هكذا إذن، ففي سياق ما نأمله من توازن الحرب الفكرية ضد الإرهاب، يجب علينا مثلاً إبراز حرمة غير المسلم جنباً إلى جنب مع حرمة المسلم، هذا إن لم نجعل التركيز منصباً على حرمة الإنسانية بشكل عام، يمكن في هذا المجال إبراز قول الله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} وهي آية عظيمة تقرر أن القتال حالة استثنائية مقيدة بالاعتداء على الأوطان من أي طرف كان مسلماً كان أم غير مسلم، كما يمكن التركيز على إبراز قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما). كما يمكن التركيز أيضاً على سيرته صلى الله عليه وسلم العملية مع غير المسلمين، وهي سيرة قائمة كما هو معروف على البر والصلة واحترام الحقوق، يمكن في هذا المجال بشكل خاص إبراز مقتطفات من عقد صحيفة المدينة الذي أسس الرسول صلى الله عليه وسلم دولة المدينة وفقاً لمواده، وهو عقد اجتماعي مدني بكل المقاييس يجعل المواطنة هي الأساس الذي يمكن بواسطته تقييم عطاء وسلوك الأفراد الخاضعين لسلطة الدولة، إنه عقد وادع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المواطنين غير المسلمين (وهم يهود يثرب) على أنهم أمة مع غيرهم من المواطنين المسلمين، حيث تتجلى نصوص تلك الموادعة بشكل خاص بما تضمنه ذلك العقد الاجتماعي الأول في حياة الدولة الإسلامية من فقرات مبثوثة في ثناياه تؤكد التضامنية بين ساكني المدينة من مثل قوله (وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليه) وهي تأسيس لحق المواطنة أولاً، وكذلك قوله (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) وهي تأسيس لواجب من أهم الواجبات على مواطني الدولة وهو واجب الدفاع عنها كمواطن فقط بعيداً عن التضلل بضلال الهوية الخاصة، وأيضاً (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) وهي اعتراف واضح بالتعددية الدينية في المجتمع الواحد وأيضاً (وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم) وهي تأسيس للعلاقات السلمية بين المذاهب والأديان داخل المجتمع الواحد على أساس من الاجتماع على الوطن والدفاع عنه، وكذلك تأسيس لقيم البر والصلة والاعتراف المتبادل بين جميع مواطني الدولة بلا تمييز قائم على الدين أو العرق أو المذهب. إن التركيز على مثل تلك النصوص التي تؤسس لعلاقات سلمية كاملة غير منقوصة بين المسلمين وغيرهم تتعداها إلى قيم تسامحية عظيمة من قبيل البر والإحسان والصلة لهو في تقديري جدير بأخذه بالاعتبار عند تدشين الحملات الفكرية ضد الإرهاب خاصة كما أشرت آنفاً إلى أن اللوبي المتشدد التكفيري لا يزال ذا حصون منيعة عصية بعد على الزحزحة ناهيك عن القضاء المبرم عليها.. ولي عودة تالية بإذن الله لتحليل عقد صحيفة المدينة الذي أوردته كتب السيرة كتأسيس أولي رائع وغير مسبوق لعقد اجتماعي لا يقيد حرية المستظلين بظلاله أكثر من تقييد حريتهم تجاه العبث بمقدرات الوطن والقفز على مصالحه. [email protected]