المثل المشهور القائل: «من علمني حرفاً صرت له عبداً»، مثل مشهور مع تحفظي للفظة «عبداً» لأن العبودية لله - عز وجل -، ولكن المقصود من المثل أن المعلم له مكانة عليا وعظيمة وكبرى في المجتمعات الراقية التي تقدس العلم والحرف؛ لأن المعلم هو أساس وقاعدة المجتمع فهو المنتج لكل مختلف طبقات المجتمع سواء كانوا قادة أو وزراء أو أطباء أو ذوي أي اختصاص كبير أو صغير، فكل هؤلاء وغيرهم من أفراد المجتمع لا بد أن يجتاز قنطرة المعلم أو المعلمة، ولن تتقدم أي أمة إلاّ بدعم المعلم والمعلمة. وشخصيتنا هي أحد رموز التعليم في الوطن قبل ثمانين عاماً، وقبل التعليم النظامي، لكنه بخبرته التعليمية هو من أوائل من بدؤوا للتعليم الحديث طارحاً تعليم غير تعليم الكتاتيب؛ ألا وهو الشيخ الأستاذ المربي صالح بن ناصر بن صالح - رحمه الله -، لعلنا نجسد شيئا من كفاحه وجهوده في التعليم والتربية. والشيخ صالح بن ناصر بن صالح ولد في عنيزة في العام 1322ه، وتعلم هو على الطريقة القديمة في الكتاتيب في عنيزةوالمجمعة وبعدها بمدة توفى والده، استقر في عنيزةمسقط رأسه بعدما كان في المجمعة هو وأخوه الأستاذ المربي الشاعر الشعبي عبدالمحسن، وكانت نفسية صالح كأنها لم تقتنع بالتعليم البدائي القديم في نجد من حيث الطريقة، فسافر إلى العراق حيث كان عمه يقيم فسكن مدينة الزبير، وكانت بها مدارس حديثة تعلم النشء على طريقة التعليم الحديث، وكانت مدرسة النجاة التي أسسها العالم محمد أمين الشنقيطي مع بعض أهالي الزبير، وكان المربي والمعلم ابن صالح قد سافر إلى الكويت قبل دخوله مدرسة النجاة وتعلم فيها لمدة ثلاث سنوات، لم يكن لها تأثير بالغ ومهم في حياته، لذلك دخل مدرسة النجاة كأحد تلاميذها وأحب هذه المدرسة وتعلق قلبه بها واكتشف شيئاً جديداً هناك، لا من حيث المعلمين أو المواد التي تدرسها، حيث كان يريد شيئاً مغايراً لطريقة التعليم في نجد، وقد وجد بُغيته ومراده في هذه المؤسسة التعليمية الحديثة فدرس المرحلة الابتدائية. ذكاء فطري أقبل الشيخ صالح بن ناصر بن صالح - رحمه الله - بكل ما منحه الله من ذكاء واستعداد فطري أن يستوعب جميع ما يدرس في مدرسة النجاة، فضلاً عن التأثر بمن يدرس فيها وعلى رأسهم العالم محمد الشنقيطي الذي كانت طريقته مثلى في التدريس، حتى أن تلميذه العالم المحقق الشيخ عبدالرحمن بن سعدي أخذ عنه طريقته في التدريس عندما كان الشيخ الشنقيطي يعلم في عنيزة، وهكذا المبدع يؤثر فيمن حوله أياً كان هذا الإبداع، لكن الإبداع في التعليم والتدريس له أثره وتأثيره في التلاميذ، وبذلك يستفيد التلاميذ من معلمهم إذا كان مبدعاً في إيصال المعلومات إليهم وبأسلوب جذاب حتى يحبوا تلك المادة، بل يتعلقوا بهذا المعلم، فكان المربي والمعلم صالح قد أخذ طريقة معلمه في التدريس ونقل هذه التجربة فيما بعد إلى عنيزة وحققت نجاحات كثيرة، وما أعظم النجاح في التعليم والتربية؛ لأنه يتعدى النفع إلى الآخرين، بل هو بناء أجيال، لذلك استحق صالح بن صالح أن يلقب بأُستاذ الجيل، وهذا لقب كبير وعميق وليس لقبا أجوف، بل هو ينطبق على المربي ابن صالح؛ لأنه جمع بين الأستاذية والتربية، إذاً مدرسة النجاة هي على اسمها نجاة من الجهل إلى العلم. تطبيق ميداني وواصل الشيخ صالح بن ناصر بن صالح - رحمه الله - التعليم حتى أتم المرحلة الثانوية، مع أنه قد يُكتفى في ذاك الزمن بالشهادة الابتدائية ليصبح معلماً، لكنه واصل حتى أتم تعليمه - وفي ظني لو كان في الزبير دراسة جامعية لأكمل دراسته الجامعية -، وكانت مدرسة النجاة تدرس مواد القراءة والكتابة والحساب واللغة العربية واللغة الإنجليزية والجغرافيا والتاريخ والفرائض والعقيدة وإمساك الدفاتر - علم المحاسبة -، ونحن نرى هذه المواد جمعت بين العلوم النافعة في حياة التلميذ اليومية وما ينفعه في دينه ودنياه، فليست هذه خالية من علوم الحياة مثل اللغة الإنجليزية التي هي لغة العلم الحديث، وكذلك مسك الدفاتر التي تؤهل التلميذ أن يعرف المحاسبة في التجارة. ورحل الشيخ صالح من الزبير متوجهاً إلى البحرين، فكانت هي السنة الأولى والتطبيق الميداني لما تعلمه في مدرسة النجاة، وقد درس في المدرسة الخليفية ثم انتقال إلى دبي ودرس فيها. مدرسة حديثة وفي العام 1347ه عاد الشيخ صالح بن ناصر بن صالح - رحمه الله - إلى وطنه عنيزة ليحقق حلما كان يراوده؛ وهو إنشاء مدرسة حديثة على طراز مدرسة النجاة، وبما أن لديه العلم والخبرة في أساليب التعليم، لذلك لم يكن هذا الحلم والأمنية معجزة لا يستطيع تنفيذها ولا تطبيقها، فمع الإصرار والعزيمة والنية الصادقة تتحقق الأمنيات حتى ولو تعثر مرات ومرات، لقد تحقق الحلم الكبير لهذا المربي وبدأ واقعياً وافتتح مدرسته التي تعد أول مدرسة حديثة نجدية تسلك الأسلوب الحديث في التدريس والطرق التربوية فيها، وذلك العام 1348ه، وكانت المدرسة تتألف من عدد من الفصول حيث تتعدد المراحل الدراسية، وقد جعل المربي والمعلم صالح بن صالح مدرسته الفذة النموذجية في وقتها الفريدة من نوعها ومسلكها على عدة مراحل؛ المرحلة الأولى تختص بالمبتدئين، كأنهم أولى ابتدائي وهذه المرحلة التي جعلها ابن صالح هي مرحلة تعلم الحروف والقراءة والكتابة والقرآن الكريم، وكان يتولى التعليم شقيقه الشاعر الشعبي والمعلم عبدالمحسن الصالح، وأما المرحلة الثانية خصصها للتلاميذ الذين أمضوا شوطاً في تعلم القراءة والكتابة، وهؤلاء التلاميذ يقوم المربي والمعلم صالح بن صالح بتدريسهم علوماً أخرى كالحساب مثلاً. والجدير بالذكر أن مدرسة ابن صالح هذه حينما افتتحها لم ينضم إليها إلاّ تلميذ واحد، ومع ذلك لم ييأس، بل واصل وعلّم هذا التلميذ لأنه - رحمه الله - كانت لديه رسالة وهي تعليم الناس وإخراجهم من الجهل إلى العلم، وحينما سمع أهالي عنيزة بهذه المدرسة وبرامجها الحديثة وموادها الجديدة بعد عام من الافتتاح وصل عدد التلاميذ إلى 90 تلميذاً في المرحلة الأولى - أولى ابتدائي -، وهذا عدد ضخم في ذاك الزمن، زمن الأمية وهو كذلك نجاح مبكر لهذه المدرسة الحديثة، وعندما كثر التلاميذ أصبحت المراحل ثلاث؛ المرحلة الأولى «أولى ابتدائي» ثم المرحلة الثانية؛ الذين أتقنوا القراءة والكتابة، ثم المرحلة الثالثة، فكان المربي والمعلم صالح وأخوه عبدالمحسن يقومان بتدريس هذه المراحل وكل مرحلة فيها تلاميذ. صاحب نظرة ومن الأشياء التي تحسب للشيخ صالح بن ناصر بن صالح - رحمه الله - أنه صاحب نظرة بعيدة، فقد كان يعد تلاميذه النابهين منهم لتدريس زملائهم بعد ما يتخرجون من هذه المدرسة، فلم يكن عنده حساسية في هذا الجانب، فهو الرجل المتجرد من كل هوى، وهدفه العلم والتعليم وبث النور في أنحاء المجتمع، فتلميذه بالأمس اليوم زميله في هذه المدرسة، ما أعظم نفسك أيها المربي فنفسك سامية؛ ولهذا نجحت في إعداد جيل بل أجيال، وقطفت ثمار ما زرعت وأنت اليوم في باطن الأرض، وأعطيت علماً نافعاً بتعليم الناس. وأعد الشيخ صالح بن صالح يوماً دراسياً لأول مرة في تاريخ التعليم في نجد وفي عنيزة، فكان هذا اليوم يبدأ منذ طلوع الشمس ويبدأ التلاميذ بالاصطفاف في «الطابور»، وهو شيء لم يعهده أهالي عنيزة ولا أهالي نجد منذ قبل، فلم يعهدوا إلاّ الكتاتيب وتعليم الناس القراءة في المساجد حول المطوع يقرئهم ومعه العصا «الفلقة» لتأديب من لا يحفظ أو يلهو في أثناء الدرس، لكن ابن صالح سابق زمانه وطرح عالماً جديداً في التعليم، فكان البرنامج الصباحي هو هذا الطابور، حيث ينظمهم في صفوف، ثم بعد ذلك يقوم هو والتلاميذ بالركض حول المدرسة استعداداً لليوم الدراسي وطرداً للكسل ولمن به بقايا نوم فكان يقوم بتقدم التلاميذ، حتى أُستنكر عليه الهرولة مع الأطفال والصبيان ووصف البعض تصرفه هذا ب»الجنون»، ثم يبدأ بالتمارين السويدية ثم بالأناشيد، ومنه هذا النشيد: يا رب هيئ لنا من أمرنا رشدا واجعل معونتك العظمى لنا سندا ولا تكلنا إلى تدبير أنفسنا فالعبد يعجز عن إصلاح ما فسدا ماذا قال عنه التلاميذ؟ يقول عبدالله القرعاوي: «لقد كان الأستاذ صالح - وهذا هو لقبه المحبب عند الجميع - مثالاً للخلق العالي والعلم الغزير والتواضع الجم، وكان قدوة يغريك بكل الأمثلة النبيلة التي تتمنى أن ترى عليها الناس، كان - رحمه الله - أبرز من عرفت في التواضع الذي لا يجارى والإحاطة بكثير من العلوم التي قل أن تجتمع هذا الزمن في شخص واحد، فلقد كان شاعراً يصوغ القوافي الرصينة والمعاني الحلوة ويطبع الأناشيد الوطنية بحماسته الوطنية وقوة بأسه». ويذكر إبراهيم السبيل عنه: «لقد أمضى عمره معلماً ومربياً لأكثر من جيل، كان شمعة تحترق لتضيء للآخرين دروب النور والخير، لم تستهوه المناصب ولم يؤخذ بزخرف الحياة ومظاهرها، ولقد أمضى في خدمة الأجيال ما يزيد على أربعين عاماً يربي ويوجه». ويقول محمد الشامخ في المربي والمُعلم ابن صالح: «عاش شيخنا في عنيزة نصف قرن من الزمن حياة محضها للعلم وأخلصها للتربية والتعليم، فلم يشغل نفسه بحطام الدنيا بل انصرف إلى تعليم أبناء مدينته جيلاً بعد جيل حتى صار اسمه عنواناً للعلم ورمزاً للتعليم، وما كان التدريس عند أستاذنا مهنة أو وظيفة بل كان موهبة لم يكن يملك إلاّ أن يستجيب لها ورسالة مقدسة، نذر حياته من أجلها». ويعبر على بن سليمان الحمدان عن مشاعره نحو أستاذ الجيل ابن صالح قائلاً: «رجل وهب نفسه وعقله وروحه من أجل تكوين كفاءات مثقفة واعية من الأجيال، كانت البذور التي غرسها واستمر يوالي غرسها طيلة حياته الحافلة بالجهد والتضحية والكفاح، أساساً راسخاً لبلوغ كل الذين كان من نصيبهم أن ينهلوا من ذلك المنهل العذب أسمى الرتب، ليس بالنسبة لمن تسلموا مواقع المسؤولية الرسمية الكبيرة في الدولة فحسب، وإنما في شتى الميادين العامة المتصلة بحياة كل فرد في هذا المجتمع». ويقول الشيخ عبدالله البسام عن ابن صالح في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون): «تخرج على يد الأستاذ صالح من مدرسته هذه النموذجية أجيال بعد أجيال بعد أجيال صاروا هم الشباب الذين تولوا الأعمال الحكومية حينما منّ الله على هذه البلاد بالثروة، والأستاذ ابن صالح مغرم بحب بلده عنيزه ويفديها بكل غالٍ ونفيس». ولقد قام محبو الشيخ من عنيزة بتأسيس مركز أطلق عليه «مركز ابن صالح» تخليداً لذكراه بعد وفاته، فكان عملاً طيباً ووفاءً لهذا الرجل الذي أمضى جل حياته في العلم والتعليم والتربية. رائد وأب وعندما تقاعد الشيخ صالح بن ناصر بن صالح - رحمه الله - من العمل الحكومي وجهت إليه اللجنة الاجتماعية هذه الكلمات التي نشرتها جريدة «الرياض» بتاريخ 11 / 8 / 1392ه: ولهذا فكل مواطن ينتمي إلى عنيزة يرى فيك الرائد والأب والمعلم، يرى فيك الرائد لأنك قبل ما يقارب نصف قرن أنشأت مدرسة خاصة في عنيزة في وقت لم يكن مواطنون على مستوى من الوعي لإدراك أهمية التعليم، مما ضاعف من مهمتك التي التزمت بها وبذل جهداً عظيماً لاقناع آبائنا للاستفادة من مشروعك الخيري العظيم؛ تلك المدرسة التي تسير في نظامها وأسلوبها على نفس النظام الذي تسير عليه المدارس الحاضرة، من حيث تنوع المواد وممارسة النشاطات المدرسة وواصلت العمل في هذا الميدان في مدارس الحكومة من موقع المسؤولية حتى نهاية خدماتك. ويرى فيك الأب لأنك تحيط جميع تلاميذك بعطفك وحنانك ورعايتك، ويرى فيك العلم لأنك لا تدخر وسعاً في سبيل تزويد تلاميذك والعاملين معك بكل نافع وجديد في ميدان العلم والثقافة والخلق الفاضل. لقد أمضيت ربيع عمرك في تربية الناشئة وتغذية عقولهم وأفكارهم وغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم، منكراً ذاتك واضعاً في اعتبارك الأول والأخير خدمة وطنك وأبناء وطنك عازفاً عن كل ما يحول بينك وبين ذلك. وها أنت تختم سلسلة خدماتك الطويلة وقد تركت في قلوب جميع المواطنين أثراً لا ينمحي وذكرى مشرقة تزداد مع الأيام رسوخاً وثباتاً. فلك ولرفيق كفاحك شقيقك الأستاذ عبدالمحسن شكر المواطنين وتقديرهم، سائلين المولى عز وجل أن يجزيكما عن عملكما خير الجزاء. وفاة ابن صالح وتوفي الشيخ صالح بن ناصر بن صالح بتاريخ 13 / 06 / 1400ه، أسكنه الله الفردوس الأعلى، ولقد استفدت من كتاب بعنوان «معلم ومجتمع» الذي أصدره مركز ابن صالح في العام 1408ه، في كتابة هذا التقرير. نموذج من نص مسرحية الجاهل والمتعلم التي أقامها ابن صالح في مدرسته صالح بن صالح نقل التعليم في عنيزة من الكتاتيب إلى المدرسة المنظمة مركز صالح بن صالح الاجتماعي أُسّس تخليداً لذكراه إعداد- صلاح الزامل