تنقل لنا كتب الشعر والأدب كيف كان غزل الأقدمين في العصر الجاهلي وصدر الإسلام مؤطراً بأطر مكارم الأخلاق ومحاسن الأدب والأحساب، وما كان للعربي حينها في باديته وحاضرته أن يتغزل بجارته أو حتى ينظر إليها لسمو خلقة وصادق أدبه، ولعل الشواهد والمنقولات الشعرية والنثرية توحي بأن من عادة العرب أن يقفلوا باب الغزل بالمسارعة إلى خطبة المعشوقة من أبيها، وإن عز الأمر وتباطأ الأب في القبول فيلجأ المحب العاشق إلى خيار آخر هو الوجاهة؛ إذ يفد المحب العاشق على والد المرأة بصحبة علية القوم وكبار أهل الحي والقبيلة؛ فإن تمت الموافقة تحت بند «المواجيب والسلوم» فقد عقد الوفاق وربط الوثاق، وإن لم يتم فهنا ينفتح باب الغزل على مصراعيه. ويبدو أن الشعر في مثل هذه الظروف يمثّل عزاءً للمحبين وسلوة للعشاق المتيمين، ولعلك تجد أن معظم العشاق العرب ممن ذاع أمرهم وانتشر خبرهم هم من أولئك الذين حُرموا من الزواج بمعشوقاتهم؛ إذ لم يتزوج «عروة بن حزام» من معشوقته «عفراء»، ولم يوافق والد «ليلى» على زواج ابنته من «قيس»، كما حُرم «جميل بن معمر» من «بثينة» وحُرم «كثيّر» من معشوقته «عزة»؛ حتى بدت جفوة بعضهم من النساء ظاهرة بصيغة التعميم ولا أدل على ذلك إلا قول ذلك الأعرابي القُح «علقمة الفحل»: فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله فليس له من ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث وجدنه وشرح الشباب عندهن عجيب ولم يكن هذا الافتراء من هذا الشاعر الجلف إلاّ وأداً لحبال العشق وقطعاً لمراسيل الحب والغرام التي لم يكن «علقمة الفحل» أهلاً لها حتى ضلت كتب الأدب تفتقد لقصائده وشعره الغزلي. الغزل العذري كان الغزل العربي في معظم شأنه عفيفا يتسامى عن الفواحش والرذائل، بل يكاد ينحصر في وصف آلام العشق وتباريح الهوى والتعبير عن الشوق والحنين، حتى جاءت رسالة الإسلام فأقرت صور العفاف والأدب في الخُلق والذوق العام، وسمت بمعاني الشعر ولغته، وظهر حينها ما يسمى في الأدب العربي «الغزل العذري»، وهو غزل رفيع يتورع عن الأوصاف البذيئة والأشعار المبتذلة الدنيئة، وهو منسوب إلى قبيلة «عذرة» من قبائل حمير التي اشتهرت بالغزل العفيف. وعلى الرغم من ظهور بعض الشعراء ذلك العصر -الذين مثّلوا حالات منفردة في الشعر الغزلي الصريح - ك «عمر بن ربيعة» ومن ساير طريقته، إلاّ أن الغزل في الشعر والنثر ظلّ في العصور المتقدمة من الإسلام والعصر الجاهلي محافظاً على ضوابطه الشرعية والاجتماعية. ومع بداية العصر العباسي وتوسع الدولة الإسلامية ومخالطة العرب الأعراق والقوميات المختلفة، وانتشار مظاهر الإسراف والترف في معظم بقاع الدولة - لا سيما في بلاط الخلفاء والسلاطين -؛ ظهرت أساليب جديدة في (التشبب) والغزل، خاصة مع انتشار الجواري وازدهار سوق النخاسة والنخاسين التي امتلأت منها قصور الخلفاء والأمراء ورجال البلاط؛ حتى أن معظم القصائد الغزلية في هذه الفترة قيلت في الجواري، بل لقد ظهر المجون في قصائد كثير من شعراء هذا العصر الذين ما زالت كتب الأدب تذكر أسماءهم، وتحكي قصص أماسيهم ومآسيهم، ومع هذا فقد ظل الغزل العفيف متمسكاً بزمام ريادة الشعر الغزلي، لا سيما التقليدي الذي ظل على رباط وثيق بالحنين إلى الحب القديم المتمثل بقول «أبي تمام»: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلاّ للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل هذا الاتجاه لم يرق لأستاذ «أبي تمام» ومعلمه الشاعر «عبد السلام الحمصي» الملقب ب «ديك الجن» الذي رد على «أبي تمام» قائلاً: نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى كهوى جديد أو كوصل مقبل ما أن أحن إلى خراب مقفر درست معالمه كألم يؤهل عشقي لمنزلي الذي استحدثته أما الذي ولى فليس بمنزل شعراء المراسيل ولأن أساليب الغزل ومناجاة المعشوقة اختلفت باختلاف الزمان والمكان؛ فقد ظهر جيل من شعراء العصر العباسي نعتوا ب (شعراء المراسيل)، وهم أولئك الذين ظلوا يتبادلون القصائد مع معشوقاتهم في سرية تامة بعيداً عن عين الرقيب، وإن اجتمعا فسوف يكون للغة الطرف والعينين حديث ساخن، بل سيظل الجميع «سكوتٌ والهوى يتكلم»، ولم يكن هذا إلاّ صورة من صور غزل الزمان الأول الذي تغيّر بتغيّر الأحوال المادية والاجتماعية؛ فبعد أن كان الشاعر الجاهلي «المنخل اليشكري» يصف فرط عشقه لمحبوبته وهو أعرابي يوصف عشقه بأنه «عشق بدوي» فيقول: وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري إلى أن يجيء «ابن الجهم» في العصر العباسي ليعبّر عن كوامن عشقه المدني قائلاً: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري ولأن الطباع والعادات تغيّرت في العصر العباسي عنها في العصر الجاهلي لأسباب النقلة النوعية من الصحاري القاحلة إلى المدن العامرة؛ فقد تأثر الشعر بما تأثرت به الطباع والأخلاق؛ فظهرت الوجدانيات والأخوانيات ولغة الهمس والتودد عند الشعراء العباسيين أكثر مما كانت عند غيرهم، لا سيما في العصور السابقة التي ظلّ الشاعر فيها محملاً بالصور المثلى والأنفة حتى كان مستغرباً على «امرئ القيس» قوله: أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل وقول «جرير»: يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي أينما كانا لا تأخذين فؤادي تلعبين به فكيف يلعب بالإنسان إنسانا لقد كتمت الهوى حتى تهيمني لا أستطيع لهذا الحب كتمانا يا أم عمر كاد العشق يقتلني أصبى الحلم وأبكى العين أحيانا معاناة «الرعيل الأول» تبدأ بعد رفض طلب الزواج واليوم يعاني وهو لا يفكّر أن يرتبط بها ! هذه التعابير الرقيقة السابقة لزمانها كانت مقدمة لجيل من الشعراء لم يجدوا غضاضة في التصريح عن مكنون هواهم، وصادق أحلامهم ومناهم التي عبر عنها «ابن الخياط» بقوله: أغار إذا أنست في الحي أنه حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه وفي حين يهبط بعضهم بمعاني الحب والغرام إلى التعابير الهزلية المضحكة؛ يلجأ البعض الآخر إلى التعابير الصادقة في نقل حجم المعاناة التي عبّر عنها «الشريف الرضي» بقوله: يا ظبية البان ترعى في خمائله ليهنك اليوم أن القلب مرعاكِ هامت بك العين لم تتبع سواك هوى من علم العين أن القلب يهواك وكأن هذه الأبيات جاءت رداً ملجماً لذلك التعيس الذي أرسل إلى معشوقته يقول لها: لقد باض الحب في قلبي فوا ويلي إذا فرخ الغزل والمعاناة في عصور الحضارة الإسلامية باح كثير من العشاق والمحبين بحجم المعاناة التي يعانونها؛ جراء العشق والغرام؛ حتى حاول بعضهم شرح معاناته بالبكاء واستجداء زيارة المحبوب التي عبّر عنها «أبي فراس الحمداني» بقوله: معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر تسائلني من أنت؟ وهي عليمة وهل بفتى مثلي على حاله نكر فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى قتيلك قالت أيهم فهم كثر فقلت لها: لو شئت لم تتعنتي ولم تسألي عني وعندك بي خبر فقالت: لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت: معاذ الله بل أنتِ لا الدهر فلا تنكريني يابنة العم إنه ليعرف من أنكرته البدو والحضر سيذكرني قومي إذ جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ولعل صور المبالغة في حجم المعاناة تظهر جلية في حديث بعضهم عن ثورة الأسقام والآلام التي يعانونها، حتى إن أحدهم صور حاله مع السقم وصغر الحجم بأن سقوطه في عين النائم لا يصحيه، بل أوضح «المتنبي» -وهو المتنبي- أن العشق زاد من نحول جسمه إلى درجة أنه لو سقط على رأس القلم لم يتغيّر خطه، وعلى هذا النحو كانت المبالغة في معاناة العشاق والمحبين، ولا أدل على ذلك إلاّ قول أحدهم: لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها لا يسهر الليل إلاّ من به ألم لا تحرق النار إلا رجل واطيها روح المحب على الأحكام صابرة لعل مسقمها يوماً يداويها بل إن «السعدي الشيرازي» صوّر لنا شيئاً من معاناته مع لقاء المحبوبة وهو يقول: قال لي المحبوب لما زرته من ببابي؟ قلت بالباب أنا قال لي: أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا ومضى عام فلما جئته اطرق الباب عليه موهنا قال: من بالباب قلت: انظر فما ثم إلا أنت بالباب هنا قال لي: أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا بل لقد عاقب في ساعة اللقاء عينه التي لم تبك في ساعة الفراق في قوله: بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكاء بخلت علينا فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا العصر الجاهلي وصدر الإسلام كان الشعر شاهداً على «الغزل العذري» وهذا قريب من ما عبّر عنه «صفي الدين الحلي» حين لقائه بمحبوبته التي ظل يبحث عنها طويلاً؛ فما أن وجدها إلاّ باح لها بمكنون شعوره ووجدانه وهو يقول: هجم السرور علي حتى إنه من كثر ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين من فرح ومن أحزان بل لقد تمنى بعضهم أن يتجرع الحب لوعات العشق والفراق والوجد والأشواق وهو يدعو عليه قائلاً: فيا ليت هذا الحب يعشق مرة فيعلم ما يلقى المحب من الهجر وهو غير بعيد عن ذلك الذي تمنّى أن تذوق محبوبته مرارة العشق كي يقتص منها ويذيقها بعض الذي ذاقه منها وهو يقول: ولما بدا لي أنها لا تحبني وأن هواها ليس عني بمنجلي تمنيت أن تهوى سواي لعلها تذوق صبابات الهوى فترق لي وما كان إلاّ عن قليل وأشغفت بحب غزال أدعج الطرف أكحل فعذبها كيما يذيب فؤادها وذوقها طعم الهوى والتدلل فقلت لها هذا بذاك فأطرقت حياءً وقالت كل ظالم مبتلي ولا يجيبه في ذلك إلاّ من راح يدعو على معشوقته ويهددها بالدعاء عليها، وهو يقول: يا من هواه أعزه وأذلني كيف السبيل إلى وصالك دلني أنت الذي حلفتني وحلفت لي وحلفت أنك لن تخون فخنتني والله لأقعدن على الطريق وأشتكي وأقول مظلوم وأنت ظلمتني ولأدعون عليك في غسق الدجى يبليك ربي مثلما أبليتني ولعله لا يجد من يعزيه في غرامه ولوعة أحلامه، إلاّ صاحب له ذاق مرارة كأس الهوى وتجرع عذابات الفراق والنوى وهو يقول: لا يعرف الحزن إلاّ كل من عشقا وليس من قال إني عاشق صدقا للعاشقين نحول يُعرفون به من طول ما حالفوا الأحزان والأرقا فضاء مفتوح في عصرنا الحالي؛ تغيّرت أساليب التعبير عن كوامن العشق ولواهيب الغرام مع تغيّر المجتمعات والتعايش المدني والمادي الذي واكبه تقدم تقني في سبل الاتصال والتواصل، فبدت خطوط الهاتف الثابت تخترق أطر الآداب والضوابط من خلال ظاهرة المعاكسات الهاتفية التي طالما عادت على أطرافها بالحسرة والندامة، لا سيما مع انتشار ظاهرة «الترقيم» التي وجدت في ظهور «البيجر» مع بداية التسعينيات الميلادية سبيلاً للالتفاف على الضوابط الاجتماعية والآداب الأسرية، وحينها لا بد للمتصل من أن يظل منتظراً حتى يجود عليه المعشوق بالرد، وإن هو لم يفعل فسيضطر الأخير بعد أن تضيق به الخطوب وتغلق أمامه الحيل والدروب أن يردد قول الشاعر: البيجر اللي ما يجاوبك راعيه ودك تكسر بيجره فوق رأسه ولأن أمنية ذلك المحب البائس في زمن الهاتف الثابت ظلت محصورة في رؤية معشوقته، فقد اختصرت البرامج الحديثة في الهاتف الجوال وشبكة «النت» لهذا التعيس أو ربما لأخيه الصغير سبلاً ما كان له ان يحلم بها في زمن السبعينيات والثمانينيات الميلادية، وهو يقول: يا زين صوتك لا عبر بين الأسلاك وشلون لو حطو مع الصوت صورة وفي الوقت الذي كانت فيه كرامة العربي جزءاً من أخلاقه وغيرته على بنات جلدته متمثلة بقول الشاعر: أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر لجأ بعض أبناء هذا الزمان إلى التنازل عن هذه المثل والقيم الأبية حتى إن بعضهم يقطع الساعات الطوال بحثاً عن حيل إلكترونية يستطيع من خلالها اختراق حاجز السرية لهذه الفتاة أو تلك، بل إن بعضهم صرّح لمحبوبته قائلاً: يا صاحبي ما هي حكاية كرامة حنا خسرنا بسبتك ناس غالين ولا شك أن من شأن الجهود الرقابية والتوعوية الصادقة أن تساهم في التوعية المثلى للتعامل مع مستجدات التقنية الحديثة؛ التي ستعيد مؤشر الغزل إلى طرق أبوابه السليمة والمتمثلة في مساعي أولياء الأمور وعلية القوم لجمع شتات المحبين، من خلال الأبواب الواسعة المتمثلة بطرق باب الخطوبة للظفر بالزوجة الصالحة التي لا يجب أن تكافأ إلاّ بزوج صالح يخلو سجله الشخصي من مغامرات «الماسنجر» و»البرلنقو» للبلاك بيري و»الأنستقرام» للصور. لن يجيبك أحد.. تركوا المكان منذ سنين أحد شوارع دخنة وسط الرياض عام 1374ه حيث كانت الحياة الاجتماعية شاهدة على الحب الذي سكن القلوب العمر الذي مضى لن يعود إلاّ مع «الحبيب الأول» التقنية تركت الحب غالباً من غير إحساس صادق