عادت اللغة العربية الفصحى بقوة في عمل حاتم علي الأخير "أوركيديا" الدراما التي كتبها للتلفزيون عدنان العودة، وأدى أدوارها كوكبة من نجوم الدراما السورية والعربية. عادت بفخامة كل ما تملكه لغة الجمال والفن، وليس بلغة التطرف التي أصبحت تُنسب إليه وتظهر بحلته من خلال الدراما العربية في السنوات الأخيرة. وفي أعمال حاتم علي النجوم نجوم فعلا في كل كلمة يلفظونها، وكل حركة يقومون بها. لا سقوط أمام كاميرته وإدارته من سلم النجومية، هناك صعود نحو القمة دائما على يديه.. يتقن هذا المخرج المتميز كيف يجعل من كل مشهد مساحة لممثليه ليبدعوا في أدوارهم إلى أقصى حد. جماليات العمل تقوم على عبقرية سيد الإخراج، الذي يعرف أن يشكّل من النصوص الجميلة ما هو أجمل، ولا شكّ أن العمل ليس كما قرأه بعض متابعي الدراما، فقد فاق في جماله المسلسل التركي السلطان سليمان، وتوابعه، كما عكس أجواء الشرق تماما كما لو أنها منقولة على المباشر من حقبة حقيقية وأشخاص حقيقيين. وإن لم تكن هذه الأجواء حقيقية فهي ما نتمناه أن تكون عليه. متعة الاستماع للحرف العربي وهو يحبك الحوارات العميقة يجعل الأمر يبدو قصيدة طويلة لا تنتهي، تلقى علينا بأصوات مختلفة وأنغام موسيقية مدهشة في تزاوجها الجميل مع تلك المشاهد. دقة السّرد أيضا تقوم على قول الحقيقة الإنسانية، فلا مبالغات استعراضية، ولا مغالطات تاريخية، ولا رسائل سطحية سخيفة، فقط ذاك الرابط المشترك بين صفات البشر وصراع الخير والشر، الجشع والعفة، الضمير والفجور، وكأن ما يعرض أمامنا تحفة من تحف شكسبير التي أبدع فيها مزيلا أغلفة القلوب وكشف خباياها. هذا هو عدنان العودة أيضا الشاعر الذي يكتب بحس مرهف، ويعرف أين ومتى وكيف توضع الكلمة على الكلمة لتصبح ثمرة لذيذة لا نكفّ عن اشتهائها، منطلقا من خلفية ثقافية ثرية لا تتوقف عند مسلسل أميريكي تتابعه الأجيال الجديدة، لكن ليس جيلنا نحن. عمل بهذه القوة نحتار كيف نقيّمه، إذ إن قراءته تحتاج إلى مشاهدة جادّة، بعيدة تماما عن المشاهدات السطحية، التي نملأ بها الأوقات الرمضانية حين نصاب بتعب الصيام. ووسط مللنا من الأعمال المكررة وبرامج الكاميرا الخفية التي بلغت حد التقزز بعد تجاوزها كل الحدود الأخلاقية، نقف أمام الأعمال القليلة الجيدة وقفة احترام تناسب احترام مشتغليها لنا كمشاهدين. ثمّة هذا العنصر بالذات "الاحترام" وهو الذي ينقصنا اليوم في جل ما يُقَدّم لنا، وهو بالمناسبة العنصر الغالب في أعمال مخرجين قلّة، يتفوّقون في فرض سلطتهم على كل من يتجاوز القيمة الحقيقية للدور المسند له. أوركيديا بالنسبة لي رحلة في بحر الزمن، بين موجه، وشطآنه، وصورة للنفس البشرية المسافرة على متن تلك الرحلة، رُصِدت خلالها التغيرات التي تطال تلك النّفس، فترضخ لقوى الشر أحيانا وتنأى عنها مرات ومرّات أخرى ترمي بها الأقدار إلى أماكن غير متوقعة.. تماما كالحياة فلا هي في متناول أيدينا بالكامل ولا هي في متناول القدر لنكون أبرياء مما تقترفه أيدينا. مسلسل في قمة الجمال حرص حاتم علي على جعله هدية رمضانية لنا جميعا. واستراحة للمتعبين من مسلسلات الصراخ والترهيب والترعيب والتنكيت الفارغ من النكتة، وتصوير مجتمع لم يعد يشبهنا.