بعد نشر الجزء الأول من هذا المقال هاتفني بعض الفضلاء والمحبين الذين كان لهم تحفظٌ على تناولي لهذا الموضوع إعلامياً ، فأوضحت لهم أن الطرح الإعلامي لمثل هذه المواضيع لم يكن في الأصل هو خياري المفضل لولا أن الطلبات المبتدعة في الاستقلال القضائي تم الإفصاح عنها مع بالغ الأسف في وسائل الإعلام والصحف المحلية والدولية من قبل المجلس الأعلى للقضاء الذي اختار طريق التعاطي الإعلامي في هذا الموضوع ولم يوفق لأسلوب التحفظ على رغباته الجديدة، حتى يصدر فيها قرار صاحب الصلاحية، ولم يكن قلمي إلا أداة لخدمة ديني ثم وطني، ولن يكون إن شاء الله في أي كفة من كفتيْ الميزان غير كفة الحق والموضوعية، والتاريخ يُسجل وذاكرته لا تَرحم. وما أحسن أن ينهج مجلس القضاء في سمته ووقاره جادة أسلافه ونرى تطويره واقعاً ملموساً لا طلبات استثنائية معلنة وتنميق كلمات تقال في الملتقيات والرسميات للاستهلاك الإعلامي، وكثير منها لا تسنده الحقائق، ولا عائد له سوى تضليل الرأي العام، والعبرة بالفعل لا القول. إن انتقاد الأخطاء المتلاحقة الصادرة عن المجلس تباعاً لم يكن حكراً على قلمي وإنما شاركني فيه كثير من الكتاب الذين يصعب حصرهم ممن ناقشوا التجاوزات والأحداث المتلاحقة في الشأن القضائي وكان المجلس طرفاً فيها أو مصدراً لها أو مسؤولاً عنها، وقد أشرتُ لبعض تلك الكتابات في مقال سابق. ولا يخفى أنه استقر العرف الاجتماعي على المستوى العالمي أن الصحافة بنزاهتها وحريتها المنضبطة تمارس بالكلمة المسؤولة والصادقة نوعاً من الرقابة الاجتماعية على أداء المرافق وفق قواعد النظام، وأن الإعلام الوطني الصادق سيبقى صوتاً مسموعاً للناس والمجتمع متى احترم نفسه واحترم غيره واستشعر أمانة الكلمة وخطورة مسؤوليتها. بعد هذه المقدمة أعود للقول إن مبدأ استقلال القضاء والفصل بين السلطات الذي يتشبث به البعض لتبرير سعيه إلى التمرد والانفلات من كل صلةٍ بأجهزة الدولة الأخرى لا يمكن فهمه على حقيقته إلا بالرجوع إلى التطبيق الجاري له في قوانين الدول التي ابتدعته لنعلم المقصود به وأنه ليس إلا استقلالاً نسبياً يعني أنه لا يجوز التدخل في شؤون القضاء أو التأثير على أحكامه بأي صورة من الصور، وأن استقلال القضاء ليس مقصودا لذاته، بل هو شرط لضمان تحقق العدالة، ولذا تتيح فكرة الاستقلال النسبي إمكان الرقابة المتبادلة والتعاون بين هذه السلطات، ويتيح الاستقلال النسبي صلاحيات قانونية لأي سلطة من السلطات تجاه السلطات الأخرى لكي لا يتحول القضاء بدوره إلى مؤسسة مغلقة فإن رقابة السلطة التنفيذية والتشريعية على سلطة القضاء تمثل صمام الأمان لذلك، ومن مظاهر هذه الرقابة في القوانين المقارنة اشتراك السلطة التنفيذية والتشريعية في تعيين وعزل رئيس مجلس القضاء، وكذلك الأمر في حالة تعيين أعضاء المحكمة العليا، وفي حق رئيس السلطة التنفيذية في إصدار العفو العام أو الخاص وفي التوقيع على أحكام العقوبات القصوى، وفي استئذان وزير العدل بشأن اتخاذ الإجراءات القضائية بالنسبة للجرائم ذات الطبيعة الدولية ، وهذه الأمثلة تعبر عن مظاهر الرقابة المتبادلة بين السلطات المختلفة، فالاستقلال نسبيّ لا مطلق، وهذا يمثل أفضل الحلول، ذلك بأن الاستقلال المطلق لأي سلطة من السلطات يقود إلى الفساد وإلى نشوء نوع من الدكتاتورية المؤسساتية التي تفقد التعاون اللازم بين هذه السلطات ، مرونته بعدم أخذ أي سلطة من هذه السلطات الاعتبارات التي تهم السلطة الأخرى بنظر الاعتبار . ومع أن تلك القوانين عبرت بالفصل إلا أنها وعت معنى هذا الفصل فكان بين سلطاتها الثلاث تكامل تام، فمثلاً نجد أن وزارة العدل الفرنسية لها سلطات واسعة في عمل المحاكم في جانبه الإجرائي والإداري والمالي والتنفيذي والإشرافي بوجه عام، وأذكر عندما كنت قاضياً في ديوان المظالم وكان الديوان على أهبة زيارة بعض المحاكم الفرنسية إلا أن الإجابة تأخرت على خلفية شيء واحد وهو أن وزيرة العدل لم تأذن بعد لقضاة الديوان بزيارة محكمة النقض تحديداً، كما أعلم يقيناً بأن مرجعية القضاء الإداري في فرنسا مجلس الدولة تعود إلى رئيس مجلس الوزراء، وأن وزارة العدل الفرنسية ترأس محكمة تنازع الاختصاص الممثلة من محاكم عليا . وفي النظام الأساسي للحكم عند الإشارة إلى السلطات التي تتكون منها الدولة لم ترد أي إشارة إلى عبارة (الفصل بين تلك السلطات) بل تضمنت المادة (44) منه على أن السلطات (القضائية – التنفيذية – التنظيمية) تتعاون في ما بينها في أداء وظائفها وأن الملك هو مرجع هذه السلطات جميعها . والمملكة في ذلك – كما في سائر شؤونها – تسير وفقاً لما هو مقررٌ في الشريعة الإسلامية التي كان لها السبق والريادة في تقرير استقلال القضاء وفق الأصول الشرعية لا المطالب الوهمية والمرتجلة ذات الأبعاد والسلبيات، كما كان للشريعة الريادة والسبق في تقرير حياد القضاء وأن القاضي المسلم لا يحكم إلا بما أراه الله ولا يكون للخائنين خصيماً، وما امتازت به الدولة الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين بإحلال القضاة المحل الأسمى وإجلالهم وتنفيذ أحكامهم وعدم التدخل في قضائهم وهذا كله بفضل الله مما هو متوافر في دولتنا المباركة وما يلتزم به ويؤكده ولاة أمرنا – وفقهم الله - . كما عتب عليّ بعض المحبين حين حذّرتُ في الجزء الأول من هذا المقال من أن تؤول تلك المطالبات باستقلال السلطة القضائية إلى عواقب غير محمودة وكان العتب مبنياً على إحسان الظن بالداعين إلى هذا الأمر وأنهم من طلبة العلم الموثوقين الذين يؤمنون بمبدأ السمع والطاعة لولي الأمر ، لكن تلك المحاذير التي أشرتُ إلى وقوعها في بعض الدول لم تأت في يوم وليلة بل جاءت مع تراكم واستمرار المطالبة بالاستقلال وتحقيق مطلبها، ولن ننسى دور السلطة القضائية في باكستان حين أصبحت تمسك بزمام الحكم السياسي وليس الحكم القضائي، وكذلك لا ننسى مذبحة القضاء في مصر في الستينيات الميلادية في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، حتى أصبحت حدثاً تاريخياً لا ينسى أُلفت فيه عشرات الكتب، وكل هذا بسبب التوسع في استقلال السلطة القضائية خارج نطاق استقلالها في أحكامها . ومن المفارقات العجيبة أنه في نفس الوقت الذي يُنادى فيه باستقلال السلطة القضائية استقلالاً غير مشروع ٍ ولا مقبول فإن القضاة الآن يعانون من التدخل المبالغ فيه في أعمالهم وممارسة شتى صور الضغط النفسي غير المحتمل عليهم مما يمنعهم من العمل بارتياحٍ وخلو ذهن من الشواغل والهموم عبر تسليط لائحة التفتيش القضائي الجديدة على رقابهم والتلويح بها وكأنها محاكم للتفتيش ستنصب لمحاكمتهم، وكم أعجبني ما كتب قبل أيام من قبل عدد من الأقلام في الصحافة المحلية من أنه من لوازم استقلال القاضي وإيجاد ضمانات الحياد له ألا يكون التفتيش عليه والتحقيق معه ومجازاته في جهة واحدة كما هو الحاصل حالياً. ويمكن مراجعة هذا الأمر وتعديل النظام الحالي إذا تولدت القناعة التامة لدى المنظم بالمبررات الشرعية والقانونية سالفة الذكر، فنظام القضاء السابق عُدل العديد من مواده بعد صدوره بأشهر قليلة جداً، وذلك لأن الحق رائد الجميع، ومصداقاً لقوله تعالى:(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) مع أننا على يقين تام بأن النظام القضائي الجديد يمثل نقلة تنظيمية بل قفزة كبيرة في مفاهيم القوانين القضائية أشاد بها الجميع في الداخل والخارج. وعوداً على ما سبق أقول: إن نفس الجهة التي تنادي باستقلال القضاء عن أنظمة الخدمة المدنية وأعلنت عن ذلك قبل صدور قرار الدولة بشأنه، هي التي أصدرت لائحة صلاحيات رؤساء المحاكم التي تجيز لرئيس المحكمة التدخل غير المقبول والتأثير على عمل القاضي وتعطيه سلطةً وصلاحيات ٍ من شأنها إخضاع القاضي لرئيس المحكمة مما قد يؤثر سلباً في حياده أو في اجتهاده ، بل ولم تكتف بمثل هذه اللوائح وإنما تكرر التأكيد على وجوب تنفيذها وتفعيلها والرفع بالتقارير والشكاوى والإخباريات عن القضاة حتى لكأن القضاة في المملكة كانوا في السابق في حال ِ انفلات تحتاج إلى ضبط وحزم وصرامة لم تطبق عليهم كما ينبغي (سبحانك هذا بهتانٌ عظيم) مما كان له أثر سيئ في نفوس أصحاب الفضيلة القضاة وأحدث صدىً من التذمر والشكوى والمضايقة في صفوفهم ، وأخشى أن يقود هذا الأمر إلى إحدى سوءتين: إما تسرب القضاة الأكفاء وعزوف النابهين عن تولي القضاء ، أو تثبيط النفوس المثابرة عن الإنجاز وقتل الروح المعنوية للمبدعين منهم وحملهم قسراً على العمل بروحٍ محبطة منكسرة ، وإذا كان القاضي لا يقضي وهو غضبان فكيف يقضي وهو مهان ؟!، وليت هذه القسوة أُخذ شيء منها في التحقيق والمحاسبة في قضية المدينةالمنورة التي استفاضت إلى درجة التواتر ولم يكن هناك مجال للمكابرة بنفيها أو عدم العلم بها؟! ثم هل من استقلال القضاء تأليب الناس على القضاة عبر التأكيد على أن الحصانة القضائية لا تمنع مساءلة القاضي !؟ ألا يكفي القضاة ما يكابدونه من ضغوط ومضايقات وأنه في كثير ٍ من الدوائر الحكومية والمرافق الخدمية لا اعتبار للقاضي ولا حد أدنى من التقدير لمنصبه الشرعي النظامي الشريف لا لشخصه؟! وهل من استقلال القضاء وهيبته أن يزج به في المعترك الإعلامي في تصريحات لا طائل وراءها بل تضر أكثر مما تنفع حتى أصبح الشأن القضائي مبتذلاً تلوكه الألسن ما بين عائب ٍ ومعيب ونفي ٍ وتكذيب ؟! أدع الإجابة عن تلك الأسئلة لمن يهمه الأمر ، وأرجو أن يكون ما حدث في السابق من انسياق وراء الإعلام - أضرّ بالشأن القضائي أكثر مما نفع - أن يكون جزءاً من الماضي بعد صدور الأمر الملكي الكريم الذي قصر دور المجلس الأعلى للقضاء في التصريح والتحدث الرسمي على ما يصدره من قرارات "معتمدة ونافذة"، فيما وسّع صلاحيات "العدل" في التحدث الرسمي عن الشؤون العدلية عامة . وما أحسن أن ينهج مجلس القضاء في سمته ووقاره جادة أسلافه ونرى تطويره واقعاً ملموساً لا طلبات استثنائية معلنة وتنميق كلمات تقال في الملتقيات والرسميات للاستهلاك الإعلامي، وكثير منها لا تسنده الحقائق، ولا عائد له سوى تضليل الرأي العام، والعبرة بالفعل لا القول ومن يعمل صادقا يعمل بصمت وأقواله هي التي تتحدث عنه .. وما توفيقي إلا بالله هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل . *القاضي في ديوان المظالم سابقاً والمحامي حالياً