ويعلق عالم الاجتماع العراقي المعروف الدكتور:علي الوردي على هذه الأبيات الشوقية بقوله:" لقد كان محمد كما وصفه شوقي حقا. فمحمد قد جاء بدين المساواة والعدل والرحمة بالناس جميعا. ومن المؤسف أن نرى هذا الدين يتحول على يد قريش (= الأمويين ومن بعدهم) إلى دين للسيطرة والتعالي والاستعباد". يصف أمير الشعراء: أحمد شوقي (1868 1932م) النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في قصيدته المعروفة (ولد الهدى) بقوله:فرسمت بعدك للعباد حكومة لا سوقة فيها ولا أمراءالله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاءوالدين يُسْر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء ولقد تستبين سبيل القيم النبوية الرفيعة عندما نستحضر أن هذه المبادئ: العدل والمساواة والحرية, وهي عماد إعلان حقوق الإنسان والمواطن في العصر الحديث, كانت من أسمى وأبرز سمات الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, والذي كان في أساسه ثورة على الظلم والطغيان واللامساواة والعصبيات بكافة أنواعها. بل إن هناك من المنصفين الغربيين من نظر إلى الدين الإسلامي بقيمه الإنسانية الرفيعة, على أنه ثورة نادرة في التاريخ البشري جاءت قبل وقتها بكثير, نظراً لتناقض قيمه التنويرية الرائعة مع قيم البداوة التي كانت تتحكم في مفاصل المجتمع الجاهلي القديم من جهة, ومع قيم الطاعة والطغيان اللتين كانتا تتحكمان في مفاصل المجتمعين الفارسي والروماني من جهة أخرى. ينسب أبو الحسن العامري إلى ( كسرى أنو شروان) قوله:" الملك والعبودية اسمان يثبت كل منهما الآخر. قال: فكأنهما اسمان يثبتان معنى واحدا, فإن الملك يقتضي العبودية, والعبودية تقتضي الملك. فالملك محتاج إلى العبيد, والعبيد محتاجون إلى الملك. وأفضل محامد الملك إنما هو بعيد الفكر في عواقب الأمور, وأفضل محامد العبيد الاستقامة على الطاعة على المنشط والمكره, والوفاء بالعهد فيما ساء وسر. قال: وإن الملك أولى بالعبيد من أنفسهم". لنقارن هذه القيم الأخلاقية الكسروية مع قيم أخلاقية إسلامية راقية من العهد الراشدي, مضمونها:" أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". و" إني وُلِّيت عليكم ولست بخيركم, فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوموني". أما قيمة الحرية في الإسلام, فيكفيها شرفاً أن تكون حرية العقيدة رأس سنامها, تلك الحرية التي خلدها القرآن بشعارات مضيئة أمد الدهر, من قبيل:"لا إكراه في الدين", و" قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر", و"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". ويفسر إمام المفسرين: قتادة بن دعامة السدوسي الآية الأخيرة بقوله:" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا, أي سبيلا وسنة. والسنن مختلفة, للتوراة شريعة, وللإنجيل شريعة, وللقرآن شريعة, يحل الله فيها ما يشاء, ويحرم ما يشاء, ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل". والخلاصة, وفقاً لقتادة, أن "الدين واحد والشرائع مختلفة". أما الإمام علي كرم الله وجهه فيقول:" الإيمان منذ بعث الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم, شهادة أن لا إله إلا الله, والإقرار بما جاء من عند الله, لكل قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج, فلا يكون المُقِر تاركا, ولكنه مطيع". ولقد تجلى التطبيق العملي لمضمون حرية العقيدة فيما ضمَّنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صحيفة المدينة, الذي يعد أول عقد اجتماعي ليبرالي ديمقراطي في التاريخ, إذ هو يقرر مبدأ المواطنة أو المساكنة على أساس مدني بحت, لا دخل للدين أو للمذهب فيه. فمما جاء في ذلك العقد:" وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة, غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم, وللمسلمين دينهم, مواليهم وأنفسهم. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن بطانة يهود كأنفسهم. وإن على اليهود نفقتهم, وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة, والبر دون الإثم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ". ولقد أكاد أجزم أن الجمعية الوطنية الفرنسية لمّا أقرت مبادئ حقوق الإنسان والمواطن في السادس والعشرين من شهر أغسطس من عام 1789م لم تغفل الاسترشاد بمبادئ ومواد المنهج الإسلامي في تعاطيه مع حرية الفرد وحقوقه. لنقارن بين ما ورد في المادة الثامنة عشرة من مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن:"لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين, وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرا أم مع الجماعة", مع ما ورد في عقد صحيفة المدينة:".. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم, وللمسلمين دينهم, مواليهم وأنفسهم,.. إلخ". ولنقارن أيضاً بين ما ورد في المادة التاسعة عشرة من تلك المبادئ:" لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل.. إلخ", وبين ما ورد في قول الله تعالى:" ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( هكذا بالمطلق )". ولنقارن أيضاً بين ما ورد في الفقرة الثانية من المادة التاسعة والعشرين من تلك المبادئ: "يخضع الفرد في ممارسته حقوقه لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي", وبين ما جاء في عقد الصحيفة:" وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم(= إلى القانون = إلى الدولة). يقول باحث معاصر:"وإن الباحث عن موقع حرية التعبير في القرآن الكريم والسنة النبوية، ليندهش لهذا الإطلاق والتوسيع لها، حتى ليكاد أن يقول: إنها حرية بلا حدود، لولا أن بعض الحدود على جميع الحريات تعد من البدهيات. لكن في القرآن والسنة، لا نكاد نرى إلا حرية مطلقة للقول والتعبير". ويقول أيضاً:" وأما النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم فقد سمح لكل من شاء أن يقول ما يريد, سواء من المؤمنين به, أو من المكذبين له, فلم يزجر ولم يعاقب أحدا على رأي عبر عنه, أو على اعتراض تقدم به. والسيرة النبوية مليئة بالاعتراضات التي صدرت, بالحق أو بالباطل, على مواقف وتدابير ارتآها أو أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان بعضها أحيانا يتسم بالخشونة وقلة الأدب. ولم يكن عليه السلام يواجهها إلا بالرفق والصفح وسعة الصدر. ومن يقرأ بداية سورة الحجرات يجد ذلك صريحا". وبعدُ فهذا إسلام محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم, وخلفائه الراشدين, لا الإسلام السياسي الذي خلف تلك الفترة الزاهية, والذي يتخذ من معاداة أهل الملل والنحل المخالفة له ستاراً يحجب به سحب استبداده وظلمه وسحقه للإنسان تحت مظلة الدين أو المذهب. وإذا كان هذا هو خلق الإسلام مع أهل الملل المخالفة, وخاصة مع ألد أعدائه في فترة بزوغه, فكيف بنا وقد اتخذنا مذاهبنا التي ابتدعناها من عند أنفسنا سُلَّماً لمعاداة بعضنا بعضا؟