يلحظ الباحث في قراءة سريعة لتاريخ بعض الأمراض والأوبئة التي انتشرت في الجزيرة العربية منذ عدة قرون؛ أن انتشار الفايروسات في جزيرة العرب قد لا يختلف عما أصاب البلاد والأصقاع البعيدة والقريبة من الأوبئة والأمراض، حيث أمراض "الجدري" و"الكوليرا" و"البلهارسيا" و"الدرن" والحمى بجميع أنواعها، ومعظم هذه الأمراض –كما ذكرنا- لم تقتصر على إقليم أو مجتمع معين، بيد أن سكان العالم العربي لا سيما جزيرة العرب كانوا أقل عرضة من غيرهم، ورغم عدم سلامتهم من بعض هذه الأمراض، إلاّ أن حالات انتشار مثل هذه الأوبئة ظل أقل في بلاد العرب منه في الدول الإستوائية والمناطق الباردة، ولا أدل على ذلك إلاّ قراءة تواريخ الأمم الغربية والشرقية، حيث تفتك الأمراض بالناس أكثر مما تفتك بهم الحروب والمجاعات، بل إنّ كثيراً من الجيوش المقاتله، مُنيت بهزائم شنيعة ومدوية، على الرغم من قوتها ومناعتها؛ بسبب انتشار الأوبئة بين جنود الجيش الواحد، كما حدث لجيوش "هولاكو" و"تيمورلنك" و"نابليون"، ومن قبلهم جيوش "الإسكندر المقدوني"، حيث حلّت الأمراض والأوبئة بمعظم هذه الجيوش فأهلكت فيها الحرث والنسل. العلاج ب«اللعوط» و«العنزروت» و«الصبرة» و«دم الخوير» و«قطور بقّم»، إضافةً إلى «قلب الجوزة» و«الحلتيتة» عدوى وبائية وبالاطلاع على بعض مراحل انتشار مثل هذه الأمراض؛ نجد أنّها قوبلت بمعظم دول ومجتمعات العالم، بمحاولات وحيل كانت سبيلاً–بعد توفيق الله سبحانه- للوصول إلى كثير من العلاجات، كما لا يزال الأهالي في بلادنا يتذكرون معاناة الآباء والأجداد مع انتشار الأوبئة والأمراض المعدية، وكيف كان الوباء ينزل بالمدينة أو القرية فيفتك بربع أو نصف سكانها، خاصة الأطفال الذين كثيراً ما تنتشر بينهم الأمراض المعدية كالجدري والسل والدرن، ناهيك عن سرعة انتشار العدوى في مثل هذه الأمراض بين الناس والأهالي، وفقدان العلاج والأمصال الطبية آنذاك، حيث إن هذه الأوبئة لم تكن لتمنع الأم من تطبيب ومعالجة أبنائها -الذين اغتالهم هذا الوباء أو ذاك-، بل تذكر الروايات الشفهية وبعض المنقولات أن الوباء يسري بالعائلة الواحدة، فيكاد يفنيها واحداً تلو الآخر، وعليه فقد عرف الآباء والأجداد العلاج بالأعشاب والمراهم المحضرة من النباتات ودهون الحيوان، كما عرفوا البرشام والسفوف والحبوب وتعالجوا ب"الصعوط" و"الكي" و"الحجامة" و"تجبير الكسور"، كما كان "اللعوط" و"العنزروت" و"الصبرة" و"دم الخوير" و"قطور بقّم"، إضافةً إلى "قلب الجوزة" و"الحلتيتة" علاجات مشهورة متداولة عند الآباء الأقدمين. تطعيم الأطفال ضد الشلل «أرشيف الرياض» سنوات مؤرخة وقد عرف أجدادنا في جزيرة العرب عدداً من السنوات بمسمياتها الدالة على الأفراح تارة، وعلى المآسي والأتراح تارة أخرى، حيث أرخ الناس سنوات انتشار هذه الأوبئة والأمراض بأسمائها ومسمياتها، فما إن حل عام (1261ه) إلا وانتشر الجراد والجدري والسعال الذي مات بسببه كثير من الأطفال في صيف عام (1262ه)، كما انتشر وباء الإبل عام (1268ه)، ومع بداية عام (1274ه) بدأت سنوات المجاعة، وهلك الناس حتى إنهم أكلوا الجيف، وماتوا من الجوع عام (1287ه)، بل لقد وصف المستشرق "فلبي" حال الناس عام (1289ه) بضيق الحال، ولا شك أن الأوبئة والأمراض تنتشر في ظروف المحن والمجاعات، ولذا فقد سُميت سنة (1322ه) بسنة "هيف الأول" وهو وباء وافق معركتي البكيرية والشنانة، وقال المؤرخ "ابن عبيِّد" في وصف هذا الوباء: "هو ما يسمونه الأطباء بداء الصفراء، فكانوا كل يوم يدفنون رجالاً ونساءً وأطفالاً"، كما أنها تُسمى عند بعض البوادي "سنة موت الشيوخ". وفيات «سنة الرحمة» الأعلى بعد وباء الحرب العالمية الأولى.. وعام «ساحوت» زاد فيه موت «الحلال» العرب في جاهليتهم كانوا يصنعون نوعاً من التطعيم ضد الجدري يشبه فكرة «التطعيم» أشهر الأوبئة: «سنة الجراد»، «الجدري»، «السعال»، «هيف الأول» أو «سنة موت الشيوخ»، «الجدري»، «الكوليرا»، «البلهارسيا»، «الدرن» سنة الرحمة أما "سنة الرحمة" فكانت في عام (1337ه)، وتعتبر من أشهر السنوات في تلك الفترة بل إنها عُرفت كسنة فارقة تُحدد من خلالها السنوات الأخرى والتواريخ التي تليها، كما سماها البعض "سنة الصخونة" بسبب انتشار وباء عظيم في نجد مات منه خلق كثير وفقاً لما ذكره "ابن عيسى" وصاحب "تحفة المشتاق"، وعلّلها "فائز البدراني الحربي" بآثار الحرب العالمية الأولى، حيث كثر الموت وانتشر الوباء في كافة أنحاء المعمورة، في حين يرى بعضهم أنها "الكوليرا" ويقال "الأنفلونزا الأسبانية" أو "الوافدة الأسبولية". وفي الدراسات المعاصرة صنّفها البعض بأنها إحدى السنوات التي انتشرت فيها "أنفلونزا الخنازير" أما عام (1349ه) فيسمى "سنة سحبة" كما سمي عام "ساحوت"، وقد سبقت هذه التسمية لإحدى السنوات أيضاً، كما سميت بسنة "لوفة" حيث كثر فيها موت الأغنام والحلال، لوباء انتشر بينما حاول الناس خلالها معالجة ما يملكونه من "الحلال" إلا أن الوباء انتشر سريعاً بينها، وخشي الناس من أن ينتقل هذا الوباء لهم، فهم بخبرتهم ومعرفتهم بأحوال هذه الأمراض والأوبئة، كانوا يدركون جيداً أن منها ما ينتقل من الحيوان للإنسان وكذلك العكس. أما عام (1350ه) فيعرف بسنة "مويقة"، وهي مجاعة أصابت شمال المملكة، في حين سمي عام (1357ه) ب"سنة الشقَّال" وهو مرض أصاب الأغنام والبهائم، كما يسمى "زمان أبو فمي"، وهو أيضاً مرض يصيب البهائم والأغنام، وعرف عام 1362ه في الحجاز بسنة "الأمريكاني" حيث وصل فريق أمريكي لمكافحة الجراد لأول مرة بالمملكة، وعلى إثر ذلك سمّاها البعض "سنة الدباء" وهو صغار الجراد. أما عام (1366ه) فسمي بسنة "بوهان"؛ لأن الناس باهوا فيها -أي احتاروا- أين يذهبون بأغنامهم من الجفاف، وفيها كثر موت الإبل في بعض المناطق تلتها "سنة الجدري" التي سبتقها سنة 1360ه التي كانت تسمى عند أهل مدينة الشعراء سنة "الوتنة"، أو "التطعيمة"، حيث بدأت حملات التطعيم ضد الجدري، كما تسمى عند البعض "سنة ردة الجدري"؛ أي عودة الأحوال إلى طيب العيش بعد الشدة التي أصابتهم في انتشار جدري عام 1358-1359ه، وهي ذات السنة التي وصلت فيها بعثة طبية إلى القصيم للتطعيم ضد الجدري، كما تسمى سنة 1362ه عند بعض بوادي الحجاز "سنة العظبة"؛ أي التطعيم، وأما سنة 1367ه التي تسمى عند العرب "سنة النكبة"، حيث اعتداء اليهود على فلسطين، فهي تسمى أيضاً لدى بعض البوادي والحواضر في العالم العربي بسنة "الكوليرا"، حيث انتشر وباء "الكوليرا" في بعض المنطقة العربية، لا سيما في الشام ومصر. مكافحة الوباء كان للعلماء المسلمين قصب السبق في معالجة الأمراض المعدية، واكتشاف اللقاحات والأمصال التي تساعد الجسم على المناعة ومقاومة البكتيريا والفيروسات، التي من شأنها الانتقال من شخص لآخر عن طريق العدوى، بل إن بعضها ينتقل من الحيوان إلى الإنسان وربما العكس، وقد اكتشف العلماء المسلمون مبدأ العدوى قبل معرفة ال"ميكروسكوبات" وال"ميكروبات" بمئات السنين؛ إذ يقول الطبيب الأندلسي ابن خظيمة: (إن نتائج تجاربي الطويلة تشير إلى أن من خالط أحد المصابين بمرض سار أو لبس ثيابه ابتلي مباشرة بالداء ووقع فريسة عوارضه نفسها)، كما اكتشف الطبيب الأندلسي "ابن زُهر" جرثومة الجرب "داء الحكة"، وابتكر لها الدواء الناجع، ويذكر الأستاذ صبحي سليمان في كتابة "المخترعون العرب أصل الحضارات" أن "سارتون" الصيدلي ومؤرخ العلوم البلجيكي اعتبر "ابن زُهر" أبا علم الطفيليات، كما ذكر اكتشاف "ابن رشد" المناعة التي تتولد لدى المريض بعد إصابته بمرض معُدٍ مثل الجدري، موضحاً أنه قد لا يصاب به مرة أخرى. وقال صبحي: "العرب في جاهليتهم كانوا يصنعون نوعاً من التطعيم ضد الجدري؛ إذ يأخذون بعض البثور من مريض في طور النقاهة ويُلقحون بها الشخص السليم، عن طريق وضعها على راحة اليد وفركها جيداً، أو يحدثون خدشاً في مكانها حتى يصل اللقاح، وهي نفس فكرة التطعيم التي نسبت فيما بعد إلى أوروبا". كان المسلمون أول من ابتدع محاجر العزل الصحي حتى شيدوا لها المستشفيات والمصحات الخاصة لذوي الأمراض المعدية؛ مستوحين ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يورد ممرض على مصح"؛ بمعنى أنه لا يصح للمريض بمرض معدٍ أن يزور الأصحاء، وكذا كانت الأحاديث النبوية الشريفة صريحة في تحريم التعاويذ والتمائم التي كان البعض في الجاهلية يعتقد أنها سبباً لحفظه من الأمراض والأوبئة، بل شدد الهدي النبوي الكريم في ضرورة الحفاظ على نظافة البدن والنظافة العامة، حتى كانت التعاليم النبوية هي المبدأ الأساسي للعلوم الطبية عند المسلمين بوجه عام وعلم التلقيح ومكافحة الأوبئة بوجه خاص، كما ضبطت التعاليم النبوية آداب زيارة المريض وعيادته، وأمرت بالأخذ بأسباب الصحة والسلامة من خلال ما يسمى العزل الطبي، والأمر الصريح بمتابعة الطهارة ونظافة الجسد والأكل والملبس والأثاث، حتى أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بضرورة الطهارة عند زيارة المريض بقوله: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم عاد أخاه المريض فقد بوعد من النار"، وسبب الطهارة جاء هنا طلباً لسلامة المريض من العدوى فهو أكثر تقبلاً لأي عارض، وقد قال الشاعر: إذا ما الجرح رُم على فساد تبين فيه إهمال الطبيب اكتشاف اللقاحات وكانت ورقة الوصفات الطبية تسمى ورقة "الأنعات" أي الوصفات وكان ابن البيطار-شيخ العطارين- قد اكتشف وحده(300) نبات طبي شرحها ووصفها وصفاً طبياً دقيقاً، حتى كان العالم الغربي "سارتون" يقول عنه: إنه أعظم عالم نبات في التاريخ كله، وكان علماء اسطنبول أعادوا اكتشاف "التلقيح" أو "التطعيم" الذي عرفوه من بعض القبائل التركية، كما كان معروفاً في الشمال الأفريقي، وكان الأتراك يلقحون أطفالهم ضد جدري البقر بأخذهم عينة من صدور الأبقار المصابة وسرعان ما يتماثل الأطفال للشفاء، ومن هنا أُدخلت "مونتاغي" زوجة السفير الإنجليزي في اسطنبول بين عامي 1716-1718م، هذا النوع من التلقيح وغيره إلى انجلترا، كما نقلت معه لقاح الجدري الذي كان للعثمانيين السبق في استخدامه؛ حتى إن "مونتاغيو" ذاتها قدمت ابنها الصغير لجراح السفارة باسطنبول آنذاك "تشارلز ما تيلاند" كي يجري لابنها التطعيمات المكافحة لفيروس الجدري، وحين شُفي الطفل أرسلت إلى إنجلترا بتفاصيل عملية التلقيح. امتداد معاصر ما زال العالم إلى يومنا هذا يكتشف أمراضاً وأوبئة من سلالات جديدة، تقف المؤسسات الصحية والمعامل الطبية أمامها حيرى، تعيد تاريخ دراساتها لبعض الأمراض، التي لا شك أن لمعظمها امتداداً تاريخياً في حياة البشر والحيوان، حتى إن الطب الحديث وقف في الأعوام المنصرمة والعقود الماضية، أمام جملة من هذه الأمراض الوبائية فمن "أنفلونزا الطيور" إلى "أنفلونزا الخنازير" ومنها إلى ال"سارس" والجمرة الخبيثة وحمى الضنك وحمى الوادي المتصدع و ال"كورونا"، وكل هذه الأمراض لم تكن بدعة في عالم ال"فايروسات" والأوبئة، بل سبق وأن خضع معظمها لتحاليل الأطباء السابقين، والصيادلة العشابين، فمنها ما عُرف علاجه ومنها ما يزال تحت مجاهر الفحص والتشخيص. حملة مكافحة الكوليرا في المنطقة الشرقية قبل نحو 65 عاماً الأطفال أقل مناعة ودفعوا ثمن حياتهم لقلّة الإمكانات تطعيم الأطفال ضد الحصبة حدّ من انتقال العدوى