العلماء الربانيون هم الذين تعلموا العلم الشرعي وانتفعوا به، وهو أشرف العلوم، ثم ظهر هذا العلم على سلوكهم الشخصي وعبادتهم، فجمعوا بينه وبين العمل به، ونشروه بين الخلق، ولعل من أهم صفات العالم الرباني أن تكون الدنيا آخر ما يفكر فيه ويشتغل به، فالدنيا في يده وليست في قلبه، والمال خادم وليس مخدوما، ومن هؤلاء الشيخ العالم المحقق محمد بن سليمان بن عبدالعزيز آل بسام -رحمه الله- ذاك الذي قد لا يعرفه بعض الناس. ولد الشيخ محمد آل بسام عام 1334ه بعنيزة، وبها نشأ وتربى في بيت علم، وبعد أن تعلم مبادئ القراءة والكتابة في المنزل، رغبت أسرته -وهم أخواله آل بسام- أن يدخل كتاتيب عنيزة، فدرس في مدرسة القرزعي وفي مدرسة الدامغ، وقد بدأ حفظ القرآن منذ صغره، وأكمل حفظه عام 1357ه، ومن هذا التاريخ كان له موعد مع العلامة الشيخ المفسر عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- الذي لازمه منذ ذلك التاريخ ولم يفارقه في دروسه في عنيزة، فالشيخ محمد آل بسام من خواص تلاميذ ابن سعدي، بل هو من خاصة الخاصة في الدرس وخارج الدرس، فالشيخ ابن سعدي هو أستاذ ومعلم ومربى الشيخ محمد آل بسام، فكلاهما صديقان، لذلك كان تأثره بشيخه كثيراً في الأخلاق والسيرة والسلوك والزهد، وفي العلم وحب نشره بين طلبة العلم، وفيما يفيد الناس عموماً، وفي هذه المدة الطويلة خاصةً ما بين 1357ه حتى عام 1367ه كانت المرحلة العلمية الصارمة، التي تفتحت فيها مدارك الشيخ محمد آل بسام، حينما اعتكف في حلقة الدرس عند شيخه الأول ومربيه العلامة ابن سعدي، ولم تَفُتْهُ دروسه طوال هذه المرحلة، خاصةً دروس النحو، فقد قرأ على شيخه متون النحو، وأحب هذا العلم وشُغف به، وأصبح مبدعاً فيه حتى أصبح مرجعاً فيه. فاق أقرانه حفظ الشيخ محمد آل بسام الألفية وقرأها على شيخه عبدالرحمن بن سعدي حتى قال في رسالة لوالده يثني عليه النبوغ في النحو قائلاً: «.. ثم أبدي لجنابك يبو محمد أن الولد محمد بن سليمان قد سررنا جداً بقربه، واتصاله بنا، واتصافه - من فضل الله - بكل خلق حميد، وسعيه لكل فعل جميع واجتهاده - من كرم الله - في تحصيل العلوم النافعة رغبة ذاتية وحرصاً نفسياً، وإدراكه - من كرم الله - ما سعى لأجله ما لم يدركه غيره، فقد حصل خيراً كثيراً من الفقه والفرائض والأصول الدينية والأصول الفقهية، وفاق أقرانه في علم النحو والعربية، والآن قد أتم حفظ الألفية لابن مالك حفظاً للفظها، وفهماً لمعانيها، وتطبيقاً لها على قراءة سائر العلوم العربية، بحيث نحكم من غير مبالغة له لا تمر به آية قرآنية أو حديث نبوي أو كلام عربي إلاّ ويعرف إعرابه، ولا يلحن لحناً قليلًا ولا كثيراً في النطق به، فقد بارك الله في وقته، فحصل علماً كثيراً في وقت قصير»، ثم قال الشيخ ابن سعدي عن تلميذه محمد آل بسام: «وأما حفظه للقرآن، فنحن والله لا نقاربه في الحفظ والضبط»، ثم أثنى على تلميذه وعلى أخلاقه، وجعله في مقام أبنائه، حيث قال موجهاً كلامه لوالده: «وفي الحقيقة مهو بولدك وحدك إنما هو من أعز أولادي وأخلص أحبابي شفقة ومودة مبنية على ما هو عليه من الصفات الكريمة... إلخ»، وهذه ليست شهادة واحدة، بل هي شهادات متعددة من كبار وأشهر علماء المملكة في ذاك الزمن، ويرجع تاريخ كتابة الرسالة إلى 1361ه. شهادة تقدير والشيخ عبدالرحمن بن سعدي شهد لهذا التلميذ المبدع بالجد والاجتهاد والتحصيل في العلوم الشرعية التي درسها عليه خلال الأربعة أعوام، من 1357ه حتى 1361ه، وأنه فاق زملاءه في الحلقة، وأدرك إدراكاً جيداً، وانتفع من هذه العلوم، وأن رغبته في العلم من تلقاء نفسه ونبوغه في علم النحو والعربية، وشهد له شيخه ابن سعدي بأنه حاذق في هذا العلم، بدليل أنه يعرب كل آية قرآنية أو حديث نبوي أو كلام من الشعر والنثر، وبدليل آخر أن قراءته في الحلقة من حفظ المتون لا يلحن ولا يتطرق إليه الخطأ، ثم أثنى عليه شيخه بأنه حافظ للقرآن الكريم، حتى إن الشيخ ابن سعدي، وهو العالم الحافظ فضله على نفسه في حفظه للقرآن، وهذه شهادة خالدة وعظيمة تحسب للشيخ محمد آل بسام وكذلك للشيخ ابن سعدي الذي تجرد من كل هوى ومن كل حظ للنفس، وفضل تلميذه عليه في موضوع حفظه القرآن، فكانت هذه الشهادات شهادات تقدير ووسام شرف وتكريم وإجلال وفخر لهذا التلميذ الذي سيصبح عالماً من علماء المملكة، ومرجعاً من مراجع العلم والمعرفة، وعنه تؤخذ الفتوى. شواهد شعرية ودرس الشيخ محمد آل بسام على شيخه عبدالرحمن بن سعدي الفقه الحنبلي والحديث والتفسير، كما أبدع في علم النحو، وأصبح إماماً فيه، فكذلك كان إماما في علم الفرائض والمواريث، وكان الشيخ عبدالله بن بسام - ابن عمه رئيس محكمة التمييز سابقاً والمدرس بالمسجد الحرام - يرجع إليه في كثير من مسائل الفرائص والمواريث، كما أخبرني الشيخ منصور بن محمد آل بسام، ولحبه لعلم الفرائض حقق كتاب الشنشوري في شرح الرحبية، وهي من أحسن الشروح للرحبية واسم الكتاب «الفوائد الشنوشورية»، وكان -رحمه الله- يلزم التلاميذ الذين يدرسون عليه الفرائض بحفظ الرحبية لأجل فهم الفرائض، أما نبوغه في علم النحو، فهو يحفظ الشواهد الشعرية القديمة عن ظهر قلب، مثل شواهد ابن عقيل في شرحه لألفية ابن مالك، فكانت الشواهد الشعرية على لسانه تتدفق في مسائل النحو. علاقة مثالية وارتبط الشيخ محمد آل بسام بشيخه ابن سعدي وأحبه حباً كبيراً، وكان شيخه ابن سعدي يبادله هذه المشاعر حتى إنه كان يستأمنه على بعض أموره الخاصة، ولعمق هذه العلاقة المثالية بين الشيخ وتلميذه كان الشيخ ابن سعدي يكلف تلميذه محمد آل بسام بأن ينسخ مؤلفاته لحسن خط تلميذه وإتقانه وجماله، فقد نسخ «الدرة البهية .. شرح القصيدة التائية» للإمام ابن تيمية، وقد طبعت هذه الرسالة في حياة الشيخ محمد آل بسام، وكذلك نسخ كتاب «تيسير اللطيف المنان في التفسير» لشيخه ابن سعدي، ونسخ كتاب «فوائد مستنبطة من قصة يوسف» وكتاب «توحيد الأنبياء والمرسلين» و»كشف النقاب عن نظم قواعد الإعراب»، ونسخ «منظومة في الفقه»، وكذلك نسخ كتاب «المختارات الجلية»، ونسخ «صفوة أصول الفقه» و»رسالة ياجوج ومأجوج»، وكل هذه المؤلفات لشيخه ابن سعدي، هذا فضلاً عن أنه صحح معظم كتب شيخه، فهو الخبير العالم بخط شيخه وبرموزه، وقد استمرت هذه الصحبة العميقة والراسخة بين الشيخ والتلميذ حتى وفاة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي عام 1376ه، وصلى على شيخه، وتألم أشد الألم لهذا الفقد وهذا المصاب الكبير، فالشيخ ابن سعدي والد ومربٍّ وموجه وأخ كبير وصديق صدوق للشيخ محمد آل بسام. معبر للرؤى وروى الشيخ محمد آل بسام قصة أنه كان جالساً مع شيخه ابن سعدي قبل وفاته بخمسة أيام، قائلاً: إن ابن سعدي قال لي: إنني رأيت كأني وأنت نائمان وملتحفان في قطيفة لم يظهر منّا إلاّ رأسانا، فكان المطر يهطل، فقلت لك: غط رأسك، فأجبتني بقولك: لا هذا خير إن شاء الله، وكان هو قد غطى رأسه؛ -أي ابن سعدي- وتابع آل بسام قائلاً: لم أنتبه لتعبير الرؤيا إلاّ بعد وفاته، حيث توفي بعد خمسة أيام من هذه الرؤيا، وقد فسرها الشيخ محمد آل بسام فيما بعد، حيث كان معبرا للرؤى، لكن لا يظهر هذا للناس. وقد درس الشيخ محمد البسام في مكة على بعض علماء الحرم المكي، فقد لازم الشيخ المحدث محمد عبدالرزاق حمزة، وقرأ عليه «فتح الباري» و»صحيح مسلم»، وكانت بينهما صحبة كما أخبرني الشيخ منصور ابن محمد آل بسام، وقرأ على الشيخ عبدالظاهر أبو السمح «إمام الحرم المكي» القرآن الكريم وفي العقيدة. طريقة حسنة ولقد بدأ الشيخ محمد آل بسام التدريس وهو في عنيزة، فقد جلس للطلبة إبان حياة شيخه ابن سعدي، فكان يدرس الطلبة المبتدئين، ثم لما انتقل إلى مكة عقد درساً في الحرم في الحديث والفقه والنحو، وكان له تلاميذ كثيرون، وقد كانت طريقته في التعليم طريقة حسنة، تقرأ عليه المتون، سواء في الحديث أو متن فقهي، فيقوم بشرحه بتركيز واختصار، فكان لا يترك المتن غامضاً حتى يفك هذا الغموض بإيضاح وكشف لما أبهم، ويطلب من التلاميذ الأسئلة والمناقشة من دون جدل عقيم، وعندما ترك التدريس في المسجد الحرام نقل درسه إلى مسجد بجوار منزله بالعزيزية، ثم لمّا مرض نقل الدرس إلى منزله، واستمر يدرس في منزله حتى عام 1423ه؛ حيث أصيب بجلطة جعلت سمعه ثقيلا -رحمه الله-، لكن قبل هذا التاريخ كان منزله دارة من دور العلم في مكة، وكانت أكثر الأوقات لعقد الدروس هي بعد صلاة العصر، وكان لا يُلزم الطلبة في الحلقة بكتاب واحد فقط، بل كل تلميذ يقرأ عليه من كتابه الذي أحضره سواء في الحديث أو النحو أو الفقه والفرائض. رفض المناصب وقال لي هاني الحارثي: لقد كان يقرأ على شيخنا محمد آل بسام أربعة عشر كتابا في فنون مختلفة، وكانت معه نسخته كتاب «الروض المربع» حينما يشرح في الفقه التي عليها تعليقاته وهوامشه، ومن بعد رجوع الشيخ محمد من بريطانيا في رحلة علاجية؛ أي عام 1398ه، ومن هذا التاريخ حتى عام 1423ه والشيخ محمد ينشر علمه بين تلاميذه بداية في الحرم المكي، وقبل هذا التاريخ كان يدرس في الحرم المكي، لكن في مدة ليست متصلة، أمّا بعد 1398ه فهو الاستمرار الدائم في بذل نفسه ووقته كله في التدريس، وكان له تلاميذ كثيرون في مكة وقبلها في عنيزة، ولقد أوقف الشيخ محمد آل بسام نفسه لطلبة العلم، وكان لا يشغله شيء سوى العلم والتعليم، ورفض كل المناصب التي عرضت عليه بالأخص منصب القضاء ذاك المنصب الخطير، وقد رُشِّح للقضاء في عهد الملك سعود وعهد الملك فيصل -رحمهما الله-، وأبى وسافر خارج البلاد تورعاً وزهداً، لذلك لم يكن له أي منصب حكومي، بل كان يأكل من عمل يده، فقد كان يزاول مهنة إصلاح الساعات ومهنة صناعة الأقفال، وكان له محل في مكة يفتحه وقت الصباح، وهذا هو العمل الوحيد الذي يأكل ويرتزق منه، كذلك كانت له معرفة جيدة بإصلاح السيارات «الميكانيكا». إجادة الإنجليزية الجدير بالذكر أن الشيخ محمد آل بسام يجيد اللغة الإنجليزية، تعلمها في الزبير، فهو يتقنها كتابة وتحدثاً، وقد أسلم على يديه أربعة أشخاص لما كان في الرحلة العلاجية بلندن، وقد يستغرب بعض القراء لماذا لم يشتهر الشيخ محمد آل بسام مع أن غيره ممن ينسب إلى العلم أكثر منه شهرة وحضورا؟، أقول: لأنه من أزهد الناس في الشهرة والظهور، بل هو من الزهاد في عصر يندر فيه الزهد في المناصب والظهور، لقد كان همه بل مشروعه طيلة حياته هو نشر العلم بالتدريس وكتابة بعض المؤلفات، ومن أهم مؤلفاته رسالته القيِّمة النفيسة الدرة «كشف الأستار عن تلفيق وتعليق النجار» على تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، وهي رسالة صغيرة، لكنها حوت فوائد وفرائد نادرة، رد بها على الذي علّق على تفسير الشيخ ابن سعدي، وقد دلت هذه الرسالة على غزارة علم الشيخ محمد آل بسام ودقة فهمه وإحاطته بعلم التفسير، كيف لا وهو العالم بمؤلفات شيخه ابن سعدي، وإذا صح أن نقول إن الفقيه ابن العطار يطلق عليه مختصر النووي؛ لأنه تلميذ للنووي وخبير بمؤلفاته، فكذلك الشيخ محمد آل بسام يعد مختصر ابن سعدي، مع أن الشيخ محمد يخالف شيخه ابن سعدي في بعض المسائل الفقهية، وله شخصية مستقلة، وكان ينهج الدليل الصحيح، وليس متعصباً للمذهب الحنبلي. لا يُجامل من مؤلفات الشيخ محمد آل بسام القيِّمة «رسالة في الصلاة وبيان موضع تكبير الانتقال»، وهي رسالة موجزة، لكن حرر فيها بالدليل والتعليل بعض المسائل الفقهية المتعلقة بالصلاة، وبالأخص عن تكبيرات الانتقال، وقد استفدت من هذه الرسالة، وكذلك من ردوده على مؤلفين لابن عمه الشيخ عبدالله آل بسام في كتابيه «تيسير العلام شرح عمدة الأحكام» وكتابه «شرح بلوغ المرام»، وقد قام الشيخ منصور بن محمد آل بسام ابن الشيخ بنشر مؤلفات والده في حياته وبعدما توفي، سواء المؤلفات المخطوطة، أو إعادة نشر المؤلفات التي طبعت، وهو الآن يقوم بمشروع ضخم، وهو نشر تعليقات والده في الكتب، سواء في الحديث أو التفسير أو الفقه؛ لتعم الفائدة من هذه التعليقات والحواشي. والشيخ محمد كان جليسه ونديمه وسعادته في الكتاب والتدريس، هذان هما عالمه في هذه الدنيا، بل سروره وفرحه بطلبة العلم والتلاميذ شيء لا يوصف وحبه لهم -رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى-، فهو من العلماء الربانيين الزهاد، ومن أهل الورع والصدق، لا يمكن أن يجامل أحداً في قول الحق، وكان صريحاً في أقواله. كل الشكر لمنصور بن محمد آل بسام على تزويدي بكل معلومة وفائدة، سواء كانت ورقية أو مشافهة عن والده، فهو الابن البار بوالده في حياته وبعد مماته في نشر مؤلفاته. وقد توفي الشيخ بتاريخ 1431/12/7ه، وصُلي عليه في المسجد الحرام، اللهم شفِّع فيه من صلى عليه بالمسجد الحرام صلاة الجنازة، واجعل قبره روضة من رياض الجنة. الشيخ محمد آل بسام بعد تقدمه في العمر أستاذه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي محمد آل بسام في شبابه من مؤلفات الشيخ آل بسام من مؤلفات الشيخ آل بسام صلاح الزامل