من القواعد التي يجب أن يجري عليها التوقي الخضوع لقاعدة ترتيب الأولويات، وتقتضي تلك القاعدة توقي الضرر الأكبر بارتكاب الأهون، وهذا هو مضمون القاعدة الشرعية المشهورة (ارتكاب أخف الضررين).. توقي المحذورات والاحتراز عن المخاطر عادةٌ حسنةٌ، لا يلتزمها على معيارها الصحيح إلا من رُزق حسن تقدير الأمور والنظر إليها بعين الفحص والتأمل، ومن اتصف بها واستصحبها في شؤونه تجنب بفضل الله تعالى كثيراً من المآزق التي تعجُّ بها الحياة، واحترس بها مما يحيط بالإنسان من أخطارٍ في دينه ودنياه منها الحسي والمعنوي، وبعضها تمتزج فيه المصلحة بالمفسدة، فيحتاج إلى معرفة الراجح منهما، فيغلب على المرجوح، وكثير من الأضرار ما كان الإنسان ليتجنبها إلا بتوفيقٍ من الله ثم بالتشمير والجدِّ في توقيه؛ لأن هناك من يسعى جاهداً لإلحاقه بالناس، وقد يكون قصارى المجتهد في دفعه أن يتغلب عليه مع المدافعة والمكافحة، ولن يُبقيَ عليه لو تعامل معه بالاسترخاء والتجاهل، فمآل أمر من اعتاد تجاهل أسباب الضرر المختلفة أن يندم على تقصيره بعد فوات الأوان، ولي مع التوقي وقفات: الأولى: توقي المحذور فنٌّ وسلوكٌ لا بد له من الجريان على القواعد الصحيحة، ومن قواعده التي تغيب عن بال كثيرٍ من الناس أهمية حرص المتوقي على أن يقي مجتمعه من الأضرار ما يحب أن يَقيَهُ نفسه، وأن يحب له من السلامة ما يحب لنفسه، وهذا من كمال الإيمان فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ - أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ - مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" متفق عليه، وسلامة المجتمع تؤمِّن للفرد ما لا يُحصى من أنواع الوقاية والصيانة، فمن تصور أن الصيانة ممكنة بدونها فقد وهم، ومن لم يبال بها فقد ابتعد عن واحدٍ من أهم سبل العيش الكريم، وغابت عنه حقائق جوهرية من بدهيات الحياة المركوزة في الفطر، والتي تهتدي إليها سائر الكائنات الحية كما هو مشاهد، وقد قصَّ الله تعالى علينا حرص نملةٍ على تجنيب صواحبها الضرر فقال: (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، فمن لم يعبأ بأمن وسلامة وطنه ومجتمعه فلا حظَّ له في النبل والكياسة. الثانية: من القواعد التي يجب أن يجري عليها التوقي الخضوع لقاعدة ترتيب الأولويات، وتقتضي تلك القاعدة توقي الضرر الأكبر بارتكاب الأهون، وهذا هو مضمون القاعدة الشرعية المشهورة (ارتكاب أخف الضررين)، ويُخطئ من يغفل عنها في حياته فيناقضها تماماً بتسببه في أكبر الضررين ليدفع أهونهما، فيتوقى أدنى مشقةٍ يُمكنُ أن تُتحمَّل بسهولةٍ بارتكاب ما قد تنشأ عنه أضرارٌ عامةٌ فادحةٌ، كدفع ما يندر الخلو منه من الشدِّ والجذب في العلاقات بقطعها، والمبارزة بالجفاء الصريح والمواجهة العاصفة التي قلَّما تخلو من آثارٍ سلبيةٍ ملموسة الأثر في الواقع، مع أن الشدَّ الذي تُخيِّلَ أنها عالجته لا كبير أثر له، وما هو إلا كلمة لو مُرِّرَتْ لمرَّتْ بلا إشكالٍ، ويصل هذا النوع من التوقي غير الموفق ذروته إذا نشأ عنه انهدام كيان الأسرة بالطلاق والتشتت دفعاً لمشقات هي أهون بكثيرٍ من اضمحلال عقد الزوجية، وأفدح ما جربه الناس من توقي المحذور بأخطر منه ما جرَّته الأفكار الهدامة، والدعوات المغرضة على بعض البلدان التي جرَّأت غوغاءها على القضاء على أمنها واستقرارها بحجة دفع صعوباتٍ معينةٍ ضخَّموها على حساب المفسدة الكبرى التي هي المساس بالدولة. الثالثة: من المحذورات التي تُتَوقَّى ما هو واضحٌ ومنها ما هو خفيٌّ، ولا يكاد الإنسان يتوقى خَفِيَّها إلا بالاستعانة بذي خبرةٍ فيها موثوقٍ به، فيجب على المسلم أن يتوقى عذاب الآخرة بالاستماع إلى أهل العلم الراسخين فيه الربانيين الذين يُربُّون الناس بصغار العلم قبل كباره، فهم العارفون بما يُنجي العبد أمام ربه، وهم المؤتمنون على هذه المهمة العظيمة، كما أن عليه أن يلزم جماعة المسلمين ويفي بحق السمع والطاعة لولي أمره، فالسلطان هو الحصن الذي يزع الله به الناس عن أن يبغي بعضهم على بعض، (وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وليستمع في كل مجالٍ لمن عُرِفَ بمعرفته وإتقانه، هذا هو التوقي الصحيح، ومن فتح سمعه وبصره وقلبه لما يُلقيه إليه المتعالمون المتسورون على الدين والسياسة والطب والاقتصاد والاستشارات الأسرية هدم دينه ومستقبله وصحته وماله وبيته، فالمتسور على ما لا معرفة له به هو أول الخارقين لمبدأ التوقي والصيانة، فهو يسعى في تحميل نفسه تبعاتٍ عظيمةٍ بحمله للناس على أن يتعاطوا ما يجرُّ إليهم الضرر في الضروريات الخمس الكبرى (الدين والنفس والعقل والمال والنسل)، فهو المريض المحتاج إلى العلاج، لا الطبيب المفزوع إليه.