أستعير عنوان هذا المقال، من الشيخ جميل الحجيلان في مقاله المنشور في صحيفة الشرق الأوسط الأسبوع الماضي. جميل الحجيلان مع حفظ الألقاب بإمكانه أن يضخ حيوية في السجال الثقافي، تطال التاريخ العربي السياسي الحديث تحديدا. الرجل الذي تحرر من عبء المنصب، هاهو يستعيد تاريخ مرحلة بطريقة بقدر ما فيها من حذق الكاتب وصنعته، بقدر ما فيها من قلق لا تقوى على طمره الأسئلة الشاقة، التي مازلت تطرح نفسها في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الحديث. يُحدثنا جميل الحجيلان أنه في ربيع 1951 تجتمع ثلة قليلة من الجامعيين - من الذين عادوا للتو للمملكة بعد تخرجهم - في فندق صغير في مكةالمكرمة لتخرج بفكرة ومبادرة "مدرسة الثقافة الشعبية"، في محاولة لنشر المعرفة والعلم بالعمل الطوعي في مجالات درس فيها هؤلاء الجامعيون، او وجدوا بما لديهم من معرفة، ما يمكن نشره بين الراغبين، مما يسهم في إشاعة أضواء العقل الاجتماعي بالعلم والمعرفة في بيئة كانت لا تزال تعاني شبح الأمية، وقلة مصادر المعرفة، وتواضع إمكانيات تعميم التعليم. وإن كان هذا يوحي بشيء فهو أيضا يوحي لي كقاريء أن تلك الأعوام البعيدة لم تكن أعوام حيرة فقط، ولكن أعوام أحلام كبيرة ، ومبادرات رائعة من طلائع الجامعيين أنذاك. كتبت هنا يوما عن "شهادات وطنية متى ترى النور". وكنت اعتقد ومازلت أن ثراء تجربة جيل الخمسينيات والستينيات، قادر أن يصنع في عقل جيل آخر استحقاقا مهما، عنوانه سجال ثقافي حول التجربة والخبرات والتحولات وحتى سنوات الحيرة أو الضياع. الحس الوطني الذي حمله جيل الخمسينات والستينيات وطلائع الجامعيين العائدين، حمل معه مبادرات اجتماعية، وحمل معه أيضا رؤى ونشاطاً ثقافياً وفكرياً. أرى أن فيه أيضا من الحيوية والأحلام، كما أن فيه من الحيرة أو الضياع. ولو وُضعت التجارب والرؤى في دائرة التحولات التي عاشت المنطقة وتأثرت بها، لاكتشفنا أعواما فيها من الحيوية والفاعلية حتى لو بدت النتائج متواضعة، كما فيها أحلام كثيرة بلا وزن على ارض الواقع...وقد تبدو اليوم أحلاما مخادعة بعد انكشاف العجز الفاضح في تحقيقها. إلا أن البيئة التي لا تتحرك فيها الأحلام الكبيرة أيضا، تسيطر عليها عقدة التوقف وحالة الاكتفاء وتدريع الذات بالوهم، والبقاء في دائرة الجمود. السجال الثقافي حول مرحلة ما تاريخيا وسياسيا واجتماعيا، لا يعني بحال إدانتها قدر ما يعني اكتشاف الخلل وقراءة تلك المرحلة قراءة موضوعية بلا تحيز أو قلق. والبحث عن دروس تمكن من تجاوز مرحلة الحيرة والضياع، حتى لا يصبح تاريخنا سنوات حيرة وحاضرنا سنوات تيه، ومستقبلنا بلا رؤية ولا ملامح ولا استشراف. أعود للمقال الذي أثار حس التأم ل والبحث في ثناياه عما يريد ان يقوله جميل الحجيلان. وأعتقد أن شخصية ذات تجربة طويلة وعميقة كالوزير والسفير والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية جميلان الحجيلان، مرشحة أكثر من سواها لاستعادة قراءة تلك المرحلة بعين الموضوعية والبحث الدقيق، حتى لا تصبح كل سنواتنا من سنوات الحيرة والضياع. وحتى يكون القاريء على بينة مما أثار لدى حس التساؤل، حتى بدأت الشك بأننا ربما نترحل من زمن عربي إلى آخر، وكل في مرحلة نبشر أنفسنا بعودة الوعي بعد أن نهجو سنوات الحيرة والضياع لنقع في سنوات التيه، وربما التوقف إذا لم يكن التراجع.. فهذا بعض ما جاء في المقال: " لقد هدتنا الهزيمة العربية في فلسطين، وضعضعت كل ما استقر فينا من موروث الزهو بتاريخنا، وبأننا امة انفردت بما لا تقوى عليه أمم أخرى من الشجاعة والتضحية والفداء! وأفقنا على رغبة عارمة في أن نعيد النظر في كل شيء، وأن لا محظور في ما قد نأتي عليه من حديث في السياسة والدين والاخلاق! نريد أن نعرف لماذا هزمت الجيوش العربية النظامية في وجه ما أسميناه (بالعصابات)؟ فلحقت بنا مذلة أتت على عزيمتنا، وانحدرت بنا إلى هوة من العار والانهيار! . وتحولت أروقة كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول لمراجل لا تهدأ من الجدل الحر، الجريء، الغاضب، الملتهب. نهدأ قليلا كي نعود إلى حوار أكثر التهابا ! لم نعد خير امة أخرجت للناس. نحن أمة غاب عن حياتها العلم. هُزمنا لأن المقاتل الإسرائيلي كان الأفضل تدريبا من المقاتل العربي، وأحسن تسليحا، وأكثر عافية، وأصلب عقيدة، وهو يقاتل قتال الموت أو الحياة..هزمنا لأننا أمة تستعين بالأحجبة وزيارة الأضرحة والتعاويذ. وهم شعب يستعين بالبحوث والمختبرات. ليس في حياتهم شيء أسمه الحظ والقدر. ونحن نعزو كل أخطائنا وحماقاتنا للحظ والقدر!. ويمضي بنا التساؤل والغضب والتمرد على كل شيء. ولا نهدأ إلا حين نُجمع على أن العلم هو الذي صنع الإنسان، يحرره من القدرية ويفجر فيه القدرة على فهم أفضل للحياة. علينا أن نوقف قرع الطبول ونسكت عزف المزامير ونفيق من الوهم الذي عشنا فيه... هذا ما كان عليه حالنا سنة 1948 والأعوام التي أعقبتها. مشاعر محزونة وفكر غاضب متمرد. حملنا تلك المشاعر لأعوام عديدة أسميتها أعوام الحيرة، وأعوام الضياع". وعلى الرغم من قراءتي لهذا المقال عدة مرات، فلم أتبين بعد لماذا يهجو جميل الحجيلان تلك السنوات ويصفها بأعوام الحيرة والضياع؟. وقد يرى قارئ عابر انه ربما يعتذر عن رؤيته السابقة لبواعث التقدم، ومعطلات النمو، ومسببات الهزيمة. لكن هل كانت رؤيته للعلم بالمفهوم الذي قدمه كسلاح ينقذنا من وحل التخلف والتواكل وترحيل مشكلاتنا للقدر دون أن يكون لنا دور في الاختيار أو العمل مع الإيمان بالقدر، لا التواكل والعجز والاستسلام. أم انه كان يريد أن يقول شيئا آخر لكن ثقل سنوات العمر، وتراجع الأحلام، والحركة في دائرة التاريخ القلقة، هو ما يجعله يتوقف عند هذا التعبير الناقص. ولأني اقتربت من وعي جميل الحجيلان، فلا يمكن أن أتصور انه يقصد هذا حتما، أو يراه أو يقول به. وإنما أظنه يبكي داخليا تلك الرؤية التي أشعلت في جيله أحلاما كبيرة، وأمان عظيمة..لدرجة الوهم بإمكانية تحقيق كل تلك الأحلام، وإن على أنقاض التاريخ المستحكم. لقد هجا سنوات الحيرة والضياع على طريقة "كان هناك حلم" هل اعتذر عنه لأنه لم يكن حلما قابلا للحياة. أما إذا كان ما يقصده حقا بأنها فعلا سنوات من الحيرة والضياع فهل يرى جميل الحجيلان أننا استيقظنا حقا بعد ستين عاما لننعم بجلاء الوهم والإمساك بأطراف الحقيقة، والخطو في المسار الصحيح الآمر الذي سيوصل العرب إلى غاياتهم من الكرامة والحرية والتقدم ونفض عار الهزيمة!!!. لم يعش جيلي سنوات الحيرة تلك، ولكنه أيضا عانى من آثارها، ويعيش اليوم تداعياتها، وتحزنه كما تحزن جيل تلك المرحلة تلك التحولات التي أنهكت العرب. فهل هو الاستغراق في وهم استعادة الوعي بعد سنوات الحيرة والتيه والضياع؟!!. أعتقد أن جميل الحجيلان لم يكن في سنوات حيرة عندما رأى العلم مفتاح الحياة والنصر والتقدم وتحقيق الأهداف. فهو وجيله لم يأمروا فقط بمعروف العلم فقط وهو شرط أكيد في الخيرية ( كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف... ) وإنما انبثقت حيوية ذلك الجيل عن مجهود تعليمي وتثقيفي عبر "مدرسة الثقافة الشعبية". إلا أن عودة العزيز جميل الحجيلان ليؤكد في آخر المقال مرة أخرى " لقد كانت حقا أعواما من الحيرة وأعواما من الضياع" جعلني لا اكف عن استعادة السؤال السابق. لماذا كانت أعواما من الحيرة، ولماذا أطلق عليها أعواما من الضياع؟. وإذا كانت كذلك كيف تبدو الأعوام التي تلتها، حتى بعد ستين عاما؟. لقد عاصر جميل الحجيلان كثيرا من التطورات السياسية في العالم العربي، وخبر التجارب الفاشلة في الفكر والسياسة والانتماء للشعارات وأصوات الحناجر العالية. ويعرف ونعرف الكثير ممن دفع الثمن لسنوات الحيرة والضياع...كما دفعت ثمنها الشعوب العربية أضعافا مضاعفة. إلا أن ما يراه اليوم من سنوات الضياع والحيرة وربما رأها بعض جيل عاشها وانتمى إليها وسلك فيها سنوات من الحيوية والأحلام.. ولولا تراكم التجارب، واكتشاف بواعث الهزائم، ومأزق التوقف والجمود، هل كان يمكن القول اليوم إنها من سنوات الحيرة والضياع. ما أخشاه أن من يقرأ مقال الحجيلان لا يستبين الصرخة الدفينة، والصوت الخافت والمتردد بالاحتجاج، أو يظنه اسقط شرط العلم والمعرفة وتجاوز مفاهيم التوقف تحت الاحتجاج بالحظ، أو صروف القدر مع التواكل والاكتفاء. وما أخشاه أيضا أننا لم نعثر بعد على وعي يستعدينا من سنوات الحيرة والضياع. وأننا نتصور في كل مرحلة أننا عثرنا على ذواتنا، وظفرنا بالحقيقة، واطمأنت نفوسنا بعد أن ودعنا سنوات الحيرة والضياع العربي. كم اود لو أشار الوزير المثقف والكاتب المميز، إلى عقدة التوقف والتيه والحيرة والضياع، وقارب بلا حذر شروط التقدم بعد تلك السنوات الطوال من تجربة حافلة وغزيرة وواسعة. فما جاء في المقال لا يشبع نهم قارئ مثلي. وربما أيضا قرأه آخرون على غير وجهه. وربما أصبح أيضا إدانة لمرحلة بأكملها، رغم أن التاريخ خط صاعد حتى لو حمل تجاربه المؤلمة، وسنوات الانكفاء، وسنوات الحيرة والضياع والتيه في مرحلة من مراحله. ولعلي أقترح على جميل الحجيلان استعادة مبادرة "مدرسة الثقافة الشعبية". وسأكون أول تلاميذها. فما أحوجنا للاستماع لخبرات وتجربة ذلك الجيل، خاصة إذا كان من خامة ووعي وثقافة جميل الحجيلان. لم يعش جيلنا سنوات الحيرة تلك، ولكنه أيضا عانى من آثارها، ويعيش اليوم تداعياتها، وتحزنه كما تحزن جيل تلك المرحلة تلك التحولات التي أنهكت العرب ...فهل هو الاستغراق في وهم استعادة الوعي بعد سنوات الحيرة والتيه والضياع؟!!.