قبل أيام طالعتنا الصحف المحلية بصدور الأمر الملكي الكريم الذي نظّم العلاقة بين وزارة العدل، والمجلس الأعلى للقضاء ليحسم َ جدلاً - غير مُبرّر- حول كافة الموضوعات التي سمعنا بعد التشكيل الأخير لمجلس القضاء عن زحفها المتواصل - تحت ذريعة الاستقلال - على صلاحية جهات أخرى "تنفيذية" و"تنظيمية" فجاء الأمر الملكي الكريم فاصلاً وحاسماً في هذا الأمر مؤكداً على سياسة الدولة واحترام أنظمتها ، فمصلحة الدولة العليا لا نقاش معها ولا جدال ولا مساومات ولا استثناءات. إن من أكثر المصطلحات القانونية التي أُسيء فهمها، وحُرّف مدلولها، ووظفت أحكامها بين عشية وضحاها مصطلح» استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات « لتحقيق أهداف لا تمت بأي صلة للقواعد الشرعية والقانونية بالفعل كرس الأمر الملكي بحكمته وحصافته مفهوم دولة المؤسسات والمصلحة الوطنية، وثوابت سياسة الدولة، وأكد مجدداً أن الدولة ترعى مصلحتها الشرعية والوطنية، وتعيد الأمور إلى نصابها ولا تتباطأ في ذلك، فمجلس القضاء كان قبل النظام الجديد قضائياً بالنظر إلى أنه كان يباشر النظر في القضايا، فتحول بعد النظام الجديد إلى كيان إداري بحت، يدير الشؤون الوظيفية للقضاة، وأكد الأمر الملكي الأخير (بكل ما يحمله من حكمة وبُعد نظر وتأصيل شرعي ونظامي) أكد على هذا الأمر بنص صريح؛ حيث جعل من ديوان المراقبة العامة رقيباً على مصروفات المجلس . وجاء هذا الأمر الملكي الكريم ليقطع دابرَ فتنة بدأت تنبت ُ بذورها داخل السلطة القضائية في تشكيلها الجديد تحت مظلة وذريعة استقلال السلطة القضائية دون إدراك لما قد تؤول إليه هذه الحجة الشيطانية من عواقب وأبعاد سياسية وآثار سلبية على المدى القريب والبعيد، كما حدث في باكستان وتركيا ، وكما حدث أيضاً في مصر في الستينيات الميلادية في حادثة تاريخية لا تزال مخيمة على أذهان التاريخ المصري ، وهذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم إن شاء الله في تقرير مفاهيم الاستقلال والفصل والحياد، وهل هي حقائق شرعية وقانونية أو مطالب مبتدعة طرأت مؤخراً، في إطار القراءة المتأنية والمتعمقة للمدلول الكبير، والمضامين الضافية للأمر الملكي الأخير الذي تابعت الدولة من خلاله تأكيدها المستمر بأنها دولة الشريعة والنظام، وأنها ما تزال بحمد الله تمسك بزمام القرارات السيادية دون منازعةٍ من أحد وفقاً للمفهوم الشرعي الإسلامي لولاية الأمر السمع والطاعة ومقتضيات البيعة الشرعية ، وأن الجميع تحت مظلة الشرع والنظام ولا خصوصية ولا استثناء لأحد على حساب المصلحة وأنظمة الدولة . إن من أكثر المصطلحات القانونية التي أُسيء فهمها، وحُرّف مدلولها، ووظفت أحكامها بين عشية وضحاها مصطلح" استقلال السلطة القضائية والفصل بين السلطات " لتحقيق أهداف لا تمت بأي صلة للقواعد الشرعية والقانونية ولا لثوابت نظام الدولة التي تأسست على نظام الحكم الإسلامي، ولا لمنهجية الدولة القائمة على الموضوعية والعقلانية في اتخاذ القرار. وعندما أقول بين عشية وضحاها؛ فلأننا لم نسمع عن هذا الجدل العقيم عن استقلال السلطة القضائية إلا مؤخراً، من المطالبات الاستثنائية للمجلس الأعلى للقضاء التي نشرت مع الأسف في وسائل الإعلام، ولم تكن قيد السرية، بل أعلن عنها مجلس القضاء في تصريح رسمي، في صحف محلية ودولية، حيث أعلن في صحيفة الحياة الدولية (في عدد السبت 5/8/1431ه) عن توجه مجلس القضاء إلى الانفصال عن نظام الخدمة المدنية، وقبل هذا الإعلان بسنة تم الإعلان وبمبادرة من داخل مجلس القضاء نفسه عن توجّه لزيادة رواتب القضاة، بما يحمله هذا التوجه من تجاوز لصلاحية صاحب القرار (صحيفة عكاظ عدد السبت 24/8/ 1430 ). فهل كنا منذ قامت هذه الدولة المباركة على يد القائد الموحد جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه مروراً بعهد ملوكها الكرام حتى هذا العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين، لم نعرف مفاهيم استقلال السلطة القضائية في أحكامها، ولم نعرف مفاهيم الفصل بين السلطات وعدم التدخل في القضاء، وهي المبادئ الراسخة في نظام عدالتنا التي عشناها واقعاً فعلياً وما نزال؟! وهل غاب عنا ما هو مستفيضٌ ومستقر في منهج ولاة أمر هذه البلاد من ملوكٍ وأمراء مناطق لا يعرض ُ عليهم نزاع إلا قرروا أنه : " يحال إلى الشرع وما يقضي به الشرع ينفّذ " وما جاءهم مشتك يدلي بمظلمته وعلموا أن فيها حكماً قضائياً إلا رفعوا أيديهم عنها ووجهوا بإنفاذ الحكم؟! فهل كنا غافلين عن كل ذلك حتى جاءت منظماتٌ حقوقية بالوكالة عن غيرها، يتجاوب مع محاولاتها المكشوفة أناس من الداخل عن جهل أو تجاهل، لتحاول أن تملي علينا شروطاً ومفاهيم أول من ينتهكها دولها المنتمية إليها؟ وغني عن القول إنها لن ترضى عن قضائنا الشرعي العادل حتى ندع قيمنا الإسلامية الراسخة وثوابتنا الوطنية المتأصلة، ومن ثم نساير القوانين الوضعية بعُجَرها وبُجَرها في تفاصيلَ وجدل كبير لا ينتهي حول نظرياتها حتى بين القانونيين أنفسهم، لتأتي بعد هذا فئة من داخلنا لا تفقه في هذه القوانين شيئاً، فتطبقها جملة وتفصيلاً، دون أن تدرك وتتبصر ما في داخلها، ودون أن تنظر من جانب آخر كيف طبقتها الدول التي تتشبث بنظرياتها الدستورية ! ومن الطريف أن إحدى اللجان المتخصصة في مجلس الشورى أوصت بتكليف مجلس القضاء بإعداد تشريع لائحي لحجج الاستحكام، ومن الصعب أن أشرح لمجلس الشورى وهو جهة تشريعية بأن التشريع ليس من شأن المجالس القضائية، وأن الشورى نفسه يدرس هذا الأمر ضمن لائحة أخرى (جريدة الرياض 10/10/1431ه) . ومن المفارقات العجيبة أن الفئة التي تنادي بتطبيق مبدأ استقلال القضاء دون فهم لمدلوله هي نفسها الفئة التي تخوفت في السابق من أنظمة القضاء ومرافعاته الجديدة لأن فيها مواد استفدناها من غيرنا لا علاقة لها بالأحكام القضائية مطلقاً، وإنما بأمور تنظيمية بحتة فيها النفع والخير، وهي نفسها الفئة التي تعارض أي حديث ٍ عن التقنين مع ما فيه من المصالح المعتبرة وعدم معارضته لقطعيات الشريعة واندراجه في السياسة الشرعية لكن عندما كان الأمر يتعلق بصلاحياتٍ لامحدودة وأمرٍ ونهي وسلطة واستقلال عن أنظمة الدولة لم تكتف هذه الفئة باستيراد هذه النظرية الوضعية بل زادت وزايدت عليها، وفهمتها فهماً لم يفهمه حتى أصحابها كما يتضح من تطبيقاتهم لها . ولو أخذنا بحرفية ما يقال ويكتب وما تحاول بعض المنظمات الحقوقية الحكومية والأهلية إملاءه علينا تحت ذريعة استقلال القضاء وفق فلسفة معينة لما جاز حتى تشكيل المجلس الأعلى للقضاء الحالي لأنه يضم أعضاء ليسوا من السلطة القضائية، لكن النظرة الشرعية الرشيدة والنظرة القانونية الموضوعية رأت أن المجلس الحالي بعد سلخ الهيئة الدائمة منه أصبح حالياً مجلساً إدارياً فقط، أما إشرافه على المحاكم والقضاة وأعمالهم فلا علاقة له بالأحكام وإلا لأصبح عمل المجلس متداخلاً مع عمل محاكم الاستئناف والمحكمة العليا، ولهذا كان النظام في منتهى الدقة والتحفظ عندما قيَّد إشراف المجلس الحالي على المحاكم والقضاة وأعمالهم بالحدود المبينة في النظام وكلها إدارية ولم يجعل هذا الإشراف مطلقاً. وإذا كانت أعمال القضاة الحقيقية هي الأحكام القضائية ومجلس القضاء الحالي بنص النظام لا علاقة له بها فأي معنىً للاستقلال أوضح من ذلك ؟! وجميع هذه الأمور واضحة تماماً، لكن من المؤسف الدخول في جدل ، وقيل وقال، والنتيجة تحقيق رغبات قاصرة، على حساب سياسة قضاء ونظام دولة، وليت بعض القيادات القضائية سلكت سبيل من سبقها واستلهمت منهج الدولة في نظامها القضائي وسياستها نحو القضاء والقضاة ووزارة العدل ومجلس القضاء، بدل الجدل واللغط الذي نزلت به إلى الساحة الإعلامية المحلية والدولية حتى خاض فيه الرويبضة من الناس واختلط الأمر على الجهال فظنوا أن القضاء لدينا غير مستقل . وخروج السلطة القضائية اليوم عن سمت أسلافها يعيد للذاكرة شيئاً من الآثار الحسنة المباركة لسماحة مفتي عام المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – غفر الله له ورحمه – الذي لم ولن يُنسى فضله ودوره الرائد في تأسيس القضاء الشرعي بالمملكة ، وإعزازه ورفع شأنه ، والذب عنه وتأصيل قواعده وأسسه ، وقبل كل ذلك حفظ هيبة القضاء والقضاة ولزوم السمت القضائي الشرعي الذي بدأت السلطة القضائية تتفلت عليه اليوم . وما كان لسماحة الشيخ ابن إبراهيم ليحقق ما حققه من نجاح لولا الدعم والتمكين والثقة التي منحها إياه ولاة الأمر في هذه البلاد الذين صدقت توجهاتهم نحو قيام قضاءٍ شرعي مستقل يواكب ريادة الدولة ومكانتها القيادية بين الدول الإسلامية . ولي عودة ٌ لموضوع استقلال القضاء – بإذن الله – وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكري.. (يتبع) *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً