لم أكن طالباً متفوقاً قط.. ولم أكن بليداً أيضاً.. كنت في منطقة (الوسط) من الفصل، يوم كان طلبة العلم في الفصول يتفاوتون في السن والطول، إذ أن أحداً من أقراني ما كان يعرف يوم مولده! كان حكيم (الصحيَّة) يعتمد في تحديد السِّن على أضراس الفك وغور الحنك.. نفتح له أفواهنا على اتساعها أسوة بمخلوقات الله من ذوات الأربع.! كانت طموحاتنا متفاوتة في الطول والقصر.. فبيننا من يريد أن يصبح دكتوراً، أو (هاموراً)، أو مأموراً لليازان، أو من كانت غاية طموحاته أن يمتطي ظهر حمار السقَّا، حيث يمكن للناظر عن كثب أن يدرك أيهما أكثر نفعاً الراكب أم المركوب! كنت أرسب في بعض الدروس وعلى رأسها درس (التاريخ) فأنا لا أثق في كثير مما قيل عن تاريخ الأمم والشعوب.. ربما كان معي بعض الحق، بدليل أنه كلما جاءت أمَّة شطبت تاريخ أختها وكتبته على هواها.. إن كتاب التاريخ ظل مفتوحاً للحذف والإضافات، لا تتوفر له الحماية من (التعدِّيات)، ولا يتعفَّف من أكل لحوم الأحياء والأموات!. ٭٭٭ كانت على سحنتي مسحة زائفة من سيماء القيادة، جعلت أستاذنا ينقلني من مركز الوسط المحور إلى الصف الأول المواجه له وللسبُّوره.. وقد جلب لي هذا (الترفيع) غير المرغوب فيه كارثة حقيقية! من عادة أستاذنا المتوجِّس المتحمِّس أن يشفط الهواء من زاوية فمه ويتحسَّس الشفط بأصابعه المبيضة من (الطباشير ) التي شكَّلت في جانب من الوجه سحابة ركامية تنذر بشتاء مطير.. كان عليّ أن ابتسم وانسم بخفّة حتى لا ينفجر منطاد الضحك الساخن ويهوي بي إلى ما لا تُحمد عقباه ولا يعرف مبتدؤه. ومنتهاه، لكن حرصي (الأخرق) على المبالغة في (الكتم) فجَّر ضحكة مدوية كما مدفع الإفطار فتداعى لها الفصل كله كما يتداعى الجياع على القصاع.. وكان هذا الحدث (الكارثي) كافياً لأن يقذف بي من (كرسي الرئاسة) إلى آخر صف يحاذي الجدار! هناك.. حيث يُغط النائمون في ُسبات عميق، تواريهم التخوم والسواتر البشرية عن عيون الأستاذ، أتاح لي الجو الحالم بعيداً عن مسؤوليات القائد المخلوع أن أصغى إلى هينمات الوجدان، وانهمك في رسم وجه: إنسيَّة لو رأتها الشمس ما طلعت، من بعد رؤيتها يوماً على أحد.. ولم تكن إلا (نائلة) أو (بنت الناموسية) التي حدثتكم عنها وتمركزت من الطفولة في الجانب الأيسر من المخ، وأبحرت منه إلى نخاع العظم وظلّت هناك آكلة.. شاربة.. نائمة.. وكأنها (دعد) التي عناها الشاعر حينما قال: ويزين فوديها إذا حسرت ضافي الغدائر فاحم جعد فالوجه مثل الصبح مبيضٌ والفرع مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا والضد يُظهر حسنه الضِّدُ هذه (الفضفضة) بقي منها على اللسان (المذاق)، فلعل الله يجمع ما تبعثر من الأحلام في أوراق، يضمها كتاب، يريح (المستروحين) من أولي الألباب، نلُم فيه من انفرط من فصوص عقد أيام كلها (عسل وطحينة) ليتها تعود.. وهاتوا لي معاكم (عود) فما عاد في هذه المساحة مكان يتسع لقيام ولا قعود!.