ينشغل العالم اليوم بموضوع راهن يواجه الجائحة الكوڤيدية الكورونية ومتحوّرها الأُوميكروني. إنه موضوع التلقيح علَّه، كما في التداوُل العلْمي والصحي، يخفف من خطورة العدوى بين المُصابين. من هنا ظاهرة «الميتريداتية» وهي حقْن المُصاب بجرعات متتالية تصاعدًا مأخوذة من السُمِّ ذاته أو الجرثومة ذاتها، كي يكتسب المُصاب كميات أو درجات تدريجية من المناعة ضد ذاك السُمّ أَو تلك الجرثومة. في الأعمال الروائية ولا يبتعد عالم الأَدب عن التداوُل بهذه الظاهرة. ف»الميتريداتية» دخلت في عدد من الأعمال الروائية العالمية، منها رواية الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما «كونت جزيرة مونت كريستو» (1844)، و»الميتريداتية» عملية أَساسية في عقْدة الرواية. وكذلك رواية الكاتب الأميركي وليام غولدمان «الملكة العروس» (1973) وفيها مناعةُ القرصان روبرت ضدّ السموم التي حاول أعداؤه قتلَه بها فأخذ يتجرَّعها بجرعات صغيرة حتى اكتسب المناعة ضد تلك السُموم، ورواية الكاتبة اليابانية إكيزوكي سوراتا «شيرايْوُوكي ذات الشعر الأحمر» (2006) وفيها اعتيادُ الأمير زِنْ، منذ طفولته، على تَجرُّع السُم جرعاتٍ خفيفةً كي يأْمن المناعة في جسمه فتقيه عند مداهمة الخطر. إذًا: الميتريداتية هي عملية حقْن الجسم بموادَّ سامَّةٍ جرعاتٍ خفيفةً متدرِّجة تُسهم تباعًا في تقوية مناعة هذا الجسم ضد الأَوبئة والجراثيم. أصل الكلمة منسوب إلى ميتْريدات السادس الكبير (132 - 63 ق.م.) حاكم پُونْتُس (مقاطعة هيلستينية على شاطئ البحر الأسْوَد - حاليًّا في تركيا بمحاذاة جورجيا). وقصة النسبة إليه أنه، كي يتجنب خطر الانقلاب عليه، راح يأخذ جرعات خفيفة من السُم كي يأْمَن أيّ تسميم قد يدسّه له أعداؤه في الطعام. من سلبيَّة «الميتريداتية»... هذه العملية تختلف عن التلقيح الذي هو أيضًا يعتمد الحقْن بحيويات مضادة تقي من العدوى والتقاط جرثومة الوباء. فالحيوانات البرية، في صراعاتها داخل الغابات، كان بعضها يذهب غريزيًّا إلى نباتات سامة يقضمها وينفثها في العدو أَو يلمسه فيسقط العدوُّ مسمومًا صريعًا. إِذًا: ال»ميتريداتية» غيرُ ناجعة عمومًا، عكسَ التلقيح. فكيف نشَأ؟ منذ السحيق من السنوات لاحظ المعنيون أَنَّ مَن يصابون بمرضٍ، نادرًا ما يصابُون به ثانيةً. ... إِلى إيجابية التلقيح في القرن السابع عشر انتشر وباء الجدري وقضى على الآلاف، فأخذ الأَطباء يَحقنون الأجسام بجرعات قليلة متباعدة من قيح الدمامل ليتحصّن الجسم تباعًا بمناعة تحميه من إصابته بالجدري. ومن المصادفات أن الطبيب في الريف الإنجليزي إِدوارد جينِر (1749 - 1823) عايش في منطقته تَفَشِّي وباء «البقَريات» (شبيه بالجدري) ولاحظ أَن القرويات في مَزارع البقر لم يكُنَّ يُصَبْن بذاك الوباء. حقَنَ فأْرًا في مختبره بخزعات من البقر فلم يعد الفأْر يصاب بمرض البقريات. ومنذئذ انتشر ذاك الاختبار وبدأَت تظهر شركات طبية لتصنيع اللَقاحات ضد الجدري. ثم جاء العالم الفرنسي لويس پاستور (1822 - 1895) فدرس دور الجراثيم في تفشي الأمراض الوبائية، مختبرًا إياها على حيوانات داجنة، واكتشف أن وباء «كوليرا الدجاج» ناجم عن جرثومة راح يستحصل في مختبره على لوثاتٍ منها يحقن بها طيورًا داجنة أخذت تمرض ولا تموت ثم تشفى لاحقًا. وسنة 1881 أطلق علميًّا مبدأ «التلقيح «المخفَّف»: «حقْنة جراثيم مخفَّفة لا تُميت بل تصيب بعارض عابر يَقي مسْبَقًا من المرض القاتل». پاستور مُنقذ البشرية بعد اختبارات عدَّة على الحيوانات ضد مرض «الجمرة الخبيثة»، وجَّه پاستور اختباراته إلى البشر، فاستنْبط لَقاحًا ضد الكَلَب، وراح يأْخذ خزعات من أدمغة حيوانات ماتت بالكَلَب وتمكَّن باللَقاح من فصل المنطقة المصابة في الجسم عن باقي الجسم البشري، ما ينقذ حياة المصاب فيقع في المرض لكنه يُشفى. وسنة 1885 أطلق أولَ لَقاح بشري ذي جرثومة «مخفَّفة». ثم أنشأ مؤسسة لهذا الهدف الجرثومي تَخرَّج منها عُلماء راحوا يطوِّرون اللَقاحات ضد الأمراض. ومن اختبار إلى اختبار أَخذَت تنجلي أسرارُ مناعة الأجسام ضد الأمراض، فتكاثرت اللَقاحات ومشتقَّاتها وعناصرُها ومكوِّناتُها، وتلافت البشرية موتًا كثيرًا حيال أمراض وأوبئة كثيرة. مع ستينات القرن الماضي بات اللَقاح السنوي ظاهرة عادية تلافيًا مسْبقًا وقوعَ الناس في أَمراض قاتلة. وحديثًا بات الحمْض النووي أفضلَ السبُل وأسرعَها إلى التشخيص ووصْف الدواء أو اللَقاح أو وسائل مناعية من أَصل الجرثومة ذاتها حتى تقتل الجراثيم التي تصيب الجسم من فصيلة تلك الأمراض الوبائية ذاتها. من الجدري إلى الكورونا هكذا «الميتريداتية» أَفضَت إِلى اللَقاح، وبالعلْم انتصر الإنسان على المرض القاتل. اليوم، ووباء الكورونا يجتاح كوكبنا، لا بُدَّ من پاستور جديد يجترح لَقاحًا من جرثومة الكورونا ذاتها يُحقن به المُصابون حتى إذا هجمت جرثومةُ الكورونا على جسمٍ، وجدتْهُ منيعًا ضدّها بجرثومة من فصيلتها، فلا تقضي على هذا الإِنسان الذي ما إِن يصيبه وباء فتّاك حتى يقتل الوباء بلَقاح فتّاك من فصيلته. الحاكم ميتريدات سابقُ التلقيح الطبيب إِدوارد جيْنِر رائدُ التلقيح هنري زغيب