سوق العمل سوق مفتوحة يكون الصوت الأعلى فيها هي للعائد المادي والمعنوي، وسوق الخدمات الطبية لا يشذ عن تلك القاعدة فحجم ما يدفع سيتناسب مع مستوى الخبرة والمهارة والمؤهل التي سيحصل عليها رب العمل في المقابل. لذلك فإن رفع رواتب المتعاقدين من الاطباء والفنيين من غير السعوديين مبرر لأن عدم القيام بهذه الخطوة سيترك وزارة الصحة أمام خيار وحيد وهو الاكتفاء بما قد يجود به سوق العمل من كفاءات متدنية وعندها ستتزايد الشكاوى من رداءة جودة الخدمات الصحية وتحمل الوزارة أوزارها. لذلك فالقرار ليس غريبا في مثل هذه الظروف من المنافسة الشرسة على الأيدي العاملة المتخصصة ولكن الغرابة تكمن في سرعة صدور هذا القرار مقارنة بقرار توحيد ورفع رواتب الاطباء والإخصائيين والفنيين السعوديين، فقد مر القرار الأول كلمحة البرق متجاوزا التغطيات والتسريبات الإعلامية والحواجز المؤسساتية الحكومية بينما ظل القرار الثاني أسير اللجان والتواقيع والمداولات بين منظومة حكومية وأختها. كان مجلس الوزراء - حسب أحد الأخبار الصحفية - قد وافق مبدئيا في بداية عام 1427ه على توحيد سلم الرواتب في المستشفيات الحكومية والتخصصية، ومراجعة اللائحة الصحية وسلم رواتب السعوديين، وتحديد البدلات والحوافز التي تمنح لا سيما للكفاءات ذات القدرة في التخصصات والخبرة المميزة، على ان يقوم مجلس الخدمات الصحية بمشاركة وزارة المالية ووزارة الخدمة المدنية بدراسة ذلك في مدة اقصاها ستة أشهر ويرفع ما تم التوصل اليه إلى مجلس الوزراء. وستمر قريبا سنتان على هذا القرار أي أربعة أضعاف المدة المحددة لانتهاء الدراسة. والحال يبقى على ماهو عليه من شكوى الأطباء والعاملين في المجال الصحي والبطء المؤسساتي الحكومي في اتخاذ القرارات التي تحتاج لتدخلات حكومية سريعة تمنح المسئولين القدرة على التعامل مع معطيات السوق المتغيرة بكفاءة ويسر. إن الاستثمار في القوى البشرية الطبية والصحية هو استثمار وطني يحقق الأمن القومي والاكتفاء الذاتي من القوى البشرية في مجال يشكل عصب الحياة ويؤثر بصورة كبيرة على غيره من المجالات الاخرى، والمطلع على وضع الأيدي العاملة الوطنية في سوق الخدمات الصحية يرى نقصا كبيراً في السعودة لأسباب عدة واحد منها العائد المادي غير المحفز، ولهذا فإن أداة الرواتب والبدلات أداة مهمة بإمكانها توجيه بوصلة التطوير الصحي وإعادة هيكلته بشريا على الأقل، فتلك الاداة بإمكانها زيادة الكوادر الطبية الوطنية المؤهلة في التخصصات الدقيقة، وزيادة أعداد أطباء الأسرة والمجتمع التي ستغذي المشروع الجيد في تطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية، وبإمكانها أيضا توجيه السعوديين نحو مناطق ومحافظات من الوطن تعاني من تهرب السعوديين منها وجنوحهم إلى المحافظات الرئيسية حيث تتركز الخدمات والتسهيلات في شئون الحياة المختلفة. يجب أن تستغل الطفرة الاقتصادية التي ينعم بها الوطن لتشكيل المراحل الصحية المستقبلية للسنوات القادمة، طبعا هناك استغلال إيجابي من بعض مظاهره مثلا زيادة كليات الطب وزيادة أعداد المبتعثين في المجال الصحي، ولكن تناغم الإجراءات لا بد منه لأن النظام الصحي كأي نظام آخر لا بد ان تتناسب مدخلاته مع المخرجات المستهدفة، وبين مدخلات ومخرجات النظام تأتي العمليات وهي التي تحتاج في نظامنا الصحي إلى عمليات قيصرية لإعادة الهيكلة وبناء نظام جديد متطور يحل محل النظام الحالي الذي لم تعد تجدي معه عمليات الترميم.