يختار مسلسل «أوركيديا» (عدنان العودة/ حاتم علي) درباً خاصةً في نجاحاته وعثراته، ليسلكها في زحمة العرض خلال شهر رمضان الجاري، بعيداً من المسلسلات الأخرى. يجمع المسلسل الكثير من التناقضات في الواجهة والعديد من المتوافقات تحت السطح. يتخلى عن «عمل السوق» في شكل مباشر في زمن تجاري على رغم محاولة مجاراته، مستنداً إلى عمق ثقافي حقيقي، من دون أن يكمل الدرب سالماً لعدم تحقيق التوازن بين الحوار والصورة والحدث. وأحياناً، يمشي، بخلل لا بعيب، كشابة جميلة ناضجة بثقل خطوات عجوز متواضعة الملبس. تبدأ الأحداث مع عتبة بن الأكثم، الذي يفرّ مع أخته «رملة» إلى ملك «سامارا»، بعدما اجتاح «الملك الجنابي» مملكتهم «أوركيديا» قاتلاً الوالد الملك. الأمير الشاب يشتد عوده ليبدأ رحلة الثأر واستعادة حكم والده بنجاح. يتوازى هذا الخط مع غيره من مكائد القصور والغرف المغلقة حول السلطة والنساء والعشق، بالاستناد الى فضاء الخيال التاريخي، بإسقاطات مباشرة على صراعات العصر الحالي، كفقدان الوطن ومحاولة استعادته، والتدخل في شؤون الدول الجارة، والدعم القائم على المصالح لا القيم، وخلق الأحلام العامة الزائفة المبنية على أهداف شخصية. الحامل الدرامي الأساس هو المعادلة بين القدر والفعل في التكامل أو التنافس أو التناقض. فلا حدث بيد واحدة، القضاء يتدخل في التدبير والجهد، والعكس صحيح. مثلاً، يتكاملان في جرّ براء الحكيم الى خيانة ملكه، ويتضادان حين تدبر الملكة الفارعة لإبعاد رملة عن زوجها فتلقيها في حضنه، ويتنافسان في نسل «الجنابي». ويذهب العمل بعيداً في الاتكاء على الرمز وتجسيده بلا تنميط وبلا لون واحد. شخصيات ممالك «أوركيديا» و»آشوريا» و»سامارا»، هي على التوالي استبداد العقل في الأمير عتبة، وروح الحب في الملك انمار، والجبروت في الملك الجنابي وحلم السلطة في سيف العزّ ونزوة الشباب في الأمير نامق، والحكمة في براء، والقدر في العرافة الكاف، من دون أن تلغي هذه الرموز ما ينافسها في الشخصيات المصنوعة من لحم ودم، والقابلة للتقلب وحمل أوجه أخرى. ولعل أبرز ما يميز هذه الأدوار، أن المسافة الواضحة حد السذاجة بين الخير والشر غالباً في الأعمال الدرامية، غير موجودة في «أوركيديا»، بل هي ضبابية تثير التساؤل في معظم الحالات والشخصيات. هي على حق أم على باطل؟ قبل أن تنكشف شيئاً فشيئاً في مراحل متقدمة. لا تتلفّظ الشخصيات بحوارات مجانية. هي أفكار مصاغة بأبعاد عدة تدعو الى التفكير، طارحةً أسئلةً حياتية ووجودية حول مفاهيم كثيرة لدى الرجل والمرأة ضمن البشر ومعايير علاقاتهم وسويتهم، إضافة الى نوع من الحكم ووجهات النظر التي تستحق الوقوف عندها. مثلاً: «هل تخاف السلطة من الكلمات؟»، «التجار كالأفاعي يبدلون جلودهم وفق مصالحهم، ليسوا محاربين»، «لا فرق بين امرأة من العامة وملكة حين يتعلق الأمر بأزواجهن»، «لا مكان للسلام على هذه الأرض، هو استراحة بين الحروب»، «من أكثر حرية؟ السجّان أم المعتقل؟»، إلى جانب تأملات حول الحب والوطن والطموح والخيانة والثأر والتسامح وغيرها. وتأتي الحوارات المشوبة ببعض الأخطاء اللغوية في الفصحى، ملجومةً على رغم عمقها بأحداث غير حادة ولا معقدة بالقدر الكافي، على رغم كثرتها، فيبدو التصاعد الدرامي بطيئاً، إذ لا يبلغ ذروة حادة. ويزيد من خفتان الحدث الصورة غير المشبعة في مواقف رئيسة ومقدار غير كاف من اللقطات العامة، كاسترجاع «عتبة» مملكته في معركة باهتة بلا عدة ولا عديد في الشكل، بتناقض مع عمل يحمل سيفاً في بنيانه، كمشهد آخر يستحق المجاميع والهيبة في حفل مبايعة الملك المنتصر وتنصيبه. لكنّ الكاميرا تأخذه في زقاق ضيق وفي قاعة صغرى! في هذا الإطار، تنجح وتفشل السينوغرافيا أمام العدسة. مقر «براء الحكيم» يعج بالكتب توافقاً مع شخصيته، كما هي الحال مع شرفة انمار الرومنطيقي، لكنها تفشل في إظهار القوة في مجلس «الجنابي»، مع شفاعة التركيز على تمثاله. الأبرز في السينوغرافيا هو الاختلاف العمراني بين مملكة وأخرى. في الأداء، تتميز سلافة معمار بشخصية الملكة الخاتون العاقر التي تغوي في خيانة أحد عمّال زوجها، كمجرد «ملقّح»، لإرضاء عطش زوجها الملك الجنابي للذرية. تمسك معمار الثلج والنار معاً لتجسّد الأنثى الفاتنة والباطشة، المحبة والخائنة، حسرة العاقر ولهفة الأم، جلالة الملكة ووضاعة الحشّاشة. عيناها «تفاحة حواء» أفضل أدواتها في هذا الدور، فكأنها حدقّت داخل المشاهد نفسه. إغواؤها نامق بنظرات من خلف الستارة المشرّعة بقدر مقصود، وطرده بحدّة النبرة وقسوة الصوت و»انتصار المرأة» بعد نجاح الحمل، كفيلان بتنصيبها «شيطانة تمثيل». وعلى رغم المساحة غير الكافية، يبرز قيس الشيخ النجيب في إظهار الانعطافات الحادة في شخصية نامق، ما تمرّ به من صعود ونزول ونشوة وخلع وتنصيب. وأما باسل خياط - بشخصية عتبة - فعلى رغم أدائه الجيد، إلّا أن لا مجهود واضحاً في وضع أي بصمة للشخصية، على عكس عمل عابد فهد المعقد بتجسيد سيف العزّ، الصارم واللعوب، القاسي والحنون، نبرة الصوت تلحق الموقف، العينان رسالة حادة. ولا يمكن نقد «أوركيديا» من إنتاج شركة «إيبلا» بلا الإشارة الى المتاعب غير المألوفة التي داهمته خلال فترة التصوير، والتي لا بد أنها تنعكس في بعض مفاصل نتيجة العرض. التصوير في استديوات رومانيا اصطدم بدوام لا يزيد عن نصف نهار يومياً وبالفريق الروماني التقني البطيء قياساً لوتيرة العمل السورية، وبمنع من إشعال نار داخل الاستديو في عمل لا كهرباء فيه، ويتضمن مشاهد إحراق وويلات، إضافة الى مشاكل تأشيرات الدخول، وغيرها مما هو أساسي كتبرؤ الكاتب من عمله بعد إلحاق تغييرات فيه بعد تدخّل من الكاتب والممثل إياد أبو الشامات الذي تضمنت الشارة اسمه تحت عنوان «استشارة درامية». يقول العودة: «بعد عرض الحلقة الثامنة والركود الدرامي المستمر، بات لدي سؤال بسيط. من كتب هذا المسلسل؟ أحقاً هو أنا؟ بالتأكيد لا، لأنني لا أكتب بهذه الطريقة...».