«الشكل الأصلي للتجربة يعني تقديم الحاضر ذاته؛ ولا يمكن أبداً ترك الحاضر الذي لا يترك أبداً، ولا شيء حياً يمكن التخلي عنه!» جاك دريدا ڤ أثناء مطالعتي للمجموعة الأولى: «أسمر كرغيف - 2004» لعبدالرحمن الشهري، هجست بحثاً عن مدخل إليها، غير اتكائها على مزاجية الكتابة التفعيلية التي وصلت مدى بات يخنقها سواء في البساطة أو التبسيط، إلى موضوعة إنسانية لا تقع في تشيئية اليومي والهامشي الذي أنجزت - عبر استنفادها واستهلاكها - تأويلات له مريعة من قبل كتاب أو شعراء قصيدة النثر في هذا الشق، غير شقها الثاني في اللغة العليا التي ماهتها في البعد الأسطوري والصوفي، ولسنا في شعر التفعيلة عن شقين من مأساته التي توقفت على النزعة الأيديولجية التي وقع بها - ربما يقع بها عند آخرين - في أدب الالتزام الموجه، والأخرى في تقنية حائرة عاشتها تجارب الانتقال من رواد الكتابة التناظرية في أواخر حياتهم: الأخطل الصغير، أحمد علي باكثير ويوسف الخال (الحيرة بين البحور المركبة التفاعيل والصافية)، أو من كانت مرحلة التناظري عابرة فيما كان الإنجاز الأكبر في التفعيلة: بدر شاكر السياب، نزار قباني وصلاح عبدالصبور (الانتصار للبحور الصافية: الرجز والوافر). لكن الشاعر الشهري، في نصوصه يعيش الحالة التي عاشها نزار قباني، فيما لم يلفت إليها عند الباحثين حتى الآن، وهي إيقاعية الكتابة سواء في خدعة القافية المنتظمة فيما ان النص لا يزن بحراً موحداً أو متعدداً (مثلاً: كلمات)، أو الانطلاق من أحد البحور دون الرجعة المدورة (مثلاً: كل عام وأنت حبيبتي). هذا ما ألحظه، من تلك الكتابة الموقعة، في حال توفيقي انتقائي بين المتدارك (نص: تقاطر في قلبه الأصدقاء) والرجز (نص: وحيداً.. يؤدي جميع الأدوار). دون أن أنوه إلى قاسم حداد الذي دفع بمرحلة نزار قباني، من إيقاعية الكتابة نحو الكتابة الموقعة - هذا تلاعب لفظي صفة وموصوف بدل صفة نسبية - إلى أوج بعيد تناهى في نصوص: «يمشي مخفوراً بالوعول - 1995م» أو نصوص: «علاج المسافة - 2000» ربما أتناول ذلك أثناء قراءة أحد نصوص. ان النص - المدخل الذي سوف نتناوله غير وحيد بل سوف نؤنسه بنص آخر سابق له، ثمة مشابهة في عناصر الموضوع بينهما دافع لئلا تلتبس الحالتان ولتباين مسألة لا تقتصد المفاوقة والتجني، إنما سوف تعيينا لأجل تبيان وجه مقارن بين نص: «سيعودون حتماً» (ص: 13- 15) في مجموعة: «أسمر كرغيف - 2004» (1) لعبدالرحمن الشهري، ونص: «بمَ تحلمون؟» من مجموعة: «قلق - 1960م» لناصر بو حيمد. ان المقارنة بين النصوص قد تكون ذريعة تفوق ذات النص المقارن، وقد تكون - أيضاً، وسيلة لقبول التكافؤ والتسامح عبر نسبية الفعالية النصية المتفاوتة بين عناصر زمن ومكان أو مهارة وطاقة الموهبة من جهة ومن أخرى الموضوعة الحاكمة للنص وطريقة التعبير عنها. إنما المشترك بين النصين، هو واقعية الوصف حيث حركية عناصر المشهد الدائمة - أي الدائرة في تكرار يومي - عند الشهري، ومجهولة المصير - أي زمنها يوشك إلى نهاية - عند بو حيمد. كيف استفتح كل من النصين ذاته على المشهد الذي أوكل نفسه لوصف؟ نص الشاعر الشهري يبدأ هكذا: «أتخيلهم ساعة القيظ / يمدون أرجلهم في الظلال / ويخلون للعابرين الطريق / وقد كوموا / ما تطاير من ورق / وما خلف السير من أتربة». (أسمر كرغيف، ص: 13). عبر نثرية توازي الوصف والمجاز في زمنها المضارع: أتخيل، يمد، يخلي، والماضي: كوم، تطاير وخلف. ذلك تعميقاً لجدلية الزمن (اليوم والأمس) في دورانه التعاقبي، فيما ماذا يقول نص بوحيمد؟ «بمَ تحلمون؟ / يا أيها المتسكعون / الجائعون المتعبون/ أجفانكم فيها ابتهال / وعلى شفاهكم سؤال / وعلى الجباه الصفر/ شيء لا يقال / بمَ تحلمون؟» (قلق، ص: 128- 129). حين يبتني الشاعر الشهري نصه على تفعيلة: المتدارك، رمزاً لخفة الحركة وحيويتها عند من يصفهم في المشهد، نجد ان الشاعر بو حيمد يلجأ إلى أسلوب خطابي عالي النشيد من خلال الاعتماد على تفعيلة الكامل، فهي توحي بنبوءة المصير المجهول خيره من شره. عندما يفصل الشاعر الشهري في حالهم ليكشف عبر احالة إلى مهنة هؤلاء الذي يصفهم، يمسك في سرديته قوى المجاز مصاحبة ومتكافئة في بنية السطور الشعرية: «لا أكاد أراهم بلا تعب - عندما يحملون مكانسهم - صوب أحلامهم - ويغوصون في عرق لا يجف..» (أسمر كرغيف، ص: 14). كذلك يفصل بو حيمد في المقطع الثاني عن حال أعضاء مشهده الإنساني الذي يعمق مأساة مفتوحة الدلالة، فيما أحجمنا ذكر: المكانس، في المقطع السابق من نص الشهري إلى تحديد مهنة أعضاء مشهده: عمال البلدية (أو يتولون نظافة شوارع المدينة وأرصفتها)، لكن ماذا يقول ناصر بو حيمد الذي لم يقطع نشيده الذي سوف يتجدد عبر نداء تفجعي آخر: «يا أيها النفر الجياع / المدلجون بلا ضياء / العابرون على السهوب / بلا متاع / بم تحلمون؟/ يا أيها الراعي الكئيب/ المستظل على الكثيب / أطفالك الزغب الهزال/ الهائمون على الرمال / بمَ يحلمون؟/ . ان ما يتبادر إلى ذهننا ثالوث النحس الإنساني - كما يصفه ابن إدريس - عبر عناصره الثلاثة: الفقر، الجهل والمرض (4)، فيما تتفاوت الدرجة، درجة عناصر مضي هذا الثالوث، إذا انتقلنا من نص بوحيمد إلى نص الشهري مم بدأت به في الفقر، إنما نحو البؤس والتعب. يؤكد الحس البصري في نص الشهري تصريحه بضمير يزاوجه بفعل: شاهد، حامل الدلالة كلها: «ونحن الذين نشاهدهم/ يصعدون إلى الباص عند الغروب/ سوف نكنسهم بمصابيحنا / ونكومهم خارج الذاكرة» (أسمر كرغيف، ص: 15). فيما يظل نص بوحيمد ضنين الدلالة حتى ان تملكنا معناه، فهو محير في الاحالة كقوة احكام تملكه من الانشاد التفجعي والوصول به إلى أقاصيه: «يا أيها المتململون/ الساخطون على التراب/ الضارعون إلى الضباب/ المقتفون خطى السراب / بمَ تحلمون؟ هذا الثرى ظل وماء / خبز الجياع / الضارعين إلى السماء / الخائفين على الدماء / حلم الرجال الكادحين بلا ملال/ الناحتين من الصخور / بيوتهم، ومن الجبال/ يا أيها المتسكعون/ الجائعون المتعبون/ بمَ تحلمون؟» (قلق، ص: 131- 132). ان بصرية التيه، في نص بوحيمد، بدلالتها المختفية تتيح احالات ظنية، على عكس ما كانت محجمة وقاطعة في نص الشهري السابق، ان مفردة: الرعاة، توصي التوجه إلى ساكني الصحارى، فهل تدين هيامة على الرمال، وسخطاً على التراب، وضراعة إلى الضباب واقتفاء خطى السراب؟ ان هذا الثالوث - اللعنة: الفقر، الجهل والمرض. يرتكز ويتعالى في نشيد كامل الرنين، حسب تفعيلته الثنائية والواحدة في تقسيماتها إلاّ أنها تؤكد في حسابها غير المنفرط، حالة الجوع (خبز الجياع) من فقر، وحالة الجهل في (المتسكعين الكادحين الحالمين) وحالة المرض في (الضراعة إلى السماء والخوف على الدماء). كيف نحل بصرية التيه بين عمال البلدية الذين يرى في وجوههم التعب منسيين، بين كنسهم أحلاماً تكنسها لهم مصابيحنا، إزاء هؤلاء المتسكعين - أي: التائهون - الضائعون - الذين عبر سخطهم وضراعتهم نحتوا بصبر لا يعرف مداه من الصخور والجبال بيوتاً لا تقي من الجوع والتعب ولا حتى الحلم يقيهم منها؟ إذا كنا أجرينا مقارنة كان غرضها التكافؤ والتسامح بين شاعرين يفصلهما ثلاثة أجيال، فلن يجيب عن دلالة بصرية التيه إلاّ زمن النص، والذي سوف ينقذنا شاعر من الجيل اللاحق للشاعر بو حيمد، إذ يشير الشاعر الحميدين، في لقاء له أجاب عن بوادر الحداثة التي سبقت جيله، مشكلة ارهاصاً لهم، عن ناصر بوحيمد: «الذي نشر عدة قصائد في مجلة الأديب اللبنانية في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، وأشهرها قصيدة: بمَ تحلمون؟ وهي عن اللاجئين الفلسطينيين» (5). إذن، هل حلت بصرية التيه هكذا في ربطها باللاجئين الفلسطينيين، المطرودين من منازلهم، والمغتربين في جغرافيا المنفى، لنذكر أناشيد توفيق زياد (في حسها المؤدلج) من جيل شعري ومن آخر محمود درويش الذي سوف يوسع مداها في نطاق الفلكلور والأسطورة، أو البعد التاريخي والديني، لنذكر أيضاً - مغناة: «راجعون - 1958م» التي كتبها الاخوان رحباني لصوت فيروز وكارم محمود في تسجيلها القاهري لتتقاطع ونص بوحيمد، عبر صوت شبحي لفيروز يستغيث بهم لينهضوا: «وقوفاً، أيها المشردون!/ وقوفاً يا ترى هل تسمعون؟/ يا نائمين تحت كل شرفة / يا ساهرين عند كل عطفة» (6)، على ان النص توحي دلالاته إلى بعيد ربما كانت الذاكرة تتأمل، ذلك الضياع السامي عبر أو هروب سببه المجاعة الكبرى التي حلت في منطقة غرب الجزيرة العربية، زمن العمالقة الذي تجمعوا (مع عناصر غير سامية، آرية متنوعة) ليدخلوا مصر مذهليها بخيولهم وعرباتهم، فلا يستطيع مانيتون أو منيطون المؤرخ والكاهن المصري (القرن الثالث ق. م) إلاّ ان يصفهم بقادة الخيل أو الهكسوس (هيج: قاد، سوس: خيل بالعبرية)، الذي سوف يتمثلهم كل دفعة من الشعوب السامية تتعرض للشتات (كالعبران في سيناء) والتمزق (السبئيون في جنوب تهامة). إن أي شعوب تعيد كتابة تاريخها إذا ما فقدته أسراراً سيحفظ الأدب كونه مكتوباً، مسجلاً ومرموقاً، لكن الأدب يحافظ على سر غير موجود، وبين نص الشاعر الشهري الذي يتحدث عن العمالة الهندية (ربما نيبالية أو سيلانية) التي تنكس أحلامها تبقى في ذاكرتنا اليوم لا غداً، كذلك حاصل ونص بوحيمد الذي خيل إلى أنه يستعيد ذكرى المجاعة، في شتاتها أو ضياعها، فهل من شجرة أو قبس دلنا إلى ذلك سوى راع كئيب (دون استدلال الحميدين الذي أنقذنا أو أضاعنا)، في صحراء جائعة إليه ونفر يعدون أنفسهم بخلاص لا يأتي أو يعود كما يعود صحبة المكانس كل صباح بعد ان كومناهم خارج الذاكرة. ما من حكم مقطوع أو مطلق، على هذه المجموعة، مجموعة الشاعر عبدالرحمن الشهري، ولا من درس ماسح ليشمل كل المجموعة لتترك فسحة القراءة تنال أقساطها، على اعتبار ان نتفاءل بأن أختاً لها ستأتي في المستقبل كما أوضح لي الشاعر، في مهاتفة بيننا، فلنا ان ننتظر بلا خوف ان تصبح المجموعة ذكرى شاعر وليس العكس! كما هو حاصل لنا مع ناصر بوحيمد في: «قلق» تركه لنا وغاب. ڤ انفعالات، ترجمة: عزيز توما، دار الحوار - 2005، ص: 164. 1- صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت). 2- الشاعر الثاني، بعد محمد العامر الرميح 1929- 1978م، الذي أنجز إبداعاً متنوعاً بين التفعيلة وقصيدة النثر ضمن مفاهيم الشعر الحر آنذاك كما اقترحها أمين الريحاني أوائل القرن ومنتصفه جبرا إبراهيم جبرا. أما المجموعة، فهي صادرة عن دار الكاتب العربي (بيروت). 3- النص مقسم إلى ثلاثة مقاطع (في أصله: أربعة يمكن دمج ثانيها وثالثها سوياً)، فيما نص الشهري موزع على ثلاث صفحات. 4- صنف عبدالله بن إدريس النص في الاتجاه الواقعي، شعراء نجد المعاصرون، نادي الرياض - 2002م، ط: 2، ص: 53. 5- أنطلوجيا الأدب السعودي، عبدالناصر مجلي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2005م، ص: 581. 6- فيروز والفن الرحباني، محمد منصور، كنعان 2004م، ص: 165.