منذ ان عرفت بريدة صغيرا ، وهي مدينة طينية تعبق بين جدرانها برائحة الماضي ممزوجا بكل تلويناته بوجوه اهلها الطيبين ..الذين تنتظم حياتهم في نسق ثقافي يتوزع بين تلك الحماسة الدينية والسوق والمتع البريئة وتفاصيل صغيرة يمكن رصدها حتى لتشكل لوحة من يوميات اجتماعية لا تكاد تخرج عن مثلث ابعاده المسجد والسوق والفلاحة . لم يكن الصبي القادم من مدينة الدمام ، تلك المدينة التي لا تحمل ملامح مدن الطين ولا يجمع بين قاطنيها سوى فرصه العمل بين شركة الزيت وافرازات المرحله الاقتصادية ..لم يكن ذلك الصبي لغيِّب دهشة الترحل بين عالمين .. حتى عندما عاد لمدينته التي عاش فيها منذ الطفوله المبكرة ..لم ترق له رطوبة الصيف الخانق ولا وجوه الناس من حوله ..ولا غابت عن انفه رائحة الطين ولا تلك الليالي المقمرة ولا لذة النوم على سطوح تلك المنازل الطيبنة ولا تلك الطقوس التي نقلته الى عالم جديد في تراتبيته ويومياته . عالم بريدة اليوم مختلف ..لا يمكن استعادة الصور القديمة ، وعالم بريدة الولود عالم يحمل تناقضاته داخله . بريدة التاريخ انتاج صحراوي / فلاحي / تجاري ..حمل ابناؤها من العقيلات تلك الخصلة المتميزة وهي روح التحدي في حركة تجارية عبرت عن ذاتها خلال مئتي عام او اكثر ..وهي تجوب الآفاق من العراق الى فلسطين الى مصر ..لكن لم يشهد هذا التاريخ نزوحا او هجرة جماعية لبلاد الرافدين او على ضفاف النيل او اطراف مدن الشام وسهول حوران ..كان ثمة خيط يشد تلك القوافل من العقيلات الى مدينتهم وعالمهم الاول . بريدة التاريخية صناعة ابناؤها يوم لم تكن فوائض النفط تعرف طريقا لمدن الصحراء . بريدة التاريخ قصيدة شعر وجدارن طين عروقها راسخة مهما غزتها مدن الاسمنت والتشوهات التي طالت ثقافة مدينة قبل ان تمس جذور بنيان..بريدة التاريخية قصيدة (خلوج) تداعى لها ابناؤها المغتربين انذاك للدفاع عنها والذود عن حياضها . بريدة التاريخية لم تقرأ في مشهد اليوم ، وثقافة التدوين لم تعرف طريقا حتى اليوم للذاكرة وكل ما كتب كان هزالا أمام تاريخ لم يدون بعد . استعيد مع قاريء تلك اللوحة التي رسمها الرحالة الهولندي ( دواتي ) او ( الحاج ابراهيم ) عندما قدم للقصيم من حائل في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي . مازال وصف (دواتي) يثير لدى فضول جميل لاكتشاف ملامح اجتماعية واقتصادية لمدينة طينية في قلب نجد في نهاية القرن التاسع عشر ..مدينة ترتمي بين النفود والسهل والوادي. مازال ذلك المشهد حيا في ذاكرتي وهو يصف لوحة بصرية فريدة ، يطل عليها من علو، غابة نخيل وغابة من بيوت الطين تتعانق في انسجام فريد بين مكونات طبيعية في مدنية صحراوية . لقد أُخذ دواتي بحجم المدينة واتساعها بمقارنات ترسمها ذاكرة رحالة لا خيال روائي. لم يكن الجو الثقافي السائد انذاك يسمح لدواتي بالبقاء طويلا في بريدة ، لكن وصفه لقصر حجيلان الذي اقام فيه لوقت قصير (انه يذكرني بقلاع اوروبا القديمة ) أثار لدي فضول تصور مثل هذا التشبيه . انه مأخوذ باتساع القصر وادوره الثلاثة واعمدته الضخمة وزخرفته الجبسية وتوظيف الموارد الجمالية البيئية الشحيحة في ذلك القصر . الاكثر اهمية من هذا ، ذلك الوصف المدهش لسوق بريدة . انه يقول وهو يراقب حيوية المرأة في بريده ومشاركتها الرجل في البيع والشراء في السوق ( إن المرأة في بريدة لهي اكثر تحررا ونشاطا منها في دمشق ) . أما قصة الدكان الذي يبيع الطعام المطهو ، فهي قصة اخرى تكسر ذلك المخيال الاجتماعي الثقافي الذي كان يستنكف بيع او أكل الطعام المطهو في سوق مدينة مثل بريدة انذاك . تلك ملامح من قراءة رحالة عن مدينة طينية في اواخر القرن التاسع عشر . ظلت فكرة التدوين غائبة عن ذاكرة اجيال يريد ان يعرف اكثر عن طبيبعة الحياة خلال تلك المرحلة من التاريخ . افرزت بريدة تناقضاتها لكن أخفتها تحت لوحة اجتماعية تؤمن بالبقاء في مشهد الوطن الاول . ومازلت حتى اليوم تنتج تلك الومضات ولكن خارج سياقها المكاني الذي استبد فيه مشهد واحد ..لكنه مشهد حتما سيكشف فيما بعد عن انساق تحتاجها مدينة ناهضة لاستعادة دور اكبر بكثير من قصة البقاء في ظل اجترار تلك اللوحة الثقافية التي لا تبرحها. قال الاولون من الاباء ( القصيم يلد ولا يغذي ) ، انه رحم ولود لكنه يقذف باولاده في عالم التحدي ليعودوا اليه في كل حين ..انه يستدعيهم وهو في ذاكرتهم ..انه ذلك الخيط المشدود لشجرة الوطن . يتلمسون اطرافه وينسلون عبر ذاكرته حتى يجدوا انفسهم في رحابه حتى رحلة اخرى ومجهول اخر وتحدي اخر . بريدة اليوم ..ليست بريدة الامس ..انها جدران صلدة ومغاليق خاصة ، لن تفتح سوى عبر توسل المشهد المفقود اليوم في رحاب مدينة صارت مثلها مثل المدن الاخرى اخشى ان تفقد هويتها الخاصة . بريدة النشطة اقتصاديا تحتاج ايضا لنشاط ثقافي في مشهد متوقف اليوم ..واذا اعني بريدة فأنا اعني القصيم ، فلم تعد بريدة مدينة وعنيزه مدينة والبكيرية مدينة والرس مدينة انها حزام جديد تمدد حد التلاحم لمنطقة أوسع ، الاجدى ان تكون مدينة كبرى لها ضواحي مترامية تدعي القصيم . بريدة ( جريدة القصيم ) اين هي في المشهد الثقافي . ايعقل منطقة يعيش فيها قرابة المليون لا تعثر فيها على صحيفة واحدة حتى لو اسبوعية . بريدة التي اصدرت جريدة القصيم من بين بيوت الطين وبوسائل بدائية .. وكانت بكاتبها وموضوعاتها تملك من الحيوية أكبر بكثير من حلم مرحلة ... لماذا تعجز اليوم عن اجتراح صحيفة اقليمية خاصة لتستعيد القصيم ثقافيا . لماذا تتوقف تلك الفعاليات الثقافية التي تعمل في ارجاء الوطن عن الاهتمام باستعادة اصدار صحفي يناسب تكوين تلك البيئة ويرتقي فيها اداء وتطلعا . بريدة / القصيم ، ذلك المجلس المفتوح كل ليلة على ضوء (شبة) تدار فيها فناجين القهوة مع احاديث اليومي التي عنوانها الشأن العام ...لماذا لا نعرف فيها اليوم صالونا ادبيا او ثقافيا او ندوة اسبوعية يفد اليها ابناء المدينة في اجواء تعبر عن الاهتمام بعقل جيل يكاد يسرق بين براثن التطرف او التيه في عالم العبث واللاجدوى وربما الانحراف الكبير . لماذا يعجز الوافد اليها ان يكتشف المشهد الثقافي سوى من خلال الشارع ..وهو شارع لا يعبر بامانة عن التفاعلات المسكوت عنها في مشروع مدينة تتوسل الثقافة عن بعد لكنها لا تقترب منها ممارسة حقيقة يومية . القصيم الممتد على خارطه وطن ، ومدنه التي تعانق بعضها البعض ، لماذا تاخذه الى اليوم تلك اللغة المتطرفة للبقاء في حضن مدن من الماضي . عندما اناجي بريدة فانا اناجي القصيم وعندما اناجي القصيم فأنا اتلمس اضاءة في كل بقعة في وطن يستحق ان يُصنع من اجله الكثير . لا اراهن على طرق دائرية ولا عمارات شاهقة ولا فنادق مميزة ولا قصور مدهشة ولا مزارع ممتدة ...وان كانت تلك المعاني تعبر عن مشهد تنموي بالغ الاهمية . إلا ان المراهنة هي على الانسان اولا ، ولن يصنع هذا العقل الانساني المتوثب والصاعد والطامح سوى ثقافة تستعيد هذا الوعي من براثن التأزم او الانغلاق او استعادة الماضي والتوقف الممرض عند ملامحه...الى ملامح مراحل جديدة عنوانها صناعة الانسان اولا . كل عام وبريدة بخير... والقصيم يرفل في ثياب الامن والامان . الكاتب في سطور : - عبد الله بن سليمان القفاري - متخصص في علوم الفيزياء . - عمل محاضرا بقسم الفيزياء بجامعة الملك سعود . - كاتب صحفي ( صحيفة الحياة بين عامي 1998-1999) ، و ( صحيفة عكاظ السعودية بين عامي 1998-2000) ، ويكتب في صحيفة الرياض منذ عام 2000 ومازال . - حصل على جائزة علي وعثمان الصحفية عام 1999 عن العمود الصحفي على مستوى الوطن العربي . - صدر له كتاب ( قراءات في زمن التكوين ) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، عام 1999 . ------------------------------------------------------------------------------------------------------------- علي المحيميد استاذ عبد الله لافض فوك ولا عاش شانؤك ... اهلاًبك ومرحبا في صحيفتنا الغالية ( عاجل ) . مع العلم انني لست من مشرفي هذه الصحيفة... فقط زائر ومشارك بالتعليقات لكن نمون عليهم ان شاء الله . اّهِ ياستاذ عبد الله ذكرتنا بمنازلنا الطين وبراءة الناس والحياة الجميلة الهادئة.....الله اذا جاء المطر . ومواسم بريدة ذاك الوقت كانت كثيرة ورهيبة ..... حيات ولا الذ منها . من موسم التمور الى موسم الجح والجراوة الفاسخة.... وموسم العنب والرمان . واسواق بيع العلف ( القت ) من دون الف .... واسواق الابل والغنم و حراج المقاصيص و و والخ..!! فهد الراشد ياه ياعبدالله القفاري انبعثت من داخل سطورك الذهبية رائحة بريدة الحقيقية وأججت المشاعر بمقال رائع .. نعم بريدة اليوم ليست الأمس انها الصورة المتغيرة بين جدران الحاضر .. شكرا لأناملك ايها الكاتب الفذ منى المحمد كان للمرأة في بريدة شأن عظيم في كل شيء فمن حولها لتكون فاقدة لكل شيء..؟؟ احسنت التشخيص وركوب الخيال التعبيري ايها الرائع صالح الجطيلي الكاتب استعرض صورة درامية جميلة لكني اخالفه في ان بريدة هي المحرك الاقوى للثقافة في المملكة ومنها تخرج المئات لينثروا ابداعهم الثقافي ةالاعلامي ولعل الكاتب الكبير عبدالله القفاري احدهم.. عبدالله الدخيل كتابتك هنا هي وفاء منك لبريدة تقبل مروري وتحياتي فاطمة بودي أسأل الكاتب هل لماذا يعشق الناس الماضي دائما؟؟ بريداوي صميم اطلالة جميلة من كاتب جميل منصور الحمر تلك هي الحياة اسناذي الكريم مشاهد متغيرة انها سنة الله في خلقه.. عبد العزيز بن حمد أخي عبدالله السلام عليكم .. بداية أشكر لك طرحك الجميل .. وأني أرى في هذه الصحيفة بداية قوية لصحيفة إلكترونية .. لم تعمر سوى الشهرين أو الثلاثة .. لن أضيف سوى حديثا لرسولنا الكريم .. ً ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) بارك الله فيك البجادي سلمت يمينك على هذا المقال الرائع الخبوبي استعادة الصورة امر مستحيل فروح التغيير الآن موجة متسارعة لايمكن معها سوى اللحاق بالأحلام والخيال...مبدع ياعبدالله القفاري ابو مروان ذكرنا الكاتب الكريم برياحين الماضي يوم كان ابن بريده من مسجده لسوقه لمزرعته كم كانت لحياه جميله في ذاك الوقت فهد هل نرى قريبا رواية ( الجردة ) او رواية ( سور بريدة القديم ) او اي كانت التسمية رواية تحكي حقبة من الزمن مابين الستينات والثمنينات الميلادية للكاتب عبدالله القفاري صالح المقرن الكاتب عبدالله القفاري: اناملك صاغت دررا من اجل بريدة انت تجبرنا على الاشادة بك