تعيش المرأة السعودية وضعاً مختلفاً عما تعيشه المرأة في البلاد العربية عامة ودول الخليج العربي خاصة ؛ ذلك أنه تولى البت في شؤونها والوصاية عليها جمع من الرجال ، جعلوا كل ما يخصها محاطاً بعاصفة من الاعتراض والرفض والخوف المبالغ فيه ، حتى أنه لا يُقرّ أمر إلا بعد أن يكبل بحزمة من الاشتراطات والضوابط ، ليس أقلها الإشراف المباشر من قبلهم ، في مقابل أن يقدم الآخرون صكوك حسن نية وتعهدات بعدم الخروج عما رُسم لهم، وإلا فالمحاسبة عندما يتراءى أنهم أخلوا بما ألزموا به ! وكلنا يعلم أنّ أول تصادم بين الدولة والمتشددين كان عند فتح مدارس البنات في العام 1960 ، إذ عارضه كثير منهم بحجة أنه باب للفساد وغير ذلك من مفردات القائمة التي يرفعها المتشددون عند مقاربة أيّ شأن نسائي ، وذلك لأنهم ربطوا المرأة بالدين ربطاً مباشراً ؛ فهي إنْ تعلمت فسوف تنشغل بقراءة وكتابة ما يصرفها عن دينها ، وإن خرجت للتعلم والعمل ، فلابدّ من أن تشيد لها مبان ٍخاصة أشبه بالسجون عليها حرّاس غلاظ شداد ؛ وقد مرت كثير من شؤون المرأة بالدائرة نفسها من الممانعة والرفض ، وهذا ليس بغريب على المجتمعات الساكنة التي اعتادت نمطاً واحداً من العيش والتفكير والتعبير، فالقديم له سحره وأوفياؤه الذين يستميتون دفاعًا عنه ؛ والخوف من مخالفة السائد يجعلهم لا يفكرون في محاسن الجديد وفوائده ! ولأن التاريخ يعيد نفسه فلقد أثيرت العاصفة نفسها عندما ألغيت رئاسة تعليم البنات ، وحينما طالب بعض الكتاب بالرياضة في مدارسهن، وعندما طُرح مشروع إحلال النساء محل العمالة الوافدة في محلات بيع اللوازم النسائية ، تلك الحملة التي حُشدت لها الحشود بدءاً من المسجد وانتهاءً بمواقع الإنترنت ، بحجة أنه سيؤدي إلى الاختلاط ؛ ذلك السلاح الذي يشهره المعارضون عندما تثار قضايا المرأة ، ولا ننسى موضوع قيادة السيارة وما صاحبه من صخب وضجيج ، أدى بمجلس الشورى إلى إغلاق البت فيه انسجاماً مع الرأي المتشدد ، وسوف يستمر الضجيج عند إثارة أي شأن يخص المرأة ، لأن فوبيا الاختلاط ستظل مسيطرة عليهم ، خصوصاً أن ما يدعون إليه من إقامة جزر للنساء وأخرى للرجال ، إن نجح في الماضي وإلى يومنا هذا ، فإن تطور الحياة المتسارع لن يسمح باستمراره في كل مناحي الحياة ؛ فمنطق الأمور يثبت أن بقاء الحال من المحال ، وأن حركة التغيير آتية لا محالة ، وخير لهم أن يعملوا على المواءمة بين متطلبات العصر والتعاليم الدينية التي لا تدعو إلى إقصاء المرأة ، بدلاً من المكابرة والإصرار على إغلاق الأبواب أمام دعوات الإصلاح والتحديث. لقد خُذلت المرأة في بلادنا من قبل الرجل الذي هو أحد ثلاثة ، إمّا متشدد يفرض رؤاه وقناعاته الخاصة التي يستمد لها مقولات دينية يجعلها سياجاً منيعاً حول قضايا المرأة ، وإما متفتح يتحدث كثيراً لكنه لا يجرؤ على الفعل ، ولا يملك زمام المبادرة وإن ملكه فهو عاجز عن تفعيله ، ينادي بتعليق الجرس لكن لا يريد أن يقوم هو بذلك ، وإما متوسط لا رأي له يكتفي بمراقبة ما يحدث فهو لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، وهؤلاء هم الكثرة الكاثرة . لكنّ رجلاً واحداً اهتمّ بالمرأة ، ومنحها مكانتها التي تليق بها شريكة للرجل في المعادلة الوطنية ؛ ذلك هو الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي كان قبل توليه الملك مبادرًا فيما يخص موضوع المرأة ، مؤكداً على مكانتها في البيت وفي المجتمع وفي الوطن ، وظل يردد دوما أنها الأم والأخت والابنة والزوجة ، ونقل لصحيفة لوموند الفرنسية إيمانه بدورها في الحراك الاجتماعي، وحرصه على نيلها كل حقوقها التي أقرها لها الدين ، وهو الأمر نفسه الذي أكده في حديثه للمحطة الأمريكية . A B C من هنا فإن عهد الملك عبدالله يمثل منعطفاً هاماً في مسيرة المرأة السعودية ، فلأول مرة يُؤخذ رأيها في الحسبان ، إسهاماً في مناقشة قضايا الوطن الكبرى مع الرجل في لقاءات الحوار الوطني ، مما اعتبر سابقة في بلادنا إذ اعتاد كل المسؤولين دون استثناء على أن تباشر المرأة أدوارها التي يسمحون بها عن بعد عبر أجهزةٍ استكان المسؤولون لها، وأراحوا رؤوسهم من حضور المرأة ،إذ سخروا تقنيات العصر لترسيخ الفصل الذي يكفل إبقاء المرأة بعيدة عن التواصل الحقيقي ، نظرا لما يعتري تلك الأجهزة من انقطاع مستمر وتشويش وعدم وضوح حتى يبدو حضورها كعدمه ، وهذا في أحسن الأحوال وفي المستويات العليا كالجامعات ، وما عدا ذلك فهي مهمشة وبعيدة عن مواقع صنع القرار، ويكفي مثالا صارخا على ذلك ما يحدث في الجامعات من انفراد الرجل بمعظم السلطات ، فلا تتولى المرأة إلا مالا يمكن للرجل أن يتولاه ، إذ تظل مجرد مساعدة ونائبة له في الوسط النسائي ، بعيدة عمّا تموج به الجامعات من حراك وفعاليات وأنشطة. وجاءت مشاركة المرأة في لقاءات الحوار الوطني ، لتترجم إيمان الملك بدورها وقدرتها على الإدلاء برأيها في قضايا لها حساسيتها وأهميتها للوطن والمواطنين رجالا ونساء ،وقد تجلت هذه الرعاية في حرصه على اللقاء بالنساء كما يلتقي بالرجال بعد انتهاء الجلسات ، ولأول مرة في بلادنا تجلس النساء في حضرة الملك ، يتحدثن بحرية ويعرضن رؤاهن ومطالبهن دون تحجيم أو وصاية – أو دائرة تلفزيونية مغلقة - حديثاً مباشرا ً كحديث البنات لأبيهن . وليس هذا فحسب ، بل كان للمرأة حضور في مبايعة الملك ؛ إذ استقبل عدداً من العاملات في التعليم وبايعنه كما فعل الرجال ، وذلك لم يأت ِ من فراغ فهو يعي حق المرأة في ذلك ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي بايعته النساء مع الرجال في بيعتيْ العقبة الأولى والثانية ، وهو خير من يقتدي بالهدي النبوي ليكون مثالاً يحتذيه المسؤولون الذين لهم مساس مباشر بالشأن النسوي ، لكن أكثرهم ما زال مصراً على التمسك برؤاه ، إما تشدداً ، وإما خوفاً من دخول عش الدبابير . ولا ننسى كيف التقى ببعض العاملات في الشأن الثقافي والإعلامي في مدينة جدة في خطوة تؤكد حرصه على إعطاء المرأة المثقفة حقها في إيصال صوتها إليه مباشرة ، مما شكّل مظهراً حضارياً غير مسبوق في بلادنا ، فمن كان يصدق أن صوت المرأة ومعاناتها وآمالها وآلامها ستصل إلى أعلى سلطة في الدولة مباشرة منها ، دون حواجز يصنعها الرجال أنفسهم ليظلوا وحدهم المعبرين عنها والمسيطرين على شؤونها كافة . إنّ كل ما ذكرته ينبع من النهج الذي اختطه الملك لمسيرة الإصلاح الوطني، ذلك الذي أكده بقوله : ( إنّ الدولة ماضية بعون الله في نهجها الإصلاحي المدروس المتدرج ، ولن تسمح لأحد بأن يقف في وجه الإصلاح سواء بالدعوة إلى الجمود والركود أو الدعوة إلى القفز في الظلام والمغامرة الطائشة ، وإنّ الدولة تدعو كل المواطنين الصالحين إلى أن يعملوا معها يداً بيد وفي كل ميدان لتحقيق الإصلاح المنشود ، إلا أنّ الدولة لن تفتح المجال أمام من يريد بحجة الإصلاح أن يهدد وحدة الوطن أو يعكر السلام بين أبنائه) ! كما أكد أنّ حرية الرأي المسؤولة مكفولة للمواطنين (إننا لا نود التعرض لحرية الرأي المسؤولة الواعية ، ولكننا في الوقت نفسه لن نترك سلامة الوطن ومستقبل أبنائه تحت رحمة المزايدين الذين يبدؤون بالاستفزاز وينتهون بالمطالب التعسفية ،إنّ الغلو مذموم سواء جاء من هذا الفريق أو ذاك ، والتطرف مكروه سواء كان مع هذا الموقف أو ذاك) . تداعى إلى ذهني كلّ ما سبق وأنا أتأمل الملك وولي العهد يتوسطان المشاركات في الحوار الوطني في نجران ، تلك الصورة التي نقلتها الصحف كافة ، وكانت محملة بمؤشرات ودلالات لا تخفى على من أوتي القدرة على القراءة الفاحصة ، إذ ترسل رسالة للمتشددين الذين ما زالوا يكابرون ويصرون إصراراً عجيبا على عزل المرأة عن الفعاليات والأحداث المجتمعية بحجة عدم الاختلاط ، بأنه لم يعد لائقاً بثقافتنا الجديدة التآمرعلى وضع المرأة والإصرار على عزلها عما يموج به الوطن من فعاليات ثقافية وعلمية واقتصادية ، فهي شريك للرجل حضوراً ووجوداً وإنجازاً ، إنها رسالة للذين يسمحون للعمالة والدهماء والمنحرفين بالاختلاط بالنساء في البيوت والسيارات والأسواق ، ويغضون الطرف عن كل جرائمهم وانحرافاتهم ، ويصرون على حصر الاختلاط فيما يعدونه هم اختلاطاً ، أولئك الممانعون لم نسمع لهم صوتاً في إنكار جريمة ذئب الشرقية ، أتدرون لماذا ؟ لأن ذلك يدينهم؛ أليسوا هم من منع المرأة من قيادة سيارتها بنفسها ؟ مما جعل حاجة الأسر للسائق لا تسمح لهم بالتحقق من أخلاق من يستخدمونه لنقل بناتهم وزوجاتهم ، فكم عدد الجرائم التي يرتكبها أولئك المنحرفون الذين لم يكتشف أمرهم بعد ، إذا كان واحد فقط قام باغتصاب عشرات النساء والصغيرات والأطفال ؟ وهنا نتساءل أين خطباء الجمعة عن هذه الجريمة ؛ إنكارا لها وتوعية للآباء والأزواج ؟ خصوصا الذين أقاموا الدنيا يوم الجمعة قبل الماضي على رئيس هيئة مكة عندما تحدث عن رؤاه في الاختلاط ؟ وأين كتابهم الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً بمقالاتهم في الصحف الإلكترونية ضد من يسمونهم ليبراليين وعلمانيين ؟ كيف صمتوا عن جريمة كتلك ؟ سؤال يثير كثيراً من علامات التعجب، ويؤكد ما يقال منذ زمن بأن الخطاب الديني المتشدد خطاب انتقائي ؟ أخيرا ؛ إنّ ما تعيشه المرأة في هذا العهد الزاهر هو امتداد لما يصبو إليه الوطن من مستقبل مشرق يؤطره العمل الجاد ، والانتماء الصادق ، والرغبة المخلصة في دفع عجلة النمو والتطور إلى أبعد مستوياتها . ويظل أمام المرأة الكثير من الآمال والطموحات ، لكن ثقتنا بالملك جد كبيرة وهو نفسه الذي وعدنا خيراً وبشرنا بالقادم المدهش والرائع ، لكنه لم ينسَ أن يوصينا بالصبر الذي هو صفة المؤمنين .