معالي الوزير والسفير والأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية "جميل الحجيلان"، عندما يكتب تتوهج العبارة بين أصابعه، وتتدفق المعاني، ويراكم حشدا من الإشارات البالغة الأهمية، بعضها يجد طريقه للنور، وبعضها يتركه مفتوحاً على اختلاف وجهات النظر لا على سبيل القطع والتقرير النهائي. مُقل في النشر، لكن هذا القليل يعني الكثير. المعنى والمبنى، كلاهما يعطيك دلالة على عمق الفكرة، وتوهج الإضاءة الداخلية.. وانبثاقها عن مخزون كبير من المعرفة والثقافة والتذوق الرفيع. عبء المنصب السابق يخيم أحياناً على معالي السفير والوزير والأمين، وكم وددت لو تخلص من ذلك العبء، لربما وجدنا إضاءات تجربة، وخبرة متراكمة، تدون للأجيال ملامح مرحلة، لم يكتب عنها - من الداخل - إلا النزر اليسير. بعد قراءتي لمقالته الأخيرة التي نشرها بصحيفة الشرق الأوسط الاثنين الماضي، حول "الباشا" رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي "نوري السعيد" ، توقفت عند مرحلة لا تكفي فيها مثل تلك الإشارات المهمة، والاستدراكات الكبيرة التي وضعها جميل الحجيلان في مقاله. وإذا كان "الباشا" عنوان مسلسل تلفزيوني قدمته "قناة الشرقية" العراقية خلال شهر رمضان، عن نوري باشا السعيد - بما يعيد لهذه الشخصية الاعتبار، بعد أن جعلها الانقلابيون وصمة عار في تاريخ العراق - هي المدخل الذي استلهم منه الشيخ جميل الحجيلان استدراكاته حول مرحلة من التاريخ السياسي، وهو يعاود الاستشكال حول حكم التاريخ على شخصية الباشا، إلا انه استدعى أيضاً وبشكل غير مباشر ذلك الترف الطويل الذي عاشته المنطقة العربية، وهي تصر على تزوير ذاكرة مرحلة بأكملها. واعتقد انه سيأتي يوم قريب ليضع فيه مؤرخون محايدون قراءتهم لمرحلة تاريخية، لم تقرأ بعد بعين منصفة وعقل موضوعي وتحليل تاريخي أمين. لا يكفي حتماً عمل تلفزيوني ليقدم لنا قراءة موضوعية حول تلك المرحلة وشخصياتها السياسية، بل يتطلب الأمر مراجعة شاملة لملامح مرحلة تاريخية طمرت تحت وحل الانقلابات العسكرية، التي صعّدت مشروعيتها على أكتاف مرحلة مضطربة، لكنها كافية لتجعل من الأنظمة "البائدة" سلماً للصعود تحت عناوين العمالة للاستعمار ومناهضة العمل القومي. يقول الشيخ جميل الحجيلان "خمسون عاماً والذاكرة العراقية ومعها بعض من الذاكرة العربية تختزن صورة نوري السعيد المناهض للعمل القومي العربي والعميل البريطاني، الذي نال عقابه على يد جمهرة من الغوغاء قتلته ومثلت بجثته تمثيلاً وحشياً مفزعاً". وإذا كان الشيخ جميل الحجيلان لم يقرر بعد حجم الموضوعية فيما كتبه مؤلف المسلسل "فلاح شاكر" الذي قدم نوري السعيد بصورة السياسي الوطني الذي سعى لاستقلال بلاده، وانضمامها لعصبة الأمم، ومقاومته لتدخل الجيش بالسياسة، ودفاعه عن الدستور، وحكم القانون، وانجاز الاصلاحات الداخلية العديدة.. إلا انه ايضاً يدين هذه التشوهات التي خلفتها انقلابات العسكر وهيمنة النظم الشمولية وتشويه تاريخ تلك الشخصيات السياسية. فإني أجد اليوم في مصادر التاريخ العراقي نفسه ما يقدم دلالات ليس عن شخصية نوري باشا السعيد، ولكن عن ملامح لها حضورها وأهميتها. وهي بكل ما يشوبها من شوائب ومثالب، إلا أنها حتماً كانت أفضل بكثير مما جاء بعدها. بل إني اعتقد جازماً بعد قراءة في مصادر استدعى اهتمامي العودة إليها لقراءة ملامح هذه المرحلة، انها حملت جنيناً وبذرة وانفتاحاً وحيوية كان يمكن أن تضع هذه المنطقة في واجهة مستقبل بعيد عن عتمة اليوم وتراجعاته المذهلة على كافة الأصعدة، لو تحقق لها النمو على مسار البدايات. يختلف المؤرخون العراقيون في تقويم التاريخ السياسي للعراق الحديث، إلا انهم يكادون يجمعون على أن العراق في العهد الملكي - مع أخذ ظروف المرحلة بعين الاعتبار - مر بفترة تنطوي على معنى حقيقي للحياة السياسية والديمقراطية الناشئة في ظل دستور اطلق حريات الأحزاب والصحافة ولم تكن تجارب وهمية تقودها دولة تهيمن على كل صغيرة وكبيرة. في بحث قدمه المفكر السياسي العراقي أديد داويشا بعنوان "التوجهات والممارسات السياسية في العراق بين عامي 1921إلى 1958" يقدم سرداً تاريخياً أكثر دقة لأوضاع العراق خلال تلك السنوات. ويتناول تفاصيل الحياة الحزبية السياسية، والممارسات البرلمانية وحرية الصحافة. يقول: "نشأت العديد من الأحزاب السياسية في عشرينيات القرن الماضي وعارض كثير منها المعاهدات العراقية الانجليزية التي كانت تحكم العلاقات بينهما تحت الانتداب. ونجحت هذه الأحزاب، من خلال نشاطها البرلماني، والاحتجاجات في الشارع وعلى صفحات الجرائد في تشكيل سياسة الحكومة. وتجلت حرية التعبير والتجمهر للأحزاب في الحياة العامة ما عدا خلال السنوات العشر من 1936إلى 1946.كما انتعشت الحياة الحزبية، وشهدت مساجلات هائلة. ورغم تدخل الحكومات في العملية الانتخابية لتأمين أغلبية برلمانية موالية لها، إلا ان جماعات المعارضة كانت ما تزال قادرة على انتخاب ما يكفي من أعضاء لفرض مناقشات سياسية وحلول معينة. وقد أصدرت هذه الجماعات وآخرون عشرات من الصحف التي كانت تنتقد رؤساء الوزارة والسياسات الحكومية". ويشير إلى إصدار العديد من الجماعات السياسية لواحد وستين صحيفة استمرت فترات زمنية متباينة. وهذا يقدم انطباعا عن نظام سياسي كان يزخر بالجدال والانقسامات والحيوية والحراك أيضاً، وهو ما افتقده العراق في العقود التي تلت تلك المرحلة، والتي اتسمت بالقسوة والتعطيل والقضاء على العمل السياسي والاغتيالات السياسية وهيمنة أجهزة الدولة الأمنية على مفاصل الحياة العراقية وترسيخ الحزب الواحد والنظام الشمولي. إذن كان ثمة دولة بدأت للتو تتشكل على مفاهيم دولة تسن الدستور وتقترب من القانون، وتعزز مشروعية العمل السياسي، وتقدم مشروعية الانتخابات على ما عداها رغم ما يشوبها من أخطاء أو تجاوزات، وكان القضاء يتمتع بدرجة من الحصانة، وكان للحريات الصحفية والعامة احترامها التي ضخت الحيوية في مفاصل مرحلة وساهمت في بروز عناصر ورموز باقية في الذاكرة. هذه المرحلة الغنية والثرية بالتحولات الإيجابية هي المؤشر الكبير على مستقبل منطقة كان يمكن أن تحقق المزيد من التحولات الإيجابية، التاريخ العربي ليس فقط تاريخ شخصيات سياسية شوه تاريخها عبر مراحل تجلى فيها تزوير هذه الذاكرة لدرجة حشد الكراهية لكل رموز مرحلة. لقد هدمت الانقلابات العسكرية السور الواطئ لدولة القانون والتي كانت - على مآخذها - في طور النمو في مجتمع لم يتعرف على شكل الدولة الحديثة، في حينها، إلا منذ زمن يعد قصيراً في عمر الشعوب. لقد هُدم الدستور واستقلال القضاء، ونسفت طلائع المجتمع المدني، وقلّعت بادرات الدولة المدنية، لتحل محلها الارادة السلطوية التي عززت نفوذها عبر الحزب القائد أو الجبهة الوطنية أو البرلمان المزور وأممت الصحافة وانتهكت حصانة القضاء وتغلغل الخوف والقلق والرعب في الإنسان العربي القابع بين أحلام الكرامة وحق الحياة. أفرزت الحالة العربية بُعيد الاستقلال نظماً كانت تمثل مجالاً حيوياً قادراً على استلهام فكرة تقدم أو مبادرة أو حراك جماعي، ولم تكن تحت مظلة استبداد كالتي عرفتها تاليا. تلك الأجواء التي عبرت عنها ملامح مرحلة، تؤكدها ايضا نتائج مرحلة أخرى جاءت بأنظمة القمع ومسلسلات الانقلابات حتى وصلت الى حد العطالة في قدرة المجتمع عن الحراك ناهيك عن تجيير كل مساحات القول والحراك لصالح حماية النظام. لا يتسع مجال المقال لاستشهادات كثيرة عن طبيعة الحياة السياسية والثقافية في عراق العهد الملكي، لكن يمكن الوقوف على حادثة واحدة ربما تشكل في وجدان عراق الأمس المعنى الكبير الذي تأسس على معنى الحراك الإيجابي، والذي وئد تحت وطأة النظام الشمولي القهري. يستعيد الباحث العراقي نجيب المدفعي مرحلة حادثة الاضراب الشهيرة لعمال شركة النفط في كركوك عام 1946، وخلاصتها أن عمال شركة النفط في كركوك اضربوا عن العمل مطالبين بزيادة أجورهم وتهيئة دور سكنية لهم وطالبوا تطبيق قانون العمل والعمال بخصوص تحديد ساعات العمل وبعض المطالب العمالية الأخرى. والتطورات التي استتبعتها حين فض شرطة الخيالة الاضراب، وخلال إطلاق الرصاص قتل خمسة من العمال المضربين. ماذا حدث بعد ذلك؟ قدمت الأحزاب الخمسة الحديثة التكوين احتجاجات شديدة، وهاج الرأي العام العراقي بحيث أجبر الحكومة العراقية على اتخاذ إجراءات تأديبية، فعزلت متصرف اللواء وطردت مدير الشرطة ونقلت رئيس محكمة الاستئناف، وبعثت بقاض ليقوم بالتحقيق، فجاء تقريره النهائي ليدين الإدارة كلياً، واستجابت الحكومة بعد ذلك الى كل مطالبهم. مع كل ذلك اضطرت وزارة أرشد العمري إلى الاستقالة بعد بضعة أشهر. لقد كان للإنسان العراقي قيمة في تلك العهود فمن أجل (خمسة عمال) قدمت خمسة أحزاب احتجاجا شديد اللهجة إلى الحكومة، عزلت الحكومة متصرف اللواء وطردت مدير الشرطة ونقلت رئيس محكمة الاستئناف ومع ذلك لم تسلم الحكومة التي أُجبرت على الاستقالة.