقدار الشد والجذب الذي نعيشه بدواخلنا فقط حينما نغلق الأبواب على أنفسنا، فنمدد ساقي الصوت العالي على سرير «الشخبطة» التي تكتب هذا وتمحو ذاك.. تحيط بالدوائر على مواقف كنا فيها عادلون، فيما تدفع اليد القلم إلى طمس مواقف كنا فيها غير نحن متناقضين، وجه آخر نبدله بوجوهنا، وصوت آخر غير صوت العقل يطغى على مسامعنا.. أصعب شيء أن يكتشف الإنسان ذاته.. أنه الأكثر اتزاناً وعقلاً وحكمة ورجاحة، لكنه يخطئ فيناقض مايؤمن به في الحياة، وربما أطلق أحكاماً في موقف ما يخالف ماكان ينادي به، إنها الحالة التي تدخل النبلاء في حالة حزن شفاف وخصام مع النفس؛ لأنه يشعر أنّ هناك شيئاً ما يعود في بعض اللحظات ليفسد عليه طريقه الذي رسمه لنفسه في الحياة، يكتشف إذاً بأنه متناقض!! فيسأل نفسه خلسة بعد أن يدس رأسه بين ساقيه -لماذا أنا متناقض- سؤال قد يسأله الأنقياء، ممن تعوّد أن يقيم الحروب مع ذاته يمنحها جائزة أو يقيم لها مشنقة التوبيخ، لكن من الأمور المسلمة بها في الحياة أن ليس الجميع من الناس من إذا شعر بالتناقض في سلوكه فإنه يقف قليلاً في منتصف الطريق فيعيد حساباته، ويسأل نفسه ذات السؤال (السر) لماذا أنا متناقض؟، فهناك من يدعي المثالية فيناقضها في موقف.. ومن يدعي الصدق فيناقضه في مواقف أخرى..ومن يدعي الشهامة والإنسانية فيناقضها في مواقف أكثر.. ومن يدعي أموراً كثيرة في الحياة فيناقضها باستمرار...والسؤال: كم مرة اكتشفت أنك متناقض؟، وماهو مقدار ذلك التناقض؟، وهل هو فادح وله وجه قبيح وتمنيت حينها أن تقتلعه بداخلك وتركله أم أنه سلوك وتصرفات عديدة تفعلها ولا تعرف كيف؟، ولماذا تفعلها؟.. ربما لأهداف غير شريرة. تربينا على ثقافة «لا أحد يشوفك» و«لا يدري أحد» و«خلك رسمي معه» و«مصلحتي أهم» يعيش المرء حكاية تناقض كبيرة في الحياة، فكل المرايا تشهد أنّ بداخل الإنسان مليون مبدأ ينطلق من خلاله، بحسب الأهداف التي يحب أن يحققها في عالمه، فكلما رغبت بأن تحصل على كل شيء زاد التناقض بداخلك، إنّ التناقض عالمنا الذي نعيش من خلاله، وربما هو السنة الكونية التي تقوم عليها الأشياء والخوارق في العالم، فالقطة تبذل جهداً كبيراً في حمل أبنائها في بطنها وحينما تلد بهم تستعد؛ لأن تنهش كل من يقترب منهم لكنها في مقابل ذلك تأكل واحداً منهم، الزوجة تدور حياتها حول فلك رجل واحد هو زوجها وقد تموت حينما تأخذه امرأة أخرى غيرها لكنها تنتقده طوال النهار مع صديقاتها، والأب يغضب كثيراً من ابنه المدخن ويصفه بالانحراف، وربما طرده من المنزل ولكنه في مقابل ذلك رجل مدخن، إلاّ أن التناقض يدخل في تفاصيل في الحياة أدق من ذلك بكثير في القيم والمبادئ وتحديد الرؤى وربما في مقدار ومعيار الحب والكره والرفض والقبول، فهناك من يفعل فعلاً يعلم بأنه ليس من طبيعته لكنه يفعله وكأنه مرغوم على ذلك –قمة التناقض-...فهل جربت أن ترمي بأعواد ثقاب التناقض من أعلى الضفة لتكون إنساناً بلا تناقض؟ يعيش الكثيرون قصصاً للتناقض في سلوكيات من حولهم، فهناك من يتعبه ذلك التناقض، وهناك من يضحك عليه، وهناك من يخسر من يحب بسببه، في حين يتجاهل البعض ذلك التناقض. يدعي الصدق والشهامة والإنسانية ومواقفه في الحياة على العكس تناقض الزوج وأوضحت «سعاد محمد» أنه ليس هناك أصعب من رؤية التناقض واضحاً أمامك في شخصية من هو قريب منك في الحياة، فزوجي شخص مثقف، عاقل، حكيم، ذو قلب كبير، لكنه متناقض بشكل يدفعني في الكثير من الأوقات للاختلاف معه وربما رغبت في بعض اللحظات أن أنهال عليه غضبا وأصارحه بمجمل التناقض الكبير الذي يعيشه، مضيفة: ففي الوقت الذي يدعو إلى ضرورة أن تتعلم المرأة في الخارج وأن تسافر لإكمال تعليمها لوحدها وبأنه يرى بأن ذلك قمة التفهم يرفض ذلك على ابنته فلا يرغب أن تسافر لوحدها لإكمال تعليمها، وفي الوقت الذي يتحدث كثيرا بأنه يرى بأن حجاب المرأة وكشفها للوجه لايناقض كونها امرأة محترمة ويقبلها يناقض ذلك ويرفض كشف الوجه لزوجته، وكذلك ينادي بأنه يؤمن بأن قيادة المرأة للسيارة من أكثر الأمور العادلة التي لابد أن تتحقق في مجتمعاتنا وحينما أسأله هل ستدعني أقود السيارة إن حدث يغضب ويقول «أحسن أخلعي العباءة «، مجمل من التناقضات توجد في الرجل الشرقي الذي يرغب أن يتاح له كل شيء، لكنه يرفض أن يكون بيته وزوجته وأبناؤه في قائمة ذلك المتاح للآخرين، وهذا قمة التناقض الذي يعيشه المرء مع ذاته. يؤمن بقيادة المرأة للسيارة ويرفض تطبيقها على زوجته وبناته إهدار الوقت وتلتقط منها أطراف الحديث «أم بسام يوسف» التي ترى بأن التناقض لعبة لها قوانينها وسننها وبأنها تتدرج من شخص لآخر، فقد عاشت ذلك التناقض مع مديرتها في العمل والتي تدعو في اجتماعاتها إلى العدل وحب العمل وعدم إهدار الوقت؛ لأنه أمانة وملك لعمل تتقاضى الموظفة عليه أجراً، وذلك مايقال على طاولة الاجتماعات في غرفتها وحينما ننصرف ونحن مشحونون بشحنة الحماس نتفاجأ بأنها تطيل في الهاتف بالساعات الطويلة مع صديقاتها، مضيفةً: أنها تخرج كثيراً لأداء بعض الواجبات المنزلية لأسرتها في أوقات العمل، وربما تأخرت المعاملات الكثيرة المتكدسة على مكتبها والتي تنتظر «توقيعها»، مشيرة إلى أنّ ذلك قمة التناقض في الشخصية فهي ترغب أن يؤدى العمل على أكمل وجه ليقال إنها تدير القسم بشكل جيد في حين لاتقوم هي بعملها كما يجب. د.وهاس: «البرمجة الفكرية» لأحداث الحياة تدفع المرء للتناقض الفكاهة والدعابة وتفضي لنا «عائشة عبد السلام» بحكاية عجيبة يتمدد بها التناقض الموجود في سلوك الإنسان إلى حد الفكاهة والدعابة، فقد تزوج شقيقها الأكبر منذ سنوات طويلة وكان هو الأخ الأكبر بين أشقائها وقد عول كثيراً عليه والداها وحينما تزوج، فرح الوالدان بقدوم حفيدتهم الأولى؛ إلا أنّ الجميع تفاجأ بأنّ ذلك الأخ الأكبر لم يسمِ المولودة على اسم والدته التي حاولت أن تبدي للجميع بأنها غير غاضبة، وبأنها تحب ابنها وحفيدتها حتى إن لم تحمل اسمها، وقد أبدى ذلك الأخ بأنّ زوجته ترغب في الأسماء الحديثة رافضة الأسماء القديمة والتي من ضمنها اسم والدته؛ إلا أنه لم يحاول أحد مناقشته في ذلك التصرف واحترم الجميع قراره على الرغم من امتعاض والده من تصرفه، ومرت السنوات وكبر أبناء ذلك الأخ الكبير وقد تزوج ابنه ورزق بمولودة لكنه لم يسمها على اسم والدته خضوعا لرغبة زوجته التي ترغب باسم حديث لابنتها الأولى، فماكان من ذلك الأخ الكبير إلا أن وبخ ابنه؛ لأنه لم يسمِ مولودته على اسم أمه واصفاً إياه بأنه خروف في يد زوجته تجره كيفما تشاء، وبأنّ أمه غاضبة جداً منه، وإذا لم يغير اسم مولودته ويسميها على اسم أمه فلن يرضى عنه أبداً...فأجابه ابنه «ولماذا أنت يا أبي لم تسمِ على جدتي»؟. مصيدة التناقض وأضافت: لم يستطع أخ عائشة أن يفسر ذلك القدر من التناقض في سلوكياته فما يقبله على نفسه يرفض أن يقوم به أحد غيره من الناس، معتقدة «عائشة» أنّ التناقض فعل في حقيقته ينطوي على الكثير من الأنانية، وأنّ الشخص الكثير التناقض هو الذي لا يعرف ماذا يريد فكلما شعر الإنسان برغبته بتحقيق كل ما يفكر به دون النظر إلى مصالح الآخرين زادت دائرة تناقضه، موضحة أنّ الأسلوب الجيد للتخلص من مصيدة التناقض هو التمرس على لعبة المقاعد، وهي لعبة قديمة كانت تفعل بين مجموعة من الأشخاص يتكاشفون بتبديل مقاعدهم ليتقمص كل شخص شخصية الآخر فيتحدث على لسانه عن الشخصية الأخرى فيكشف مقدار التناقض الذي يعيشه، مضيفة أننا جميعا نحتاج أن نبدل المقاعد ونخلع الأقنعة ونتحدث بشفافية عن عيوبنا وأخطائنا وتناقضنا، وإذا صعب ذلك أمام شخص مقرب فليكن أمام المرآة المعلقة على الحائط فهي لا تكذب. الثوابت الاجتماعية ورأى «د.سعيد وهاس» -أستاذ مشارك واستشاري بمعهد العلوم العصبية بمدينة الملك فهد الطبية- أنه لا يوجد تعدد في الشخصية الواحدة إلا في الحالات المرضية، فالتناقض هو في حقيقته سلوك فشخصية الإنسان واحدة عادة ماتحمل الكثير من التناقض في السلوك والتعامل مع الآخرين، موضحاً أنّ مايحمل الإنسان على أن يكون شخصا متناقضا في الحياة هو برمجته الفكرية لأحداث الحياة، فالتناقض أمر ليس عفوياً وليس أمراً اعتباطياً فلا يأتي من فراغ بل يأتي من جملة من الأهداف وهذه الأهداف هي ماتمثل برمجة الإنسان الفكرية للأحداث التي يعيشها فالشخصية واحدة يلونها بعدة ألوان حسب المواقف، وهذا يأتي من تفسيره لتلك المواقف وليس من المواقف نفسها، معتبراً ذلك من أخطر القضايا على الإطلاق، مؤكداً على أنّ السلوكيات توزع بين الناس فلا تخلو شخصية من التناقض، وهذا جزء من الطبيعة البشرية، فالتناقض سمة من سمات البشر، ولكن الاختلاف يأتي في درجة ذلك التناقض. سلوك غير طبيعي وأوضح أنّ التناقض سلوك غير طبيعي لكن لا أحد يستطيع الخروج عنه، والتخلص منه فالجميع لديه قدر من التناقض فالمثالية غير موجودة، مشيراً إلى الحالة التي على الشخص الذي يشعر بأنه على قدر كبير من التناقض الذي لابد أن يستشير المختصين في المجال النفسي تكمن في ذلك التناقض الذي يوصل الإنسان إلى درجة المعاناة؛ مصنفاً المراحل التي يتدرج فيها الشخص المتناقض والتي تبدأ من المرحلة التي ذكرها سابقا والتي تتمثل في أنه لايوجد شخصية ليس لديها تناقضا وإنما الاختلاف في الدرجة، ثانياً: التناقض هو يخدم أهدافاً فكرية للشخص وليس مرتبطاً بالأحداث الخارجية، ثالثاً: حينما يتفاقم التناقض ويتحول لمعاناة فلابد من الاستشارة النفسية، مشيراً إلى أنّ نسبة مايحمله المرء من ثقافة ومعرفة وكذلك طبيعة المناخ الاجتماعي الذي يحيط به له دور كبير في تحديد مقدار التناقض بداخل الشخصية، فالثوابت الاجتماعية متناقضة في الأصل وذلك على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة وبالتالي يجعل ذلك الأفراد يتلونون بحسب ذلك القدر من التناقض بحسب الظروف الاجتماعية وطريقة التربية، فكل شيء يحمل جزءاً من التناقض فحتى المناهج الدراسية هي في حقيقتها متناقضة، فالمعلم يتحدث عن المثالية، وهو يسيء التصرف فيتعلم التناقض منه الطالب، والطبيب يأمر بعدم التدخين وهو مدخن فيتعلم المريض منه التناقض، موضحاً أنّ الشخص الذي يحمل بداخله جزءاً من التناقض فإنه يسقط هذا التناقض على الآخرين، ولذلك فإنّ الشخص العقلاني هو من يستطيع أن يحد من عالم التناقض بداخله، فالشخص الذي يفكر بشكل عاطفي يكون في قمة التناقض في الحياة.