المسرح العربي في تراجع، لكي لا أقول في انحدار. ان يكون المسرح في تراجع لا يعني بالضرروة غياب أي عمل جيد، بل يعني غياب زخم معين وغياب حركة وفوران وحماسة للمسرح، وتضافر جهود، وتعويل على المسرح لطرح المشكلات، وغياب جمهور معني بذلك كله. يعني خفوت سجال وتحاشي صدام فكري وغياب تبادل. يعني ان المسرح ينسحب ويتراجع كلغة للحاضر وقضاياه، وإن ظهرت هنا وهناك، بين الحين والحين، مسرحية نفّاذة بل خارقة. كما ان تراجع المسرح لا يعني غياب مسرحيات ناجحة على مستوى الاقبال ودوام العروض. المسرح في تراجع على رغم التضخم في المؤسسات المسرحية من فروع وزارية ومعاهد وكليات وأساتذة وبعثات ومتفرغين بين تقنيين وممثلين ومخرجين، ورغم توفر امكانات بشرية عالية في حقل المسرح لا يمكن اغفالها. المسرح في تراجع وليس في ازمة. فالأزمة لا تنفصل عن وعي المشكلة ومعاناة النقص والحاجة، والتساؤل عن الأسباب. كانت صيحة الازمة قائمة يوم كان المسرح يمارس نقده الذاتي ومراجعة اسسه وتصحيح نسبه وتصويب اهدافه، اي يوم كان معافى وفي عز فورانه. يومذاك تقاطع وعي الازمة المسرحية مع وعي الازمة الحضارية فكانت النهضة المسرحية العربية الثانية، او العصر الذهبي للمسرح العربي. فما الذي تغير؟ يبدو لي أنه لفهم الوضع المسرحي ومآزق المسرح اليوم لا بد من التساؤل حول هوية المسرح العربي والعوامل التي هيأت نهضته. في مطلع العشرينات، عندما قدّم صديق فريد، في نادي كلية غوردون في الخرطوم، مسرحية "صلاح الدين الأيوبي وفتح بيت المقدس" لفرح انطون، شارك في التمثيل والاخراج شعراء ومهندسون وقاضٍ والضابط علي عبداللطيف زعيم جمعية "اللواء الابيض" السياسية، والذي سيكون قطباً أساسياً في ثورة 1924 ضد الانكليز. كما شارك في هذا العمل المسرحي اساتذة وطلاب وموظفون. ويفرض علينا سياق هذا الوضع ان نتعرف بشكل سريع الى شخصية علي عبداللطيف لكي نلم بالجوّ الذي عرضت فيه المسرحية وبأبعاد ذلك اللقاء الثقافي الفني - السياسي الذي كانت المسرحية حيّزاً له. علي عبداللطيف زعيم وطني سياسي مؤسس جمعية "اللواء الابيض"، حكم عليه الانكليز عام 1922 بالسجن لمدة سنة واحدة. لكنه بعد خروجه من السجن عاد وقاد تظاهرة ترفع علماً ابيض عليه رسم لوادي النيل مع رسم هلال وعبارة "الى الأمام". فألقي القبض عليه ثانية. آنذاك قام طلاب الكلية الحربية بتظاهرة وتوجهوا الى السجن لتحية علي عبداللطيف، فسجنوا بدورهم، وشاركوا داخل السجن بثورة "اللواء الابيض". وبالنتيجة حُكم على علي عبداللطيف بالسجن مدة سبع سنوات، وكان ذلك عام 1924. يصف حسن نجيلة في كتابه "ملامح المجتمع السوداني" ذلك العرض المسرحي فيقول: "كان النادي مكتظاً، لم يبق فيه موضع لقدم. ورفعت الستارة، وشهد الناس عجباً، فهتفوا وصفّقوا ... وما كاد الستار يُسدل على حوادث الفصل الأول حتى دوى المكان بالتصفيق، وهرعنا الى ما وراء الكواليس، وشهدنا الضابط علي عبداللطيف مندمجاً في اعداد الممثلين، ورأينا القاضي توفيق وهبي وهو يساعد في اخراج المسرحية". كما يصف الكاتب اعادة تقديم المسرحية مع قيام صديق فريد نفسه بدور البطل، وردّ فعل المشاهدين، فيقول: "لم نكن نصفّق او نهتف فحسب، بل كنا نصرخ ملء اصواتنا تجاوباً مع صديق في دور صلاح الدين. وبكى بعضنا وانتحب، وتأثر حتى صبية المدارس الصغار". انظر ايضاً د. علي الراعي - المسرح في الوطن العربي، ص 329 وما بعدها
اننا هنا أمام لقاء، بل تداخل بالغ الدلالة يكشف هوية المسرح العربي وخصوصيته، على الرغم مما وجه اليه من نقد تمثل هذا النقد في ما بعد ببعض من اجمل الاعمال المسرحية العربية، وعلى الرغم من اعتباره، تبسيطاً وإجحافاً، مجرد نقل عن الغرب. اخترت هذا المثال الذي يستحضر البداية الجدية للمسرح السوداني، لأبين الموقع الذي انطلق منه المسرح العربي، والمناخ الذي نما فيه، والتداخل الذي تحقق عبر المسرح بين الابعاد الفنية والحاجات القومية والمرامي التعليمية، هنا المُتخيل والخطابي يلتقيان مع النضال العملي السياسي وكل منهما يتوقّد بنار الآخر. ليس هذا المثال وحيداً استثنائياً مهما كان صارخاً نموذجياً. وسوف نرى ما يشبهه او يقترب منه في بلدان عربية اخرى، وفي مراحل مختلفة لا سيما في العام 1968 في مصر ولبنان. أما في السودان فقد جاء بعد صديق فريد وجماعته، التي استمرت بين 1918 و1933، رائد آخر هو خالد أبو الروس الذي اتخذ المسرح منبر يقظة وتحرر، ألّف المسرحيات وأخرجها وشارك في التمثيل وطاف بمسرحياته في انحاء السودان. ويمكن ان نتقصّى امثلة مشابهة لبداية المسرح السوداني في بلدان عربية عديدة، فلمّا تحرك طلاب جامعة القرويين في فاس عام 1923 وشكّلوا أول فرقة مسرحية، بدأت بتقديم مسرحية فرح انطون السابق ذكرها "صلاح الدين الأيوبي"، قاموا بذلك في سياق مقاومة الاحتلال. وفي اطار المقاومة كذلك، مقاومة طغيان الثقافة والحضور الفرنسيين قدّم رشيد قسنطيني في الجزائر مسرحه، ومنه مسرحية "بوبورما" عام 1928. ولمّا بدأ المسرح في البحرين عام 1925 تم ذلك مع بدء افتتاح المدارس وفي الاطار المدرسي. وكذلك الامر بالنسبة الى المسرح في الكويت، حيث بدأ كنشاط تثقيفي قبل ان ينتقل الى الاحتراف. هذه المسارح جميعها كانت وريثة المسرح العربي الأول وفق الشكل المقتبس عن الغرب وامتداداً لشخصيته بل هويته كما رسمها بوضوح رواد من لبنان وسورية ومصر. فعندما قدّم مارون النقّاش 1817 - 1855 مسرحيته الأولى في بيروت عام 1848، أوضح في خطبة الافتتاح ان المسرح "ذو رسالة تعليمية تهذيبية تمدينية". وعندما بدأ ابو خليل القبّاني 1833 - 1903 مسرحه في دمشق عام 6581 كان يرمي الى غايات اخلاقية تنويرية. وانه لأمر بالغ الدلالة ان يشجعه يومذاك والي سورية التقدمي وأبو الدستور مدحت باشا. ويعقوب صنوع 1839 - 1912 الذي انشأ اول مسرح محترف في مصر عام 1870 توجه الى عامة الناس واعتمد الكوميديا لمعالجة قضايا اجتماعية كالفقر والظلم ولنقد نظام السلطة وطرح مبدأ المواطنية. ولأنه كان ذا رسالة يتمسك بنشرها انتقل الى الصحافة لمّا أقفل مسرحه، وواصل خطه التنويري. كيف ولد المسرح العربي؟ هذه الوقائع يمثل كل منها لحظة تلاقت فيها ابعاد المثقف المفكر والثائر المحرر، والمعلم، والمسرحي. وهي تكشف مباشرة عن الموقع الذي ولد فيه المسرح الحديث وطبيعته، والوظيفة التي كانت في انتظاره وشغلها فور حضوره. والتأمل في هذه الوقائع يسمح بتلمس عدد من النتائج: لم يولد المسرح العربي من الطقوس ولا من التقاليد الاحتفالية التي تتشكل حول اللحظات المميزة في حياة الجماعة الحرب، الابطال والسلطة وتحولاتها، الحصاد، الزواج، الولادة، الموت... وهو ما حصل في مسارح كبرى اصيلة في العالم كالمسرح اليوناني والهندي والاندونيسي وغيرها. ولد المسرح العربي بشكله الحديث من حقل الافكار وبتلاحم وتواشج مع الأدب، وفي اطار النهضة العربية وطروحاتها وتطلعاتها، وفي سياق حركة التحديث. وارتبط ازدهاره بنهضة الافكار وظهور التصورات الكلية. ولد المسرح العربي من الحاجة الى منبر وميدان لفاعلية المثقف، من الحاجة الى موقع ايصال واتصال يحمل الصوت الهامشي المفرد المثقف الى الحيز العام. فالمسرحي الأول هو المثقف صاحب المشروع، المستقل بأفكاره عن السلطة والذي أقام مسافة نقدية ازاء الافكار والقناعات السائدة، انه المثقف المرتبط بالعام من دون المرور بقنوات السلطة. انه المثقف الذي وجد في المسرح منبراً لسلطة الافكار، فاعتلى الخشبة وتوسل القصة والشخصية واللعب ليتمكن من اداء دوره، او الدور الذي ولّده الوعي الجديد بمسؤولية الفرد، والفرد العارف بشكل خاص. كانت الخشبة، كالصحافة، وسيلته للخروج من الهامش والتعامل بالقضايا التي ظلت طويلاً خارج صلاحياته، وبالخيالي الخطابي اي الادبي بحسب الملامح الأساسية لأدب النهضة اراد اقتحام الحقل الممتنع تقليدياً على غير اهل السلطة. المسرحي توأم الصحافي، كل منهما نموذج للمثقف الذي اقتحم حلبة الآراء والمشاغل العامة، سياسية واجتماعية وفكرية دخل ميدان التغيير الاجتماعي السياسي عن طريق تغيير الآراء والنظرات والمواقف، وكلاهما بدأ متداخلاً بالادب. وكان المسرح، بمجرد وجوده، وبفعل القضايا التي نهض لها وعالجها فعل تمرد، وظاهرة تحول فكري اجتماعي سياسي كبير. المسرحي توأم الصحافي وصنوه، ولدا معاً في سياق حركة التحديث، وفي زمن واحد، وكانت لهما اهداف واحدة. بل كان المسرحيون الاوائل من اوائل الصحافيين. الفريق الأول توسل الحدث المتخيل لينتج وعياً وفكراً، والفريق الثاني عالج الوقائع والاحداث المباشرة وحللها او علق عليها بالفكر المجرد لينتج، هو كذلك، وعياً وفكراً. وقد تبادلا المواقع طويلاً، قبل ان توسع الخصوصية التقنية وضغوط السلطات الشقة بينهما. ولائحة المسرحيين الصحافيين تضم رواداً في المسرح والصحافة والفكر النقدي، من نقولا نقاش 1825 - 1894 وسليم خليل النقاش وأديب اسحق 1856 - 1885 ويعقوب صنوع الى فرح انطون 1874 - 1922 صاحب مجلة "الجامعة" والذي كتب اشهر مسرحيات مطلع القرن. وفيما استوعبت السلطة السياسية الصحافي تدريجياً، بقي المتخيل والمسرحي زمناً أطول في هامش النقد والمعارضة والتطلعات. في موقع المعارضة نما المسرح العربي، وفي موقع المعارضة عرف نهضتيه الكبيرتين، وفي موقع المعارضة لا السياسية او المباشرة بالضرورة، بل الفكرية خاصة ودائماً، في موقع المعارضة رسخت هويته. "السم في الدسم" هكذا ارتبط المسرح العربي منذ بداياته باقتحام المثقف لميدان القضايا العامة. كان ذلك الاقتحام خروجاً من شرنقة الخاص الى العام الذي ظل طويلاً حكراً على السلطة. واليوم ولّى زمن المسرحية التي تتحول الى تظاهرة. اليوم من له "جلَد" ان يحضر مسرحية تبحث في العام او تقترح تصورات؟ حضور مسرحية تضحك، ممكن... اما مسرحية تحلل تناقش، تقدم لنا صورتنا في نقد ذاتي... من له جلَد؟ يمكن لمسرحية ان "تدس السم في الدسم"، وعلى طريقة ابن المقفع "تسلّي الجاهل وتعلّم العاقل". اما الجد، فله حلقاته التي لا تنفك تضيق وتضيق حتى غدت مثل الطرق والجمعيات المقفلة. طويلاً ظل المسرح الحلبة العامة التي تطرح فيها شؤون العام. اليوم يسحب العام من الساحة الى كواليس خاصة بالسياسيين وخبرائهم. وبعد الفصام بين المسرحي والصحافي هل سنشهد انفصاماً بين المسرحي والمثقف؟ وبعد اقتحام ميدان العام، هل نكون شهوداً على الرجوع الى الشرانق؟ المسرحي اليوم وكما رسم المسرحيون هو يتهم حتى الآن بين خيارين: اما ان يتجرد من هويته كمثقف ويصير مهرجاً وربما درويشاً، وإما ان يلتزم بهويته كمثقف ويحتمل العمل لصالات شبه خالية وجمهور غائب. وإلا فان على المسرحي ان يبلور رؤية مسرحية جديدة وفهماً جديداً لرسالة المسرح وهوية المسرحي فهل ترانا سنشهد فجر نهضة ثالثة لم تكشف الأعمال الجديدة عنها حتى الآن؟ في النهضة الاولى للمسرح العربي، اي تلك التي تحققت بين اواخر القرن الماضي وثلاثينات هذا القرن، تبلور دور المسرح كعامل نهضوي، وتم توظيفه توظيفاً كاملاً في خدمة تطلعات النهضة ومثُلها كما رآها المثقفون. فقد ازدهرت في اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين المسرحيات التي تترجم تلك التطلعات والمثل، فكانت، في جانب كبير منها، تاريخية تعبر عن التعلق بالماضي ومبدأ اليقظة وانبعاث المثل، وتنقد الاوضاع المتخلفة، وتدعو الى منطلقات الاصلاح. من هنا ان تلك النهضة المسرحية عثرت على مخزونها القصصي في الموروث التاريخي ومادته الغنية التي وفرتها حركة الطباعة والنشر مع بداية النهضة، وكذلك في أي رافد قابل للترجمة الى صورة ذلك الموروث. ان ديناميكية ذلك المسرح وفعاليته لم تتولّدا في الدرجة الاولى من فنيته العالية وتقنياته، بل من اقترانه بمشروع تاريخي وحلم جماعي متشكل في صور، مع وجود حالمين اصحاب قضايا، وبالنتيجة من عثور المسرحيين على لغة ومتخيل عبرهما يتم التواصل مع اهل زمانهم. النهضة الثانية النهضة الثانية التي عرفها المسرح العربي امتدت بين اواسط الخمسينات وأواسط الثمانينات، ورسمت ذروتها بين 1968 و1975، وكانت لهذه النهضة مواصفات مماثلة للنهضة الاولى، وتوهجت فيها لحظات لقاء استثنائية بين الخشبة والجمهور. ولم تنحصر المسرحيات التي تمثل لحظات اللقاء هذه في بلد واحد، ولم تتحدد بأسلوب مسرحي واحد، ونجدها حيثما نمت تقاليد مسرحية. وفي ما يلي، اقتصر على اوضح الامثلة: ففي العام 1968 عندما قدم علي سالم في القاهرة مسرحية "أوديب 68" وفيها نقد لتضخيم شخصية الحاكم ونسبة العظائم لهذه الشخصية حتى تبلغ المستوى الاسطوري، خرج الحاضرون، بعد انتهاء العرض، يرددون معاً الاغنية التي كانت هتاف الناس في تلك المسرحية "أنت اللي قتلت الوحش". وصارت تلك اللازمة اغنية الوسط الثقافي القاهري وتعبيراً عن نقد التصور الشعبي للبطل الذي لا يخطئ. وفي بيروت، في اعقاب الهجوم الاسرائيلي على مطار بيروت عام 1968، ومن دون ان يقابل المهاجمون بأي مواجهة، قدم "محترف بيروت للمسرح" وكان على رأسه المخرج روجيه عساف والممثلة نضال الاشقر مسرحية "مجدلون" من تأليف هنري حاماتي. وقد جاءت المسرحية يومذاك رداً على الموقف الرسمي ونقداً مباشراً للوضع السياسي والعقلية العامة. وكان ان اوقف العرض بقوة الشرطة. لكن الجمهور لم يتخلّ عن المسرحية، وانتقل الممثلون والحضور الى مقهى "الهورس شو" في شارع الحمراء وواصلوا النقاش. وسوف يقدم روجيه عساف في اطار فرقة "مسرح الحكواتي" مسرحية "أيام الخيام" عام 1983. وهي تشكل ذروة التجربة الجماعية في المسرح. الواقع ان روجيه عساف كان هنا بمثابة قائد اوركسترا التأليف والاخراج، كما صرح مراراً. وتجربة العمل الجماعي هنا لم تقتصر على مشاركة أعضاء الفرقة وبينهم مؤلفون وممثلون كبار: رفيق علي أحمد، عبيدو باشا، حنان الحاج علي، اضافة الى سليم بدير ومارك موراني، وفدوى هاشم، ومحمد الضو، وأسامة شعبان، وهنري عساف، وعلي كلش، وكميل فرحات، وجان رطل، إذ إضافة الى هؤلاء شارك في تأليف المسرحية مهجَّرو ثلاث عشرة من قرى الجنوب اللبناني. وقد نمت أحداث المسرحية في اتجاه شكلها الأخير خلال سنتين من التجوال والرواية والاستماع والحياة المشتركة مع سكان هذه القرى، وكان طبيعياً بعد ذلك أن يشكل عرضها في قرى الجنوب أو في بيروت وضواحيها احتفالاً شعبياً. في هذا السياق أيضاً لا بد من الاشارة الى التجربة المسرحية المغربية. فقد قدمت هذه التجربة إعادة تصور لمفهوم المسرح ودوره وموقعه في الحياة الثقافية، وذلك في إطار هواجس اجتماعية سياسية. ومسرحية الطيب الصديقي "ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب" 1966 كانت الأنجح في تحقيق هذا الهدف. أما نهجه في مسرحية الحياة فيتمثل في مسرحية "وادي المخازن" التي عرضت في ملعب لكرة القدم وشارك فيها خمسمائة شخص معظمهم من الجيش. والتجربة الجزائرية متقدمة على مستوى المشاركة والتفاعل والتأليف الجماعي. وزمن العرض المسرحي هو زمن لتبلور الوعي. من أبرز الأمثلة على ذلك التجاوب الذي لقيته مسرحية الكاتب الراحل كاتب ياسين "محمد خذ حقيبتك" التي عرضت مئات المرات ولقيت إقبالاً وحماسة نادرين، وأيضاً العمل المدهش الذي قدمه عبدالرحمن ولد كاكي بعنوان "بني كلبون". وفي التجربة الجزائرية تستوقفنا ظاهرة التأليف الجماعي والعمل الجماعي، وهي ظاهرة بدأت منذ العام 1968 مع "مسرح البحر" ثم "مسرح الشباب" و"جماعة بيت الشباب". والأعمال في هذه المسارح كانت مناسبات للقاء والنقاش والتساؤل. هوية المثقف لقد ارتبطت هذه النهضة الثانية بتيار نقد ومراجعة وإعادة نظر وبحث لم يُعرف لها مثيل في التاريخ الحديث، بلغت ذروتها بعد هزيمة 1967. وقد طرحت عبر المسرح أعمق المشكلات العربية. فالهزيمة حتمت اعادة النظر في العلاقة بالماضي. لم تعد قصص الماضي وأبطاله تستعاد في نوع من أحلام اليقظة بل في صيغة المحاكمة التي تصل الى حد المحاكمة المتبادلة: الماضي يحاكم الحاضر، الحاضر يعيد النظر في الماضي. صار المسرح لغة وعي وأداة نضال وتغيير، تقدمت الكتابة المسرحية والصورة المسرحية كلغة أساسية للتساؤل والحلم والنقد وصياغة صورة الذات القومية، حتى أنها أخذت تنافس الشعر العربي في هذا الدور. وتقاطع في المسرح، التساؤل حول الهوية القومية مع التساؤل حول هوية المسرح العربي ودوره، وتداخلت الدعوة الى الديموقراطية والاصغاء الى صوت الجمهور بالبحث عن مسرح يسقط فيه الجدار الرابع وتتداخل فيه الصالة والخشبة. وأعيد النظر في الموقف السابق من المسرح الغربي في اطار اعادة النظر في الموقف من التحديث. وأعيد الاعتبار الى أشكال "الفرجة" الشعبية في اطار الطموح الى مسرح يبني الذاكرة الجماعية. هذه النهضة جاءت متوافقة مع فوران في الأفكار وطفرة في الأحزاب والتيارات السياسية، ومع السجالات والتساؤلات. كما جاءت متزامنة مع بلوغ الحركة الشعرية الحديثة ذروة من ذرواتها، ومع تجدد وغزارة في القصة القصيرة والرواية. بين النهضة المسرحية الأولى، التي عرفت ذروتها بين عشرينات القرن وثلاثيناته، وبين النهضة المسرحية الثانية التي رسمت ذروتها بين 1968 و1975 وامتدت حتى أواسط الثمانينات فوارق كبرى، لكن بينهما أيضاً سمات وركائز مشتركة. تكمن الفوارق في النظر الى المسرح، والتعامل مع تقنيات المسرح، كما تكمن على مستوى العلاقة بين اللغة المسرحية واللغة الأدبية، لكن في أساس هذا الاختلاف نجد التطور الذي وقع على مستوى التصورات والعلاقة بالذات. فبينما تمحورت النهضة الأولى على بناء صورة مثالية طوباوية للذات، تمحورت النهضة الثانية على النقد والتساؤل الموجهين الى الحاضر، أي على محاولة مواجهة الذات. وهذه النهضة الثانية المتمحورة على نقد الذات هي التي شهدت حركة بحث عن الجذور وعن هوية عربية للمسرح، وهي الحركة التي أدت الى استعادة أشكال وعناصر ثقافية موروثة: الحكواتي، السامر الريفي، المدّاح، الأسواق القديمة، المرويات والأخبار، شاعر الربابة... وكانت النتيجة حصول هذا الطباق المزدوج: في النهضة الأولى تبنٍ شبه كامل للشكل المسرحي الغربي من جهة، ومن جهة مقابلة مضمون يستعيد القيم العربية والشخصيات والأحداث العربية الماضية. في النهضة الثانية تساؤل نقدي حول الشكل المسرحي الغربي وحركة التحديث إجمالاً، وبحث عن اشكال احتفالية موروثة، من جهة، لكن من جهة ثانية توظيف ذلك لانتاج مضمون يتساءل تساؤلاً جذرياً نقدياً حول الماضي والذات. غير ان السمات المشتركة بين النهضتين هي ما يستدعي النظر، وهي سمات بنائية ثلاث: السمة الأولى هي المعارضة للواقع الراهن سياسياً وفكرياً وثقافياً. وهذا من خصائص النهوض، فكل نهضة هي إعادة كتابة أو إعادة تصور للاشكال وللتاريخ. أما السمة الثانية فتكمن في أن النتاج المسرحي في النهضتين، على بعد ما بينهما، كان نتاج أفكار وتصورات كبرى شاملة للتاريخ. فهذا المسرح قد نما في نطاق بنى وأنماط للتفكير كلية شمولية، وبموجبها تم بناء مخزونه القصصي. كان الزمن زمن البحث عن حلول وتفسيرات، زمن طرح مشروعات وصور كاملة ترسم المبتدأ والمآل، زمن الجنوح الى صياغة الواقع والتاريخ في مسارات ونماذج وأمثال متكاملة. والخلاصة حضور مشروع تاريخي. السمة الثالثة لا تنفصل عن السمتين السابقتين وهي ان المسرح العربي كما ولد وتأسس ونهض يحمل هوية المثقف. السمة الرابعة هي التداخل بين المسرح والأدب وإمكان الانتقال من الكتاب الى المسرحية وبالعكس، على الرغم من التطورات التي لحقت بالنص في أواخر النهضة الثانية. السمة الخامسة هي وجود جمهور، فوجود الجمهور يعني وجود هاجس أو هم مشترك وإن كان ضمنياً أو احتمالياً أو راقداً بين المسرحي والجمهور إزاء هذا المشروع التاريخي. هذا المشترك أو اللقاء هو ما يشكل اللحمة بين الحضور، أي ما يحول مجموع الأفراد الحاضرين الى جمهور. من دون هذه اللحمة لا يقوم جمهور حقيقي. إن امتلاء أي قاعة بالفضوليين أو بالمدعوين لا يعني تشكل جمهور، ففي كل جمهور حقيقي بعد طقسي مضمر هو حصيلة شراكة وتواطؤ. وينبغي ان نقرّ بأن جمهور المسرح العربي مع أخذنا بالاعتبار الطبيعة الثقافية لهذا المسرح إن لم يكن كله من المثقفين فقد كان من أوساط غير بعيدة عنهم وعن هواجسهم. كان من الأوساط التي تقرأ الصحف، على الأقل، وترى أنها معنية بالعام وما يجري في ساحته. وهي بالنتيجة الأوساط التي كانت حاضرة كي لا نقول فاعلة في التغيرات السياسية بين العشرينات والسبعينات من هذا القرن. الأوساط التي تظاهرت وتحزّبت ورأت ان الفرد المواطن العادي معني بكل ما يجري ومسؤول ويبحث عن تعبير وأداة للفعل. أين المسرح اليوم؟ أين هو المسرح اليوم من هذه السمات أو الركائز؟ وهل للتحولات التي طرأت على هذه السمات علاقة بتراجع المسرح؟ وأين يتجه المسرح العربي اليوم؟ يمكننا أن نلاحظ، استناداً الى عدد من المسرحيات التي عرضت منذ أواسط الثمانينات ان المسرح يتحرك باتجاه المشهدية. وفيما تمسك إبان نهضته الأولى بركائز للذائقة الشعبية كالقصة والخطابية وبعض عناصر الاحتفال الشعبي في أقدم أشكاله، لا سيما الغناء، فإنه قد تخلى منذ بداية نهضته الثانية عن الخطابية والغناء، وحلّ اشكالية الفصحى والعامية. غير أنه في أواخر هذه النهضة الثانية، ومنذ الثمانينات سيتخلى عن ركن أساسي في البناء المسرحي هو الهيكلية القصصية أو قصة المسرحية كحدث موحد رئيسي. ولو أخذنا عدداً من أهم الأعمال التي قدمت بين مطلع السبعينات وأواسط الثمانينات مثل "الخان وأحوال ذلك الزمان" ليوسف العاني، و"أيام الخيام" لفرقة مسرح الحكواتي، و"ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب" للطيب الصديقي، لوجدنا انها تقوم على شخصيات راوية وتتعدد فيها القصص. كذلك ستتسع الشقة بين المسرح والأدب. ففضلاً عن غياب ظاهرة الأدب المسرحي والمسرحية الشعرية التي نشطت في الثلاثينات، سيتراجع المسرح كنص أدبي. ويكاد المخرج - المؤلف ان يصبح حالة عامة. حتى التأليف الجماعي الذي نشط منذ أواسط السبعينات في الجزائرولبنان وفلسطين. يبدو في تراجع لأنه لم ينجح إلا في أوساط مسيّسة وذات مشروعات فكرية تاريخية. وبالنتيجة تتقدم الصورة والحركة ومن ثم يتقدم البعد التقني. *** يمكن القول ان المثقف كهوية للمسرحي بمعنى الوعي المسؤول هو الباقي، لكن أي أفق أمام المثقف اليوم؟ المسافة التي كانت تتيح للمثقف الاشراف على كلية المشهد التاريخي تبدو في تراجع. المثقف يميل تدريجياً نحو المتخصص التقني. وبعض المناظير الجاهزة للرؤية وتفسير العالم فقدت عصمتها، وان كان الخطر قائماً باحتمال صياغة أو تبني مناظير بديلة جاهزة. واذا كانت الصدمات والهزائم المتوالية على امتداد القرن لعبت دوراً في تصديع الرؤى الكلية وكشف ما فيها من مثالية حالمة أو من قسر وإسقاط، فإن اسهام الحروب العربية الأخيرة كان اسهاماً ملموساً. لقد اتسعت الهوة بين الواقع والخطاب الايديولوجي، اتسعت المسافة بين العام والخاص. الانتماءات أخذت تميل الى الضيق، الاهتمامات تميل الى الجزئي الفردي. يصعد اليومي المباشر العيني، وتغدو الطوارىء والضرورات المعيشية أكثر إلحاحاً وقسراً. ولا يصعب أن نرى اهتزاز عدد من المسارات الكلية إن لم نقل تصدّعها كمسار العودة الى الماضي القومي المجيد، مسار الصراع الطبقي، مسار العقلنة والتحديث، مسار الوحدة التي تحل سائر المشكلات، بل حتى مسار الموت والانبعاث. هذه الاضاءة السريعة لهوية المسرح العربي ومنطلقه الثقافي الاصلاحي، وارتباط نهضتيه بمواقف فكرية، وترعرعه في أوساط ثقافية قام بمبادراتها وأفكارها وصدر عن مشروعها التاريخي، مقدمة ضرورية لأي تساؤل حول المسرح العربي اليوم وآفاقه المقبلة. * ناقدة وكاتبة عربية.