نحن في هذه الآونة وفي الفترة التاريخية المترهلة للمسرح العربي نطالب وندين ونشجب ونبحث ونعد الندوات والمؤتمرات وقل ما تشاء، لكننا لا نستطيع فَكَّ عُرى ارتباط المسرح بالمال، الذي أصبح أمرًا مستحيلًا رغم محاولات بعض الفرق التغلب عليها.. لماذا يرتبط المسرح بالمال وذلك على عكس كل صنوف الإبداع؟ ولعل هذا هو الخط التراجيدي في حياة المسرح، وهو ما يدعه يتقلب بين اللذة والكدر هو وكل الممتهنين بمهنته. فالمال هو ما يدفع عجلته، وهو أيضًا من يضع العصا في عجلته، وقد تبين لنا ذلك من خلال تأملات في مسيرته عبر التاريخ. فإذا نظرنا إلى المسرح في أوروبا وإنجلترا - على سبيل المثال - فسنجد أنه كان ضعيفًا مضعضعًا يتوكأ على بعض الفرق الخاصة، أمثال جون ليلي (1554 - 1606) و(روبرت جرين 1560 - 1592) و(جون بيل (1565 - 1591)، ثم ماذا عن فرقة شكسبير التي تبعتهم أو قل تزامنت معهم؟ لقد كانت هذه الفرق تتعرض لمشكلات كثيرة - كما يعاني منه مسرحنا العربي الآن - حتى استقرت الأوضاع الاقتصادية والسياسية في عهد الملكة (إليزابيث 1570)، التي وقفت مع المسرح الشعبي وناصرته آنذاك؛ ويرجع بعض النقاد ذلك؛ لأنها تنتمي إلى هذه الطبقة من ناحية الأم، فظهر ما يسمى "كوميديا المدينة"، التي نهضت بالنشاط المسرحي في إنجلترا، كما ساعد على ذلك النشاط ظهور طبقة التجار وأصحاب الأعمال، إما طمعًا في استثمار أموالهم، وإما دعمًا للمسرح، وفي الأغلب أنهم يتوقون نحوه تجاريًا كعادة رجال الأعمال في استثمار المسرح، فبدأ الناس بالإقبال على المسرح وانتشرت رقعته. فرغم ظهور الطاعون عندما ضرب المدينة، التي منعت التجمعات أمام المسرح على الضفة الأخرى من نهر التايمز، تلك الفرق من المسرح وازدهاره وتدفقه؛ لأن رأس المال يعمل، والتجار والمستثمرون يتسابقون، والكتاب مغازل تنسج، وأولهم ريتشارد بيربدج، فهو كبير كتاب المسرح آنذاك. فأنشأ ما أسماه The Ileatr، وهو الجد الأكبر لمسرح الجلوب، الذي أنشأه (كاثبارت) بعد الحريق، فهو من التحق به شكسبير بفرقته عقب وصوله إلى لندن من مدينة (سترافورد آفون). هذا السباق المحموم على المسرح بدافع المال هو من أخرج لنا شكسبير؛ لأن شمعته موقدة، وجماهيره حاضرة، وصالاته مليئة برجال الأعمال أمثال (فيليت هنسلو)، وهو تاجر من الأثرياء؛ إذ بنى مسرح (الوردة الحمراء) لكي ينافس شكسبير، وهذه الأعمال هي من صنعت نهضة المسرح في إنجلترا. ويتوالى ارتباط نهضة المسرح بالمال بين تقلب اقتصاديات الدول، فمجرد أن حدثت أزمة القطن الشهيرة في الولاياتالمتحدة الأميركية (1837 إلى 1844) حتى ازدهر المسرح في مصر على يد عزيز عيد وعلي الكسار والريحاني، وغيرهم ممن صنعوا نهضة مسرحية كبيرة. فلم تكن أزمة إبداع أو صناعة، وإنما كانت أزمة مال - فالإنتاج المسرحي شديد التكاليف، وإذا لم يقدم له شباكه تغطية تكاليفه على أقل تقدير، فإن المسرحية ستتوقف، وهذا شيء بدهي. فإذا ما عدنا إلى علاقة أزمة القطن في الولاياتالمتحدة الأميركية بالمسرح المصري آنذاك، فسنجدها تتجلى في غزارة إنتاج القطن في مصر، مع توقف إنتاج القطن الأميركي، فراج سوق القطن المصري عالميًا، وانتعش الاقتصاد، وأقبل رجال الأعمال داعمين أو مستثمرين، كما حدث في إنجلترا من قبل، أما الفلاحون وزُراع القطن فأقبلوا على قاعات المسرح بجيوب منتفخة جراء هذا الثراء. هذا الإقبال على المسرح جراء تحسن الظروف الاقتصادية نهض به وبشكل كبير، كما أن للسيولة الطبقية شأنها في هذا الأمر، فحين عاد يوسف وهبي إلى المسرح بنموذج "الكوميديا الاجتماعية"، جعل الطبقة الوسطى تقبل على المسرح؛ لأنهم يرون أنفسهم فيها. فتدفق المال على المسرح في ذلك الوقت، ما عمل على نهضة مسرحية، ليست في مصر فحسب، وإنما في أرض الشام أيضًا؛ نظرًا لامتزاج الفرق المسرحية وتنقلها. نحن في هذه الآونة وفي الفترة التاريخية المترهلة للمسرح العربي نطالب وندين ونشجب ونبحث ونعد الندوات والمؤتمرات وقل ما تشاء، لكننا لا نستطيع فَكَّ عُرى ارتباط المسرح بالمال، الذي أصبح أمرًا مستحيلاً، رغم محاولات بعض الفرق التغلب عليها. فالجمهور وكيفية الإقبال أصبحا العقبة المهمة والمؤثرة في هذا المنوال، الجمهور وكيفية إقباله عليه، خاصة بعد ارتفاع أجر النجم وأجر دور العرض وتكاليف الإنتاج، كما أن ظهور التقنيات عالية المستوى في السينما جعل الجمهور يقارن بين المسرح والسينما، وهذا أمر بالغ الأثر في ارتفاع شباك التذاكر، فأصبح رأس المال هو الأزمة في مسرحنا العربي، وأصبح المنتج هو النجم الأوحد فيه؛ نظرا لارتفاع التكاليف، وتصبح المشكلة الأهم هي وعي المنتجين بالمسرح، فالمسرح التجاري لا بد أن يقوم عليه رجال يعرفون خبايا المسرح ومدى تأثيره، وتلك هي الأزمة الكبرى!