يعيش الإنسان في بعض الأحيان محصورًا داخل صندوق أفكار ليس من صنعه ولا من اختياره، ويصبح أسيرًا لأوهام ومخاوف وعواطف تُخلق تدريجيًا ثم تنمو وتترسخ. وفي هذه الحال، فإن استقلالية العقل عن العواطف تكون مفقودة ويصبح أسلوب حياة الشخص، وطريقة تفكيره لايخرجان عن ذلك الصندوق. وإذا كان الخوف من الغرائز الأساسية عند الإنسان، فمن النادر أن تجد أحدًا سويًا لايعرف الخوف. لكن درجات الخوف تختلف بين الناس حسب مستويات متفاوتة ومتنوعة تحكمها عوامل كثيرة؛ أبرزها ثلاثة عوامل هي: التجارب السابقة للإنسان، ونمط الرؤية التي يملكها المرء، يضاف إليهما طبيعة العلاقة مع الأشخاص والأشياء. ويصبح الخوف مشكلة إذا تملّك عقل الإنسان وأصبح مرافقًا لكل ما يراه وما يسمعه وما يفكر فيه، وحينها فإن الواقع يختفي ويأخذ الوهم مكانه. وقد يكون الوهم المعتمد على الخيال بديلًا كليًا أو جزئيًا للواقع؛ ويمكن أن يعيش الشخص الخائف هذا النوع من "الواقع" لفترة طويلة ويؤسس حياته كلها، ويرفض أي واقع آخر خلاف مايراه داخل عقله. ولأن الخوف لاحدّ له، فإنه قد يمتد عند البعض إلى مسافات بعيدة حسب اتّساع الخيال. وإذا نظرنا في كلمة "الخوف" في القاموس النفسي نجد أنها مرتبطة بعبارة إنجليزية هي قولهم: (Fake Evidence Appear Real) والتي يمكن ترجمتها بشكل مبسط إلى «الأدلة المزيفة التي تظهر وكأنها حقيقية». وكما نقول في المثل الشعبي: «اللي يخاف من الشيطان يطلع له». إن الخوف يتغذّى على نفسه ويحفر مخاوف أعمق فيصبح معضلة لايمكن أن يتخلص منها الإنسان بسهولة لأنه يتشبث بأمور يمنطقها العقل، وبذلك تكون أمامه الصورةُ العشوائية المفككة هيئةً منتظمة ومفهومة؛ ويكون خوفه أمام نفسه على الأقل مبررًا، بل وضروريًا. ولكن الحقيقة هي أن واقع حياتنا يحمل أمورًا بعضها منطقي وبعضها غير منطقي. ولأن الله أنعم على الإنسان بالخيال، فإن للخيال حدًا يمكن أن يُدمّر حياتنا، إذا عمل التوهم عمله فينا، فرحنا نتكهّن أمورًا لم تحصل ونعتقد أنها حصلت، ثم يقوم عقلنا بربط الأشياء ببعضها بشكل ذي معنى، فتبدو لنا تلك الأوهام على أنها حقائق ولا نُصدق شيئاً سواها. وقد شاهدت مؤخرًا فيلمًا بعنوان "القضية رقم 39"، أو «Case 39» بطولة الممثلة الأمريكية رينيه زيلواقر والممثل برادلي كوبر، وهو فيلم يمكن تصنيفه تحت أفلام الرعب والإثارة. تدور قصته حول سيدة تعمل أخصائية اجتماعية تعطف على فتاة عمرها عشر سنوات بعدما علمت أن والديها حاولا تعذيبها عن طريق شويها بالفرن لاعتقادهما أنها شيطان، وقد أخذتها لتعتني بها لفترة محدودة إلى أن توجد عائلة تتكفل بها. ومع تطور أحداث الفيلم تبين للأخصائية الاجتماعية أن هذه الفتاة الصغيرة صاحبة الوجه البريء ليست إلا "شيطانًا" يسير على الأرض؛ فهذه الفتاة التي تبدو بريئة ومألوفة لنا إنما تقوم بقتل الناس عن طريق إثارة مخاوفهم واستفزاز عواطفهم. إنها تجعل الشخص يُصاب بالوسواس الذي يحمله على أن يقوم بعمل شيء مرعب ضد أشخاص آخرين أو حتى ضد نفسه، وبذلك تتخلص منهم. حاولت الأخصائية الاجتماعية التخلص من هذه الفتاة بإغلاق الأبواب عليها وتهديدها لكن قوة خارقة كانت تساعد هذه الفتاة لفتح الأبواب ودفع الأشياء بقوة غير متوقعة من طفلة مثلها. وقد انتهى الفيلم حينما حاولت البطلة أن تقضي على هذه الطفلة بحرقها وهي نائمة في المنزل، وبعد دمار المنزل تظهر الفتاة وهي تضحك ولم تصب بأي أذى. ثم حاولت وضعها في السيارة لكي تتحطم ولم تفلح، وأثناء قيادة هذه الأخصائية للسيارة بسرعة جنونية والطفلة تطلب منها الهدوء تذكرت تمامًا طفولتها وما حصل لها من أحداث مشابهة مع أمها، وكأن هذه الطفلة ليست سوى رمز لطفولة الأخصائية نفسها. وبعد حصار مع العقل، وجدت الأخصائية أنها لن تستطيع التخلص من هذا الشيطان الصغير مالم تتخلص هي أولا من مخاوفها وآلامها التي عذبتها منذ مرحلة الطفولة، وحينها أصبحت أقوى، وظهر لها الواقع أكثر وضوحًا فعرفت كيف تتخلص من شر هذا الكائن؛ بإغراقها في البحر والنجاة بنفسها. لقد نجح المخرج في إظهار هذه الطفلة على أنها معزولة عن الناس وكأن الفيلم يهدف فقط إلى الرعب، والواقع أن هذه الطفلة تجسد بحد ذاتها مخاوف الإنسان؛ فهي من الخارج تتسم بالبراءة والضعف الذي تختبئ وراءه بشاعة تحملها هذه الطفلة في داخلها فتصيب الحياة الطبيعية بالشلل. إن الخوف حينما يخرج عن سيطرة الإنسان يشل ذهنه ويشوش أفكاره، ويعبث بمشاعره ويجعله يتخبط بأقواله وأفعاله؛ فتارة يعيش في شك مقيت وتارة أخرى في عزلة ووحدة، وربما يتخطى هذا إلى العنف والاعتداء في محاولة للمحافظة على النفس من أذية الآخرين المحتملة. الخوف بطبيعة الحال هو شعور مهم للبقاء على قيد الحياة، فلولا الخوف من الأذى والألم الجسدي لما حاول الإنسان أن يجد لنفسه طرقًا آمنة للعيش تكون في منأى عن الأخطار؛ ولولا هذا الخوف لأصبح مصير الإنسان معلقًا باعتباطيّة أفعاله فيكون عرضة للمصائب لأنه لم يختر البيئة الآمنة لحياته؛ ولولا الخوف من ألم النفس وحرمانها لما حافظ على حياته الخاصة والاجتماعية، ذلك أن البقاء على قيد الحياة وبصحة نفسية وجسدية جيدة هو الدافع الطبيعي للخوف الصحي لدى الإنسان. ولكن حينما يتعرّض البعض لصدمات نفسية ومواقف تعصف بعواطفهم وتغير مسار حياتهم، فإن ما يرتبط بذلك من خوف يكون قد تجاوز الحد الطبيعي، ويصبح هذا النوع من الخوف المرضي ليس سوى كائن ضخم له أذرع وأرجل يتنفس طوال الوقت من أفكار الشخص نفسه؛ فيصبح الشخص - وهو تحت وطأته - مصيبة على نفسه، يتملكه الرهاب وتضيع أولوياته، ويتقوقع على ذاته حتى تندمل حياته ويصبح أمله في الخلاص هو الهروب من الحياة حسيًا بالموت أو معنويًا بالعيش خارج الواقع. إنّ فيلم "القضية 39" يحمل رسالة أخلاقية ذات قيمة عالية في منظومة التعامل الإنساني بين البشر؛ وهو التعامل الذي يبدأ بتعامل المرء مع نفسه ثم تعامله مع غيره من الأشخاص ومع الأشياء من حوله ومع الأفكار ومعطيات الحياة الأخرى. يريد الفيلم أن يقول لنا إن أعظم انتصار يمكن للإنسان أن يقوم به هو أن يهزم مخاوفه الداخلية؛ وحينها فقط سيشعر بالحريّة ويصبح مستعدًا ليعيش بسلام. وهذا هو ما انتهت إليه بطلة الفيلم (الأخصائية الاجتماعية) وهي تتطلع إلى الأفق في جلسة هادئة أمام البحر؛ وكأنها الآن صارت قادرة على خوض هذه الحياة والعيش فيها براحة. ولأن عقل الإنسان يمثل طاقة مهولة فإن الإنسان بإرادته يستطيع استثمار هذا العقل نحو البناء والتفاؤل أو استخدامه في البؤس والتشاؤم. وهنا تظهر لنا الحرية الحقيقية التي تنبع من القدرة والإرادة، وهي حرية توجد داخل عقل الإنسان وليست في جسده ولامحسوساته. ومن الطبيعي أن الشخص الذي لايقدر على فهم الحرية لن يعرفها، ولن يُقدّرها حتى لو وقفت أمام عينيه. لقد كانت رسالة الفيلم الإيجابية موجّهة للأشخاص التعساء في هذه الحياة لكي ينقذوا أنفسهم من أنفسهم. وليعلم المرء أنه إذا أصرّ على البقاء حبيس عقله ومخاوفه وتوهماته، فإن الحياة سائرة (بوجوده وبعدمه)، وستتركه يجلس القرفصاء حيث الظلام والعدم. وإذا كان التحرّر من الخوف الداخلي والتخلّص من عبء الذكريات السيئة ليس مقدرًا للجميع، فإن لكل إنسانٍ الحق في أن يحصل - على الأقل - على الفرصة لفعل ذلك.