لن تبرز أو تسمو أي رسالة أو يتحقق أي دور فاعل أو هدف نبيل مؤثر لأي برلمان أو مجلس أمة أو مجلس شعب أو شورى أو تحت أي مسمى تشريعي أو رقابي آخر ما لم يكن أولاً وأخيراً تحت مظلة وفي إطار - الحرية - العدالة - المساواة - يرعى بتوجيهاته ومبادئه تحقيق مدلول هذه الشعارات باخلاص وتضحية وإنجاز ويبرز ويترجم مضمونها أفعالاً لا أقوالاً، ويعمل على تمكينها في مسار حوارته وخططه بعيداً عن القيود والمثبطات والوصاية والتردد، فإذا تحقق ذلك أو معظمه بأمانة وصدق نكون حقاً أمام دولة تنشد البناء والبقاء والتميز والانطلاق، دولة مزدهرة ومستقرة تقوم وتسير حياتها ومستقبل شعبها على تلك المبادئ الرفيعة التي أشرنا إليها، ولمزيد الايضاح والتفصيل وان كانت باقتضاب نقول: إن العدالة كما لا يخفى هي التي ترسخ الانتماء للوطن وتغرس حبه في أفئدة المواطنين لأنها تؤطر وتعمق مبادئ الحقوق والواجبات بانصاف ونزاهة بين الجميع. والمساواة هي التي تذيب الفوارق وتزيل العوازل بين أفراد الأمة وتجعل الاستقرار والسلام الاجتماعي يسود فيما بينهم والحرية هي التي تضمن للإنسان - المواطن - في المحيط الذي يعيش فيه ان يقول كلمته ويعمل بإرادة مفتوحة ومبدعة بلا سدود ولا قيود.. لهذا كله جاء الإسلام متقدماً على غيره من الشرائع والأديان في ترسيخ مبادئ وأسس الحكم ومقوماته وتنظيم العلاقة بين الشعوب في شؤون حياتهم حيث جعل الأمر شورى بينهم بل جعل ذلك إلزامياً وركناً أساسياً في حياتهم وعقيدتهم لتستقيم الأمور وتطمئن النفوس وتتحقق المساواة.. وفي آية كريمة وصريحة في معناها ومدلولها قال تبارك وتعالى في محكم تنزيله الذي أمرنا بأن نحكم به ونحتكم إليه (وشاورهم في الأمر) إلى هنا وبعد هذه المقدمة المختصرة نعرج بالتفصيل إلى ما نحن بصدد الحديث عنه والتطرق إليه وهو عن واقع مجلس الشورى في بلادنا في عهده الجديد الذي بدأ عام 1414ه أي منذ ستة عشر عاماً وبين عهده القديم ونعني به عهد التأسيس والبناء على يد الموحد الباني رائد الأمة الفارس المغوار عبدالعزيز - طيب الله ثراه وأحسن مأواه - وهنا يجدر بنا كأساس للمقارنة ان نأتي بنبذة مفصلة عن ماضي المجلس المزدهر الفاعل، وهذا ما نلخصه بوضوح وجلاء من خلال الخطاب الجليل الحافل والشامل الذي ألقاه الملك الملهم الهمام في الجلسة الافتتاحية لمجلس الشورى في دورته التي انعقدت بمكة المكرمة في السابع من ربيع الأول عام 1349ه كبرنامج عمل مسدد وخطوط عريضة يجب السير على ضوئها فقال - يرحمه الله - مخاطباً أعضاء المجلس قبل تسعين عاماً مستحثاً عزائمهم على الإنجاز والعطاء والابتكار: (إن أمامكم اليوم أعمالاً كثيرة من موازنة الدوائر حكومية ونظم عدة من أجل اقرار مشاريع عامة تتطلب جهوداً أكثر من جهود العام السابق، وان الأمة تنتظر منكم ما هو المأمول فيكم من الهمة وعدم إضاعة الوقت الثمين إلاّ بما فيه فائدة البلاد، وفي ثنايا خطابه الآنف الذكر أمام مجلس الشورى يقول غفر الله له: (لقد أمرت الا يسن نظام في البلاد ويجري العمل به قبل ان يعرض على مجلسكم الموقر فتنقحونه بمنتهى حرية الرأي على الشكل الذي تكون فيه الفائدة لهذه البلاد) ويستحث هممهم في قوله: (أنتم في تلك الدائرة أحرار في سن كل نظام واقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط الا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية الصافية) ويختتم خطابه البليغ المؤثر قائلاً: لا أحتاج في هذا الموقف ان أذكركم بأن هذا البلد يتطلب النظر فيما يحفظ حقوق أهله بأمانة وما يؤمن الراحة لحجاج بيت الله ولذا فإنكم تتحملون مسؤولية عظيمة إزاء ما يعرض عليكم من النظم والمشاريع سواء كانت تتعلق بالبلاد أو بوفود الحجاج من حيث اتخاذ النظم التي تحفظ راحتهم واطمئنانهم واسأل الله لكم التوفيق في سائر أعمالكم) هذا الخطاب العظيم الذي يعبر كل حرف فيه عن النصح الصادق النابع من القلب يحثهم به على الإنجاز والعمل الدؤوب المثمر كان والحق يقال البلسم الشافي والضوء الساطع الذي سار على نهجه أعضاء مجلس الشورى في عهد المؤسس الباني طيلة حياته وعلى إثره صدرت نظم جديدة وسنت قوانين حازمة وبناءة رسخت الوحدة الوطنية ووطدت دعائم الأمن والاستقرار وعم على إثرها الرخاء والإخاء لأن غايتها وهدفها المصلحة العامة المنشودة وصدرت بمباركة ومؤازرة ومتابعة الراحل العظيم.. ومن هنا أعود إلى السطور الأولى في بداية حديثي وهو عن الجانب الآخر وأعني به الواقع الذي يعيشه مجلس الشورى في الوقت الحاضر وهل يا ترى تحققت بعض الآمال المنتظرة التي كنا ومازلنا نترقبها بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر لتترجم طموحات الوطن وآمال المواطنين في النهوض والتقدم في عصر لا مكان فيه ولا مكانة للواقف والمتردد والضعيف.. لقد تفاءلنا بمقدم هذا المجلس الموقر في عهده الجديد خيراً ليأتي بقوة كما كان في الماضي ليكون عوناً للمسؤولين في هرم الدولة الرشيدة ويشكل قناة أو قنطرة سالكة لآمال وهموم المواطنين في تبادل الرأي والمشورة بقلب مفتوح وباب مفتوح وتعاون جاد وإرادة نزيهة وعزيمة وثابة ورؤية ثاقبة هدفها وغايتها المصلحة العامة بما يرفع شأن الوطن ويعلي منزلته ويرسخ مكانته بين الأمم الحية المتطورة التي تسابق الزمن بخطى حثيثة للنهوض والوصول به إلى أعلى الدرجات.. ولكن يا ترى هلا وضعنا خطاب أب الأمة المؤسس العظيم الذي عرضنا خلاصته والموجه قبل تسعين عاماً نصب أعيننا وجعلناه حاضراً بين يدي أعضاء مجلس الشورى الآن للسير على ضوئه في القول والعمل لنرى فائدة ومصداقية وجودهم في خلاصة وثمرة جهودهم بعد ان وضعت فيهم الثقة السامية الكريمة الغالية. وأقسموا على الأمانة والصدق والاخلاص في العمل. ونتساءل بعد ذلك ونقول بعد مضي ستة عشر عاماً على افتتاح وعمل المجلس الحالي ماهي المنجزات الفعالة التي تحققت في تلك الفترة؟ وما دور المجلس في التفاعل مع الأحداث المختلفة التي تمر بالوطن سلباً وايجاباً؟ وهل للمجلس حضور لافت ودور مؤثر في قضايا الوطن وهموم المواطنين؟ نقولها بصراحة.. لقد كنا ننتظر للمجلس حضوراً مؤثراً وعاجلاً في معالجة تبعات قضايا التطرف والغلو تلك النبتات الشيطانية والطفيلية - الطارئة والمستوطنة - التي تشكل في حالة اهمالها أو مهادنتها آفات قاتلة للاستقرار والأزدهار الذي يعيشه هذا الوطن الغالي.. إن من الآمال والطموحات التي كنا ننتظر تحقيقها من المجلس الموقر معالجة الظواهر السلبية التي تمخر في جسد المجتمع فتصيبه بالارتباك والتخلخل مثل تفشي البطالة في البلاد واصرار القطاع الخاص ومماطلته في احلال أبناء الوطن من المؤهلين العاطلين واختلاق الأعذار الواهية المكشوفة التي تبرهن على عدم تجاوبهم.. ومعهم العذر حيث لا قوانين رادعة ولا أنظمة حازمة عدا تصريحات طنانة فارغة وفرقعات بلاغية رنانة. لذا استمرأوا المماطلة والتسويف.. وها نحن نرى ومعنا أعضاء مجلس الشورى زحف العمالة الوافدة من الأبواب المشروعة وغير المشروعة وهي تستأثر بمصادر الرزق والكسب في جميع الأعمال والمهن في المؤسسات والشركات والمحلات التجارية كبيرها وصغيرها.. ماذا عمل مجلس الشورى حيالها وأين توصياته الفعالة التي تعالج استفحالها؟! وهل أدرك أعضاء المجلس ولمسوا حال المواطن العاطل الضعيف الحائر الذي تضيق به سبل الحياة يوماً بعد يوم ولا يجد عملاً شاغراً يترزق منه ويقيه غائلة الحاجة والعوز وينجيه من الفراغ القائل ويجعله بالتالي بعيداً عن سلبيات ومضاعفات البطالة وحصادها المر. وفي آخر احصائية عن وزارة العمل بأن عدد المستقدمين خلال عامي 2007 و2008م فقط بلغ عددهم حوالي أربعة ملايين وافد أي ما يعادل سكان دولة مثل الأردن. أو ما يعادل ثلاث دول خليجية. هنا نقول: أين أعضاء المجلس وفقهم الله وهم مصدر الشورى والرأي في كل ماله صلة بحياة المواطن ورفاهيته؟! أين احساسهم وهم يرون ويلمسون استفحال عمليات الاستقدام الرهيبة وهي تسير بصورة مذهلة من البر والجو والبحر ومن الداخل أيضاً تحت ذريعة تصحيح أوضاع المتخلفين والمتسللين والهاربين وتقنين وجودهم؟! أين المجلس وأعضائه عن عمليات التستر المتفشية التي أكلت الأخضر واليابس وعدم كشف أسماء المتسترين وما السبب؟ إن ثروة الوطن أهدرت بين عاملين الأول استنزاف العمالة لها وتحويلها على مدار العام بآلاف الملايين للخارج، والثاني هو تهافت الطبقة الميسورة من المواطنين على السياحة السنوية في الخارج وعددها في العام الماضي وصل إلى ستة ملايين سائح فاقت مصروفاتهم أكثر من ستين مليار ريال. ونتساءل أخيراً لماذا لا يتفرغ الاخوة والآباء أعضاء مجلس الشورى لعملهم بجدية وحيوية بالمجلس حيث ان بعضهم ربما يعتبر اختياره وترشيحه وتعيينه بمنصب العضوية ما هو إلاّ وسام وجاهة وتميز خاصة إذا ما علمنا ان عدداً كبيراً منهم أمضى أكثر من عشر سنوات وهو ما زال يتربع على كرسي العضوية المريح وبعضهم يقيم في مناطق نائية في أنحاء المملكة ويتردد أكثر من مرة في الأسبوع لحضور الجلسات والعودة قاطعاً آلاف الكيلو مترات ذهاباً وإياباً. والله المستعان،،،