الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخصائص التي اختص الله بها هذه الأمة: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ))، وهو جزء من التكافل الذي جعله الله بين المؤمنين بالتناصح، وفيه حماية للبيئة الاجتماعية من التلوث الأخلاقي. ولكن لا بد أن تكون الوسيلة مباحة لا محرمة، وأن تؤدي إلى المقصود في زوال المنكر لا تثبيته، فإنكار المنكر تحيط به مجموعة من الالتباسات وتترك أثراً كبيراً على مسار الدعوة الإسلامية، وقد تؤدّي أحياناً إلى وقوع منكر أكبر دون التمكّن من تغيير المنكر القائم، وهذه نتيجة لا يمكن أن تقبلها الشريعة بحال. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال". وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلاّ من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما ينهى عنه". ومن أهم ضوابط وشروط إنكار المنكر ألاّ يؤدي إنكاره على منكر إلى حدوث منكر أكبر منه، وقد قرر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القاعدة الأساسية في حسبته، فقال في رسالته التي أرسلها إلى إخوانه من أهل سدير: "يذكر العلماء أنَّ إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه؛ فإنَّكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين". وقال معاتباً من يخالف هذه القاعدة: "إن بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان". وهذه القاعدة في فقه إنكار المنكر القاضية بعدم مشروعية الإنكار إذ ترتب عليه حدوث منكر أعظم منه مستمدة من القاعدة الأصولية المعروفة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قُدِّمت عليها". ويقول: "فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإنَّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله موضحاً لهذه القاعدة: "إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض على الله ورسوله فإنَّه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر". فإن إنكار المحتسب على ولي الأمر لا يؤتي أكله وثماره الطيبة إلا إذا كان بطريقة خفية سرية رفيقة لمن هو قادر عليه، فإن لم ير له قبولاً فيكتفي برفعه للعلماء لتولي هذه المهمة بطريقتهم الخاصة، وبذلك تكون قد برئت ذمة المحتسب ولا يحق له استخدام الإنكار العلني في حالة عدم الاستجابة بأي حال من الأحوال.