أُعطِي الرسولُ صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهي ميزة خصه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، فهو صلى الله عليه وسلم يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في ألفاظ قصيرة لكنها حملت معاني عظاماً قوله صلى الله عليه وسلم (الدين المعاملة) وهي لفظة قصيرة اختصرت تدشين نظامٍ اجتماعيّ بأكمله قوامه الإحسان والبر والصلة بالآخرين والدخول معهم في شراكة سلمية تعتمد في الأساس على مبادرة كل فرد على أداء واجبه تجاه الآخر. ينصرف معنى لفظة (الدين المعاملة) إلى عنصر تقييمي أساسي تجاه تقييم كل فرد من الناس لعلاقته بالآخر وعلاقة ذلك الآخر به، فالفرد يعتبر في نظام الإسلام متديناً متى ما أحسن معاملته للناس بكافة مظاهر ذلك الإحسان من البر والصلة وأداء الحقوق والرفق واللين، المفهوم المعاكس للفظة الحديث أو لنقل مفهوم دلالة المخالفة كما هي لغة علماء الأصول أن من لم يحسن معاملة الناس فليس بمتدين وإن ادعى التدين، لأنني كفرد من أفراد المجتمع يهمني نوع علاقة الآخرين بي في هذه الحياة، أما ما يخص علاقتهم بخالقهم فهي تخصهم وحدهم وربهم تعالى وتقدس هو الذي سيتولى حسابهم على نتائجها يوم القيامة. لقد اعتدنا في حياتنا اليومية أن نطلق لقب «المتدين» على من أحسن مظاهر تدينه الفردي الظاهري من محافظة على الصلاة وإطالة للحية وتقصير للثوب وأداءٍ للحج والعمرة .... إلخ، مما هي خير في عمومها، إلا أنها في معرض تقييم العلاقة الاجتماعية لا تهم الآخرين طالما لاتتعداها إلى المحافظة على حقوقهم، لأن تلك المظاهر الدينية بطبيعتها ترمز لعلاقة الإنسان المباشرة بربه تعالى وهي بالتالي وحدها لايمكن أن تؤدي وفق توصيف الإسلام لاكتساب مفهوم التدين، على أن تلك الصفات الإسلامية الفردية يجب أن تقود بدورها أيضاً إلى التأثير الإيجابي على حسن علاقة الإنسان بالآخرين، يتبين ذلك من قرن الله تعالى أداء الصلاة باجتناب الفواحش والمنكرات ممثلاً بقول الله تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وبطبيعة الحال فإن الفواحش والمنكرات ترمز بشكل خاص إلى ما يختص منها بعلاقة الإنسان بغيره من أفراد المجتمع حتى وإن كانت منكرات فردية، إذ تتبدى علاقة إتيان المنكرات والفواحش الفردية بنتائجها السلبية تجاه المجتمع من واقع أن من يفعلها مستتراً عن أعين الناس فهو معافى بنص الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافاة إلا المجاهرين)، وبطبيعة الحال فإن المجاهرة لا يمكن تصور ضررها إلا في حالة إيذاء مشاعر الناس حين تبدو الفواحش والمنكرات تجاه ناظريهم. هناك نصوص كثيرة تؤكد على هذا الجانب - أقصد جانب ربط اعتبار تدين الشخص بحسن علاقته بالناس - فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول هل ترك لدينه من قضاء فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قام فقال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المسلمين فترك دينا علي قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته (وهنا يتبين عظم أداء الحقوق على الشخص للناس وكيف أنها منعت النبي صلى الله عليه وسلم من أداء صلاة الميت على أحد أصحابه الكرام، بينما لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه امتنع عن أداء الصلاة على أحد من المسلمين ممن أُثر عنه تقصير في أداء شعائر العبادة، بل إنه صلى على عبدالله ابن أبي سلول وكفنه بردائه ولم يمنعه من الاستمرار في ذلك إلا نهي الله تعالى له عن الصلاة على غير المسلمين باعتبارأن تلك الصلاة خاصة بالمسلمين وحدهم، لكنه في مقام قضاء الدين يأمر أصحابه بلهجة حازمة بالصلاة على صاحبهم، وهي لفظة أراد بها لا إجزاء صلاة الصحابة على الميت أوأنه يأمرهم بالصلاة عليه دونه، بل إنها تأتي في مقام الزجر عن ترك حقوق الناس معلقة بالذمة، أما في الحديث الآخر فقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيه عن حبس نفس المؤمن عن أن تلتحق بالرفيق الأعلى بعد موته ما دام عليه دين لم يقض، فعن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) ويعلق الإمام السيوطي على هذا الحديث بقوله إن معنى ذلك أن (نفس الميت المؤمن محبوسة عن مقامها الكريم حتى يؤدى الدين الذي عليها) أما الحافظ العراقي فقال في معرض تعليقه على الحديث (إن أمرالنفس موقوف لا حكم لها بنجاة ولا هلاك حتى ينظر هل يقضى ما عليها من الدين أم لا)، وبطبيعة الحال فالدين المادي لا يعتبر إلا دليلاً أو مدخلاً لأية ديون أخرى معنوية مثل اجتناب الغمز واللمز واصدار التهم تجاه الآخرين بالتخوين والتكفير وغيرها فهي تدخل في عموم مفهوم هذه الأحاديث ولن تغفر بالتالي حتى يسمح من وُصِم بها عن حقه، ومن ذلك اتخذ العلماء دليلاً على أن حقوق الله تعلى مثل الصلاة والحج والصيام وغيرها مبنية على المسامحة تجاه التقصير فيها فهي تحت مشيئة الله ورحمته، أما حقوق العباد في كافة مظاهرها سواء المادية منها أو المعنوية فهي مبنية على المشاحة التي تعني عدم غفران الله لها ما لم يتنازل صاحبها عن حقه. هذا يعني أننا يجب أن نقتصر في إطلاق لقب المتدين على من أحسن معاملة الناس وأدى إليهم حقوقهم ولم يتعرض لمقامهم بسوء، وترك أمر حسابهم على تقصيرهم فيما يخص علاقتهم بربهم له تعالى يفصل فيه يوم لا ينفع عندها مال ولا بنون، حتى ولو كان مقصراً في جوانب التدين الفردي الذي يخصه وحده، يعضد ذلك أيضاً ماجاء في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) فالرسول صلى الله عليه وسلم ظن أن جبريل سينزل عليه بتوريث الجار من كثرة ما أكد على حقه، وقد حدد العلماء من يشمله حق الجار فقالوا إنه إلى ثلاثين أوأربعين داراً مما يلي دار الإنسان، ولوتأمل الإنسان هذا التحديد لمكان الجار لرأى أن ذلك يعني دخول كافة الناس في هذه الحق، إذ أن امتداد الثلاثين أو الأربعين يعني أن البيوت ستكون كلها حينها متشابكة من أي جهة كانت. الإنسان في هذا العصر وغيره من العصور لا يهمه مثلاً إن كان جاره يقوم الليل ويصوم النهار مادام لا يحسن جيرته بالاعتداء عليه أو مضايقته أو تسليط أولاده عليه وما إلى ذلك من مظاهر الإعتداء على الجار بصفته ممثلاً للناس كلهم، على أن ما يلفت النظر في هذا الحديث وما سبقه من أحاديث أخرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد ديانة الشخص المعني بالحقوق، فلفظة الجار عامة وما أطلق أو عمم يبقى على عمومه وإطلاقه، كما أن الشخص الدائن لأولئك الأفراد الذين ورد ذكرهم في معرض تشديد النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الدين، سواء كانوا أولئك الذين كان يرفض الصلاة عليهم حتى تقضى ديونهم، أوسواء كانوا من يشملهم سبب تعليق نفس المؤمن بعد موتها حتى يقضى دين صاحبها لم يرد من النبي صلى الله عليه وسلم تحديدٌ لدياناتهم أو أعراقهم مما يستنبط منه المرء أن العلاقات الاجتماعية بين الناس تبنى على الشأن المدني البحت ولا علاقة لتشكلها بالشأن الديني الذي يظل شأنا شخصياً فردياً لا علاقة للناس به، وهذه العلاقة المدنية تحدد مدى تدين الفرد وسط المجتمع وفقاً لإيجابيتها أو سلبيتها فيما يخص حقوق الناس أجمعين مسلمهم وغير مسلمهم. وما دام الإسلام قد ربط تدين الأفراد داخل المجتمع بحسن المعاملة فهل من التدين أن نرى أولئك الرافضين لمبادئ الإسلام وهم يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم التي يعف المرء السوي عن التلفظ بها؟ يكفي أن يجول الإنسان بناظريه على أيٍ منتدى من المنتديات الأصولية المتشددة ليرى كيف أن روادها وصلوا إلى درجة متدنية من الانحطاط فيما يتعلق باتهامهم للناس والحكم على نياتهم حتى وصلت الاتهامات إلى التشكيك برجولة الشخص المختلف معهم بالمعنى الدقيق للفظة التشكيك بالرجولة، والمشكلة أن أولئك القوم لا يكِلُّون عن الادعاء بأنهم إنما يفعلون ذلك باسم الدين والدين منهم براء بحكم النصوص الشرعية التي ربطت برباط مقدس لا تنفك عراه بين التدين والغيرة على الدين وبين حفظ حقوق الناس، ومن أبسط حقوق الناس وأشدها نكيراً على الاعتداء عليها ما يخص تجنيب عرض الإنسان عن أن يُدنس لمجرد الاختلاف مع صاحبه في الرأي. [email protected]