أجمع عدد من المختصين من العلماء وأساتذة الجامعات على ضرورة التفريق بين الخلوة والاختلاط في عمل المرأة، ونبهوا إلى أن الاختلاط لا يلزم منه الخلوة، وأن لكل من الخلوة والاختلاط صوراً كثيرة، وأن الحكم عليها يختلف باختلاف صورها وأنواعها. وأوضحوا في حديثهم ل»الرسالة» أنه لا بدّ من النظرة المتأنية عند إصدار الأحكام والفتوى فيما يتعلق بالخلوة والاختلاط، ووجّهوا بضرورة الرجوع إلى العلماء المعتبرين المعتمدين من ولاة الأمر للنظر في قضايا الأمة والحكم عليها، وحذروا من الحماس والغيرة غير المنضبطين بقواعد الشرع وأدلته، كما دعوا إلى الرفق والتيسير في الفتاوى التي تتعلق بحاجات الناس ومصالحهم العامة كما هو الحال في قضيتنا هذه. المرجعية الشرعية بداية.. وحول المرجعية المعتبرة في مثل هذه القضايا يشير الدكتور سعود بن فرحان العنزي الأستاذ المشارك في كلية الآداب بجامعة طيبة ووكيل عمادة المعهد العالي للأئمة والخطباء لشؤون الدورات العلمية: لقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة حول موضوع الاختلاط حتى أصبح حديث المتخصص بالفتوى وغير المتخصص بها ممن لم تنطبق عليهم شروط الاجتهاد أو كونهم أهلاً للتخصص العلمي في مجال الأحكام الفقهية بدراساتها المقارنة، وقد أودع الله لدى المجتهدين ملكة فريدة من خلال ما تبحروا به من علوم ومعرفة وما عرفوه من المقاصد العظيمة للشريعة الإسلامية المطهرة الصالحة لكل زمان ومكان؛ حيث شرع الله تعالى الأحكام وهو أعلم بما يصلح وما لايصلح للبشرية . ويبيّن الدكتور العنزي أن الدولة -حفظها الله وحماها- قد وضعت هيئة لكبار العلماء يرجع لها في الأحكام الشرعية لاسيما الأمور التي يكون فيها أخذ وردّ وخوض من أطراف عدة تتجاذبه وكأنها نصبت نفسها في هيئة كبار العلماء من غير تنصيب من ولي الأمر -أعزه الله- الذي بايعناه على السمع والطاعة في المنشط والمكره. ويضيف د. العنزي: «علماؤنا الأجلاء في هيئة كبار العلماء مشهود لهم بالفضل والخير ودراسة الأمور وبحثها من جميع الجوانب المتعلقة بها، ومن ثم استصدار الأحكام التي يُسلم بها الجميع -وقد كفوا الجميع العناء والمسؤولية عن ذلك أمام رب العزة والجلال- فهم الموقعون عن رب العالمين». ويؤكد الدكتور سعود العنزي على التفاف الجميع حول ولي الأمر -حفظه الله - في تشكيله لهذه الهيئة التي تعتبر المرجعية الأولى في استصدار الأحكام - حفاظاً على الأحكام الشرعية من أن يخوض فيها من هو ليس من أهلها. ويرى أن على الجميع الرجوع لهذه الجهة الرسمية في هذا الوطن الحبيب توحيداً للآراء والتفافاً حول ولي الأمر -أعزه الله- الذي ندين له بالحب والولاء، ودحراً لكل متربص أثيم يريد بنا الفرقة والشتات. الاختلاط الإيجابيّ ويفرق الأستاذ الدكتور عبد الرحيم بن محمد المغذّوي الأستاذ في الجامعة الإسلامية بين مفهوم الاختلاط والخلوة فيقول: «هنالك فروق دقيقة بين مفهومي الاختلاط والخلوة في عمل المرأة، حيث إن مفهوم الاختلاط يستبين منه اختلاط مجموعة من الرجال والنساء في قطاع معيّن من قطاعات الأعمال لأداء مهمة معيّنة ينتفع منها الناس، وهذا الاختلاط يمكن أن نطلق عليه «الاختلاط الإيجابي» الذي يكون بضوابطه الشرعية وحسب مقوّمات ونظرة المجتمع، وهذا الاختلاط حاصل ويحصل على امتداد المجتمعات الإسلامية سواء في قديم الزمان أو حديثه أو حتى في مستقبله وهو في الغالب يكون مجموع خيره يغلب على مجموع شرّه، أما الاختلاط السلبي فهو بعكس الاختلاط الإيجابي، حيث إن الاختلاط السلبي يهدف إلى الخلط بين الرجال والنساء لأهداف غير قويمة، وغير حميدة الآثار، والأمثلة على ذلك كثيرة، وبنظرة أخرى نرى أن الاختلاط الإيجابي يتنوع ليشمل العديد من المناشط الدينية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والصناعية وغيرها من مناشط المجتمع الملتزمة برؤية واضحة ومعلومة. أما الخلوة بالمرأة فهي أيضاً تتنوّع إلى أنواع، فهنالك ما يطلق عليه خلوة بالمرأة من قبل ذوي المحرم، وهنالك الخلوة بالمرأة للقيام بأداء خدمة طبّية لها، وهنالك أيضاً الخلوة بالمرأة الكبيرة السن وهنالك الخلوة بالمرأة الشابة صغيرة السن، وهنالك الخلوة أيضاً بالمرأة غير المسلمة وكل واحد من هذه الأنواع له أحكامه، والذي يعنينا هنا أن الخلوة بالمرأة الأجنبية بقصد الإفساد أو ارتكاب المحرَّم أو إزهاق الروح أو فتنة المرأة في دينها وعقيدتها وأخلاقها أو حتى الخلوة بالمرأة بقصد القراءة عليها كل ذلك محظور شرعاً، والمسلم كما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم له حرمته، سواء كان رجلاً أو أنثى ويتمثل ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه». الخلوة تتنوّع ويقسّم الدكتور المغذّوي الخلوة إلى نوعين رئيسين: الخلوة المباشرة، وهي المواجهة بين الرجل والمرأة بصورة غير شرعية، والنوع الثاني: هو الخلوة غير المباشرة، وصوره في هذا العصر كثيرة جداً، وخاصة في ظل التقنيات المعاصرة كالإنترنت والفضائيات المتنوعة. ويلخّص الدكتور المغذوي كلامه بالقول «إنه لا يلزم من الاختلاط وجود الخلوة، كما أنه لا يلزم من الخلوة وجود الاختلاط بصورته الكبيرة، إذ إن هذه المسائل تخضع لعوامل عديدة منها الشخص أو الأشخاص المختلطون ومنها الدوافع أو الأهداف ومنها الحصانة والتثقيف العلمي والشرعي لهم ومنها المرحلة العمرية والسنّية التي يمرون بها، ومنها الدرجة العلمية التي يكونون فيها ومنها الوسط البيئي الذي يكونون فيه، وأخيراً الآثار الناجمة عن كل ذلك. والإسلام بمفاهيمه العظيمة وبوسطيته المعتدلة وبنظرته الواقعية رتّب المسؤولية على كل عمل يعمله الإنسان، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، كما بين الإسلام الأهداف التي ينبغي أن يلتفت إليها الإنسان المسلم في حياته ويتطلع إليها بغض النظر عن الوسط الذي يكون فيه، لأن من المعلوم أن الإسلام يهدف إلى تحقيق المصالح وتكميلها وتحقيق ما يصبو إليه المجتمع المسلم ويعزّز من مكانته على جميع المستويات الدينية والعلمية والثقافية». مراعاة الشرع أما الدكتور عبدالله بن علي الميموني الأستاذ بالمعهد العالي للأئمة والخطباء بجامعة طيبة فيقول: «الشرع الكريم راعى مصالح الناس، واختلاف حاجاتهم في مختلف الأعصار والأمصار، ولم يكن خاصاً ببيئة معينة، ولا ينبغي أن يكون خاصاً ببيئة معينة لأن رسالة الإسلام عامة لجميع الخلق، ومعلوم أن الشرع راعى المصالح من جهة الحفاظ على حياة الناس ومن جهة تيسير أمورهم وغير ذلك. وبالنسبة لهذا الأمر فالمرأة مصونة في شرعنا محفوظة، فلهذا أُمرت بأن تحفظ نفسها وأمرت بأن تستر عورتها وإن اختلف العلماء في بعض مسائل من عورة المرأة اختلافاً مشهوراً». لفظ مجمل ويشرح الدكتور الميموني أن الخلوة منهيّ عنها صيانةً للمرأة، أما الاختلاط فلفظ مجمل منه ما هو مسموحاً به مراعاةً لمصالح المرأة وقد يكون منهيًّا عنه، فيقول: «وأما قضية الخلوة فإن الخلوة هي الانفراد، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يخلو بالمرأة وقال: «ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما»، فالنهي عن الخلوة بالنساء معناه أن ينفرد الرجل الأجنبي بالمرأة من غير حضور محرم فهو مظنة الوقوع في المحظور، وهذا أيضاً فيه مصلح للمرأة لأن المرأة ضعيفة وقد يكون هناك في بعض الأوقات ضعف عن بعض الرجال وقد يحمل المرأة على فعل ما لا يجوز إما والعياذ بالله اغتصاباً أو ما هو دون ذلك، فالنهي عن الخلوة بالمرأة بيّن». وفي كلامه على الاختلاط يقول الدكتور الميموني: «وأما الاختلاط فلفظ مجمل، والألفاظ المجملة لا يستفاد منها التحريم المطلق فمن الاختلاط ما تبيّن من نصوص الشرع وأدلته ووقائع السيرة النبوية مع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابيات جوازُه، كذهاب المرأة للسوق لقضاء حاجة وهي تختلط في السوق، ولهذا جعل عمر الشفاء رضي الله عنها تتولى أمر الأنظمة وتنظيمها في السوق، وكن يخرجن لقضاء حاجاتهن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أُذِِن لكنّ أن تخرجنَ لقضاء حاجاتكنّ»، فهذه الحاجات تختلف من وقت إلى وقت، فقد يكون من الحاجة زماننا أن تركب المرأة في الطائرة -على اختلافٍ في هل يشترط وجود المحرم في الطائرة أو لا- أو تذهب إلى قضاء حاجة عند طبيبة وفي طريقها تمر برجال وهكذا في أحوال مختلفة لا يوجد لها ضابط عام. أنواع الختلاط ويبيّن د. الميموني أن الشرع قد أباح بعض صور الاختلاط ونهى عن بعضها، فمن الاختلاط ما نهى عنه الشرع إمّا لأنه مظنّة التماسّ المؤدي إلى ما لا يجوز وإمّا صيانةً وحفظاً للمرأة من الوقع في المحظور والانسياق وراء ما تتضرر منه في دينها أو دنياها. وإذا نظرنا إلى الاختلاط الموجود في عهد السلف والصحابة نجد أن بعض أنواعه اقتضت المصلحة الشرعية تجويزه، كشهادة المرأة عند قاضٍ أو ذهابها لمن تتطبب عنده أو استماعها لموعظة أو استفتائها من مفتٍ أو غير ذلك، كذلك نجد في عهد الصحابيات من كانت تداوي الجرحى في المعارك وتسقي كما روت الربيع بنت معوّذ أنهن كنّ مع النبي صلى الله عليه وسلم وكنّ يسقين الجرحى ويداوينهم. معالم في الطريق ويوضّح الشيخ د. الميموني أن هناك في الطريق إلى هذه القضية معالم، تبيّن أن الشرع توسط في هذا الأمر فراعى مصلحة المرأة في خروجها لبعض حاجاتها وبعض مخالطتها للرجال في بعض الأمكنة ولهذا في أحد الأخبار الواضحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على النساء ووعظهن وكنّ يتصدقن ببعض ما عندهن من حلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك في حجة الوداع في حديث الفضل بن العباس وقف صلى الله عليه وسلم ومرّ بظعائن (وهن النساء في الهوادج) يجرين، ولما مرّ الظعن طفق الفضل ينظر إليهن فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الفضل ووضع يده على عينيه ولما جاءت المرأة الخثعمية تسأل لوَى صلى الله عليه وسلم عنق الفضل ومعلوم أنه في ذلك المكان كان نساء ورجال. ويضيف الدكتور الميموني: لا بد للمرأة من قضاء حاجاتها فتركب في حافلة أو قطار أو طائرة ويوجد من الرجال غير المحارم، وقد تحتاج إلى أن تستمع من أستاذ علماً أو تسأله من غير خلوة، وهكذا فينظر لقضايا الاختلاط نظرة متأنية، فما اقتضت الأدلة جوازه وليس فيه مخالفة للشرع بوجه من الوجوه فالتيسير على الناس يقتضي عدم المنع منه، فلهذا المفتي ينبغي له أن يراعي الدليل وينزله على الوقائع ويراعي مصالح العباد لأنه أُمر بمراعاة التيسير في فتواه ويرجح إذا اضطرب عليه الأمر أو اشتبه ولم تتضح له دلائل بيّنة في الأمر يرجح ما فيه يسر، كما قال الإمام الشاطبي ما معناه أنه سأل بعض شيوخه قال له إنه يشتبه عليّ بعض المسائل لاختلاف أئمتنا فيها ولا يوجد فيها دليل، قال فسألت بعض شيوخي فقال: إذا جاءك مثل هذا فانظر إلى ما هو أيسر فخُذْ به، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فما فيه مشقة على الناس والقول به بسبب دعوى الاحتياط وسدّ الذرائع يتعارض مع القاعدة الأخرى وهي دفع المشقة وجلب المصلحة والأخذ بالأيسر فالنظر الحكيم في مثل هذا أن يُنظر إلى كلّ واقعة بحسبها وأن لا يكون هناك كلام عام يُجزم فيه بتحريم كل ما دخل تحت هذا المسمى فقضية الاختلاط كلمة عامة. الغيرة والحماس ويرى الشيخ الميموني أنه قد يكون عند بعض الناس من الغيرة والحماس ما يحمله على إنكار ما تُجيزه الأدلة وقد تكون هناك شبهة تمنع منه، ويقول: «اجتهادات العلماء ليست هي التي يُلزم بها المفتي أو العالم أو طالب العلم الناس أو يحملهم عليها، ولذلك نجد في كلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارهم مما يتعلق بمثل هذا ما لا يجب على الناس أن يقولوا به فعائشة رضي الله عنها تقول: لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهنّ المساجد كما مُنعتْ نساء بني إسرائيل رواه البخاري وغيره، وعبدالله بن عمر لما حدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاتمنعوا إماء الله مساجد الله» قال بعض التابعين من أبنائه: والله لنمنعهنّ، فهو بحكم الغيرة على زوجته رأى أن يمنعها، فغضب عليه عبدالله وقال: أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتحدثني برأيك أو كما قال، فأنكر عليه إنكاراً شديداً، وعمر رضي الله عنه ثبت أيضاً أنه طلب من بعض أزواجه ألاّ تخرج إلى المسجد فألحّت ولم يكن يستطيع منعها لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للنساء أن يخرجن إلى المساجد، قالوا فقعد لها عمر رضي الله عنه في الطريق فضرب مؤخرتها كما قالوا، فلما جاءت وهي من الصالحات الفاضلات قالت: لن أذهب إلى المسجد بعد اليوم فقال: ما بك؟ فقالت: فسد الناس، فهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه لا يجب على الناس أن يفعلوه أو الذي قالته عائشة، فالشرع ألا يلزم الناس إلا ما ألزم الله تعالى به العباد من دليل بيّن ولو أخذ بمجرد الحيطة والحذر والاحتياط لشق على بعض الناس في بعض الأمكنة والأعصار ما قد يكون يسيراً على بعضهم في مجتمع ما أو في مكان ما.