"أكتب لك بالقلم الرصاص علامة الحب والإخلاص".. "أكتب لك بالمقلوب ليبقى الحب في القلوب".. عبارات وجمل طالما رسمتها "بنات المدارس" في فترة السبعينات حتى آواخر التسعينات الميلادية، على صفحات "سجل الذكريات"، ذلك الكتيب الصغير الذي يخفي بين دفتيه آهات الفراق ولهيب الأشواق، تتناقله "بُنيات" ذلك الزمان بين الفصول والردهات ليسلمهنه لزميلاتهن أو معلماتهن، وليس ذلك لحل الواجبات ومتابعة الدروس والأعمال المدرسية، بل لنقل مشاعر الود والاحترام وصادق المعزة والإخلاص بين بنات عز عليهن ألاّ يتقابلن بعد المرحلة المتوسطة أو الثانوية، إدراكاً منهن أن فتى الأحلام سيطرق باب "الخطبة" عما قريب لتنشغل كل واحدة منهن بحال زوجها وأبنائها في جو أسري لا يدع للزمالات ولا تبادل الزيارات مساحة ومتسع من الوقت، لتكتفي هذه "العروس" حديثة العهد بالمسؤولية بذكرى صديقات كن يحملن لها معاني سامية في الوفاء والود والإخلاص، وإن كانت الأجساد قد تباعدت وتباينت بتباين دروب الحياة، فإن العزاء لهذه "السيدة" أو تلك يكمن فيما تحتويه صفحات سجل لها كانت تحمله أيام الدراسة، اتفقت هي وقريناتها من "بنات" ذلك الزمان على تسميته ب "الأتوجراف". أدب الإخوانيات كانت النساء في الأزمنة الساحقة يتبادلن صادق الود فيها بينهن عبر الزيارات واللقاءات المتبادلة، إذ لا وجود لصخب المدينة ورتابة الحياة المدنيّة، ففي البراري والقرى والهجر وحتى المدن الصغيرة، كان ولا يزال الأفق واسعاً للقاءات المتبادلة سواء في المرعى أبان الرعي، أو وقت جلب الماء من الآبار، أو حتى في المزرعة وعند جمع ودق الحبوب، كانت فتيات ذلك الزمان يعبّرن عما يجول بخواطرهن وما يخالج صدروهن بأبيات الشعر والقصيد، الذي كان متنفسا للرجال كما هو للنساء، وكانت الواحدة منهن تنقل عبر أبيات الشعر صدق شوقها ومشاعرها لصويحباتها، بل وتنتظر الرد منهن بمثل ما قالته فيهن، وحينها لا تسأل عن المعاني الإبداعية والصور البلاغية فيما يسميه الأدباء ب "أدب الإخوانيات"، وهو في جميع أحواله لا يقف على الشعر والقصيد، بل يتعداه إلى المقامات الأدبية والمقطوعات النثرية، وقبل هذا كانت العرب تطلق اسم "الإخوانيات" على تلك الرسائل الأدبية شعراً ونثراً، المتبادلة بين الأصدقاء والخلان، التي يستحضرون فيها طيب العيش وأيام الود والهناء، مؤكدين الوفاء لها والتزام عهودها. الدفتر لم يخلُ من الرسومات ك «زجاجة عطر» و»قلب طائر» وبعض المقالب بين الصديقات سجل الذكريات وكانت دواوين الأصحاب ومجالس الأحباب، حبلى بأدب المداعبات والمناكفات الشعرية التي تحمل أغراضا شتى في شعر العتاب والتهاني والتعازي، ولأن أدب "الإخوانيات" يشترك مع سجل الذكريات "الأتوجراف" في فلك الرسائل التي تدور بين الصحاب، وتسفر عن مكنون الوداد وسرائر الفؤاد، فقد عُفيت بأن تكون أدباً وغرضاً شعرياً مستقلاً، إذ يبوح من خلاله الكاتب بما لا يبوح به في مقام أو مقال آخر، ولذا قالت العرب: "إن الانقباض يضيع المودة"، وإن كان بعضهم عبّر عن أدب الإخوانيات بأنه أدب الهزل واللعب، فقد جنح في تصنيفه برأي كثير من الأدباء الذين كانوا وما زالوا يرون في الإخوانيات أدباً رفيعاً لا يستشعره إلاّ ذوو الذائقة الأدبية الرفيعة. «البراءة» كانت حاضرة بين طالبات الابتدائي.. «أبلا منيرة يا عيوني ياللي لابسه الليموني» بوح الفتيات مثّل "الأتوجراف" في السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات الميلادية متنفساً صادقاً للتعبير عن المشاعر الفياضة التي تحملها بنات ذلك الزمان بعضهن لبعض، ولذا كان القارئ لمثل هذه السجلات يجد نفسه أمام صور من البوح والمصارحات المطرزة بعبارات وربما عبرات جياشه يبكي لها الشباب الفتي، ويحن لصدى ذكراها كل من عاصر أيامها، فقد كانت الطالبات يتبادل العواطف والمشاعر عبر سطور النثر والشعر، وكانت الطالبة - في كثير من الحالات - تكتب بلا تكلّف، أو تصنّع لزميلتها التي تدرك يقيناً أنها إن استمرت معها في هذه السنة الدراسية الحالية فهي قد لا تستمر معها في قادم السنوات، لذا كان الحس العاطفي وهاجس الفراق حاضراً في معظم الكتابات إذ لا يخلو أي "أتوجراف" من قول الشاعر: أخط يبقى زماناً كتبته وصاحب الخط تحت الأرض مدفونُ أو قول شوقي: دقات قلب المرء قائلة له أن الحياة دقائق ثوان فارفع لنفسك قبل الموت ذكرها فالموت للإنسان عمر ثاني أو بعض العبارات المتنوعة والمسجوعة ك "إذا طال الزمان ولم تروني فهذا خطي فتذكروني". الطلاب يرونه «رخامة» والكتب الدراسية امتلأت بعبارة: «خلاص من حبكم يا زين عزلنا»! اختلاف مرحلتين وعلى الرغم من أن كثيراً من الجمل والعبارات لاسيما المسجوعة منها كانت متداولة ومتكررة في كثير من تلك السجلات، إلاّ إن بعض الطالبات اللائي تعرض عليهن الكتابة أيام الامتحانات أي قبل الفراق المر، كن يستعجلن الكتابة ويضطررن إلى إعادة بعض الألفاظ والجمل المتداولة، ليس ذلك ضعفاً في صدق المشاعر، بل لضيق الوقت الذي سرقته المذاكرة والسهر للامتحان المرتقب، وكانت سجلات بنات المرحلة المتوسطة تختلف شكلاً ومضموناً عنها في المرحلة الثانوية، رغم أن هذه الفوارق لا يلحظها إلاّ القارئ الفطن، بل إن بعضها يبدو واضحاً للمتصفح، حيث تكثر الرسومات والملصقات التي كانت نادرة في ذلك الوقت في سجلات طالبات المرحلة المتوسطة، كما يتضح تكرار التعابير وندرة الجمل الإبداعية والعبارات الإنشائية الطويلة في سجلات طالبة المرحلة المتوسطة، وعلى النقيض ستجد طالبات المرحلة الثانوية اللائي يتفنن في كتاباتهن وتحرص كل واحد منهن على أن تأتي بالجديد، الذي لم يسبق لغيرها أن عبرت عنه، كأن تكتب في بطن غلاف السجل الأخير وتنوه بعبارة: "إن كان أحد يغليك كما أغليك أنا.. فليكتب خلف هذه الورقة"، أو أن تكتب صفحاتها بالمقلوب أو بلغتين ولا بأس - وإن كن طالبات في المرحلة الثانوية - من رسومات تعزيزية ك "زجاجة العطر" أو"مفتاح العواطف" أو"القلب الطائر"، مع ذكر بعض الطرف والملح، إلى جانب المقالب التي من شأنها أن تقلل من هموم الدراسة وآلام الفراق. أبو عواطف يبكي أيام الماضي ويقول: الله حسيبي على «الأوتوجراف» خلى المدامع سيّاله أبلا منيرة أما طالبات المرحلة الابتدائية اللائي كن يرددن بصوت عالٍ أنشودة: طار بها الركبان وعفى عليها الزمان: "أبلا منيرة يا عيوني ياللي لابسه الليموني لابسه الساعة اللماعة تسوى كل الجماعة فقد كان اعتزازهن بأنفسهن يمنحهن الحق في امتلاك "الأتوجراف" الذي يسجلن فيه رسائل الود والشوق بين بعضهن وبعض، ولا بأس معها أن تكتب إحداهن لزميلتها أنشوة "هايدي" أو "لولو الصغيرة" في حال عز التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وما عليك إن تصفحت إحدى هذه السجلات إلاّ أن توسع الصدر قليلاً وتغض الطرف عن الأخطاء الإملائية والتعبير المباشر عن المشاعر والعواطف البرئية. عيب ورخامة وفي مدارس البنين كان للطلاب رأي آخر في "الأتوجراف"، إذ يرى كثيرون منهم أن الكتابة فيه تعد من المعيبات و"خوارم" المروءات، فالطلاب الذين يرون أن التعبير عن المكنونات العاطفية ضرباً من ضرور "الرخامة"، وضعفاً في القلب، لا يستنكفون أن يكتبوا لبعضهم بعضا عبارات ك "زمانك لو صفالك يوم.. فلا تحسب صفالك دوم"، أو "خلصت من جملة الخلان" أو "خلاص من حبكم يا زين عزلنا"، مثل هذه الأبيات وأكثر ستجدها في دفاتر وكتب طلاب تلك المرحلة، بل قد تجد أن بعضهم يجد غضاضة في أن يستدعى والده إلى المدرسة، أو أن يرفع لولي أمره استمارته الشهرية للتوقيع عليها بزعم أنه سيد نفسه. كان حال الطلاب مع "الأتوجراف" يختلف باختلاف الفوارق الاجتماعية بين الأبناء والبنات، فالطالب الذي يجتمع بأقرانه في الشارع طوال اليوم ليس مضطراً لأن يقضي الساعات الطوال في مكالمة زميل له عبر الهاتف كما كان حال الطالبات، وهو على هذا الحال يستعيض أصدقاء الحارة بزملاء المدرسة، ولا بأس أن يجمع بينهما، ورغم أنه - في كثير من الحالات - يرى "الأتوجراف" خاصاً بالطالبات اللائي لا يتسنى لهن في معظم الأحوال الالتقاء بعضهن مع بعض ما عدا في المدرسة، إلاّ أنه مع هذا يلجأ في التعبير عن مشاعره الفياضة تجاه "شلة الأصحاب" بكتابات على بعض جدران الحي، توحي بديمومة الصداقة وسمو العلاقة، لكن بعبارات تشبع غرور الشباب وغطرسة المراهق. فيس بوك وبيبي "أبو عواطف" كان له من اسمه نصيب حيث قرر قبل أكثر من ثلاثين عاماً - وبشجاعة منه - أن يقتني "أوتوجراف" يعبر فيه زملاؤه ومعلموه عما يخالجهم من شعور تجاه زميلهم الذي كان شغوفاً بكتابة القصيد والأشعار، ودارت الأيام ونفض "أبو عواطف" الغبار عن سجله القديم، فبكى حين أدرك أن جميع من كتبوا له في سجل ذكرياته لم يعودوا أمام ناظريه ما عدا "أبو نواف" الذي مازال على اتصال به، بل لقد ورث الأبناء علاقة أبائهم فتواصلوا بعضهم مع بعض، لكن هذه المرة أصبح التواصل عبر "الفيس بوك" و"الإيميل" و"البيبي" ورسائل الجوال، أو كما يسميه أبو عواطف "الطواف"، ما دعاه إلى أن يكتب لرفيق دربه "أبو نواف" أبياتاً يشكو فيها صروف الزمان وضعف قيمة الشعر لدى أبناء الألفية قائلاً: الله حسيبي على "الأوتوجراف" خلى المدامع سياله يومه كتب لي أبو نواف يشكي من الشوق وأحواله ساعة لقيته على المشراف يشرب فناجيل وابياله واليوم ورعي معه طواف ويرسل رسايل لعياله ياحسين ضاعت بيوت القاف والشعر ما هو على حاله نهاية وتقنية في أواخر التسعينات الميلادية بدت على "الأتوجراف" ملامح المشيب وعلامات خريف العمر، فقد بدأ الجوال و"الإنترنت" بحلتهما البهية يستشرفان الزمن القادم، ليلغيا ما تبقى من حضارة سجل الذكريات، وليعدا جملة من تقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة، لتغزو بقايا إمبراطورية "الأتوجراف"، وليبقى هذا السجل الهرم محاصراً برسائل الجوال ومدونات "الفيس بوك" والبريد الإلكتروني، تاركاً لعشيقاته من جيل السبعينات والثمانينات اللائي طالما بكين فراق زميلاتهن على صفحاته، أن يبقين الصفحة الأخيرة منه، لبكاء رفيقات دربهن، وأنيس وحدتهن لم لا؟ وقد رسمن على صفحته الأخيرة يوم أن كنا طالبات عبارة ما زلن يتذكرنها جيداً: "عاشر من تعاشر فلابد من الفراق".