على المثقفين السعوديين أن يتواضعوا، ويرتبطوا بترابهم - وإن كنت لا اعرف وجهاً لمثقف حقيقي يهرب من تراب وطنه - لكن على وزارة الثقافة أن تبادر لخلق حالة تجعل المثقفين السعوديين يشعرون انهم فاعلون على ترابهم، وقادرون على الإسهام في مشروع ثقافي يتجاوز ملامح مرحلة الأندية الأدبية العتيقة إلى ملامح مرحلة، عليها في البدء أن تعترف بوجودهم وبحقهم الطبيعي في جمعية مدنية تنظم نشاطهم وترعى شؤونهم وتساهم في تعزيز دورهم في الحفل التكريمي الذي أقيم في النادي الأدبي بجدة للاستاذ عبدالفتاح أبو مدين رئيس النادي بمناسبة استقالته بعد 25 عاماً من رئاسته للنادي حفلت بالعطاء المميز وبشهادة مثقفين وأدباء ممن تابعوا مسيرة النادي وإنجازاته خلال تلك الفترة، وجه وزير الثقافة والإعلام إياد مدني كلمة شكر فيها أبا مدين مقدراً عطاءه للحركة الثقافية مشيداً بتواضعه ونبله، وجاء في كلمته التي تناقلتها الصحافة السعودية (ادعو كل من ادعى وحسب نفسه من المثقفين أن يتواضع كما تواضع أبو مدين وأن يرتبط بترابه كما ارتبط أبو مدين). جميل أن يشيد الوزير بعطاء وتواضع عبدالفتاح أبو مدين، لكن ليت الوزير افصح عن تلك النوعية من المثقفين، فهذه رسالة تفتقر للإفصاح وتحمل مضموناً ثقيلاً يتطلب أن تكون أكثر قدرة على إيصال رسالة من كونها مجرد هاجس يحمله الوزير/المثقف ويترك للمستمعين والقراء تفسير تلك الأحجية الت تطال مثقفاً/شبحاً، ملمحه الوحيد تضخم (الأنا) لدى ذلك المثقف الذي يحتاج ما هو أكثر من عبارة تقريع في مناسبة تكريم. ربما كانت أيضاً هذه مناسبة ليكون الحديث أيضاً عن وزارة ثقافة وليدة تتلمس طريقها الذي يبدو بلا ملامح أيضاً، فإذا كانت الوزارة تحتاج مثقفين أكثر تواضعاً وأكثر ارتباطاً بترابهم، وأكثر قدرة على صناعة مشهد ثقافي وطني يبرز هذه الدالة الغائبة اليوم، فعليها أن تبادر لخلق حالة ثقافية تعزز فيها حضور تلك الوجوه الثقافية الأكثر ارتباطاً بمشروع ثقافي له أبعاد ومضامين وقيمة، بدلاً من التوقف على هوامش ثقافة، واستهلاك المجموع في مسائل وقضايا وصياغات عفى عليها الزمن وأكل الدهر عليها وشرب. الأندية الأدبية في المملكة تعيش حالة احتضار، وحالة الاحتضار لها عناوين بارزة وعلامات دالة، ومعايير تقرأ بالأرقام وتستوحى بالتأثير وتُقاس بقدرة المجموع الثقافي على التفاعل مع مؤسسات.. إذا امكن قياس بعض تلك العناصر وبعضها واضح لا يحتاج إلى كبير جهد لإثباته، فعلى الوزارة أن تعيد النظر في مدى صلاحية مثل هذه الأندية لتكون في مستوى مشروع ثقافي كبير. وعندما نتحدث عن مشروع ثقافي كبير، فنحن نتحدث عن حالة خلق تجعل الممارسة الثقافية جزءاً من نسيج مجتمع، إذا لم يكن بالمشاركة فبالتأثير. عندما نسأل أنفسنا من يصنع ملامح النشاط الثقافي في بلادنا ومن يقوى على فهم معادلته الخطيرة في صياغة مفاهيم تدخل ضمن النسيج الثقافي في المجتمع، من هو المعني بتوسيع دائرة الثقافة لتكون أكثر قدرة على احتواء المجموع من كونها حالة نخبوية ضيقة، مرتهنة في الغالب لممارسة فن أو لون من الإبداع يعيش بمعزل عن التأثير على ثقافة مجموع نحن بأمس الحاجة لإعادة الاعتبار إليه من خلال عمل مؤسسي كبير يتجاوز ما هو قائم حالياً، ويدفع بالنشاط الثقافي واسع الأبعاد إلى ذهنية اجتماعية تعيش بمعزل عنه، وتستسلم لمؤثرات ندفع ثمنها اليوم تطرفاً وانغلاقاً وعدم اعتراف بقيمة أي نشاط ثقافي محلي أو استسلاماً لثقافة الصورة الممسوخة في فضائيات وإعلام التهتك تساهم في تشويه ما هو مشوه، وتقتل أي إمكانية لخلق ذائقة اجتماعية بقيمة ومعنى الإبداع ودور الثقافة التي صارت لدى البعض وظيفة اجتماعية وحرفة أكاديمية وامتيازاً نخبوياً. يدور حديث كثير حول أهمية التغيير في مؤسسة ثقافية يتيمة في بلادنا وهي الأندية الأدبية، وهذا الحديث للأسف لا يدور حول بنية ومفهوم الفعل الثقافي ودائرة تأثيره ومواقع استهدافه في مشروع ثقافي وطني وكبير وذي ملامح لها أبعاد تحمل رؤية واستراتيجية لها علاقة بمشروع، إنما يدور الحديث حول استقالات وتغيير وجوه رؤساء الأندية الأدبية المعمرين، وربما أسلوب إدارة، لكنها لا تتجاوز هذا إلى محاولة إعادة صياغة مشروع ثقافي وطني طال انتظاره. الغريب أن استقالة الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين بعد 25 عاماً من ترؤسه نادي جدة الأدبي اعتبر إشاعة لثقافة الاستقالة، ومع احترامي الشديد للاستاذ أبي مدين، إلا أن الواقع المتعسر في فهم معنى العمل الثقافي، هو الذي جعل البعض يحتفي بثقافة الاستقالة عوضاً عن الإقالة وبعد ماذا، بعد 25 عاماً. استقالة أبي مدين قد تبدو لدى البعض إدانة لأولئك المتشبثين بكراسي رئاسة الأندية ولعقود طويلة، وهم يقاومون عوامل التعرية وتحولات الثقافة ويحاصرون الدماء الجديدة التي ترغب في أخذ حصتها من حفلة أندية تبحث بشق الأنفس عن الحضور لملء فراغ الكراسي الأمامية في نشاطاتها الموسمية، إلا انني أعتقد أن المسألة ليست تغييراً في الوجوه لتكون أكثر نضارة أو شباباً بل في تغيير البنية التي تقوم عليها معادلة العمل الثقافي في بلادنا، وطالما كانت تلك الرؤية القائمة على ذات الآليات التي تعمل حالياً لن يكون تغيير تلك الوجوه وتواضعهم بالتنازل عن كراسي الرئاسة المعمرة سوى ملمح بسيط لا يعبر عن تغيير حقيقي.. وربما نرثي تلك الوجوه يوماً ما إذا ما وصلت تلك الوجوه/الوعد، واكتشفنا اننا مدعون لحفلات انتهازية أخرى على وهج الثقافة وبريقها. ربما كان من الأجدى أن تحاول وزارة الثقافة أن تنظم مؤتمراً وطنياً لمناقشة بضع قضايا ثقافية يكون من بينها دراسة وضع الأندية الأدبية وتقييم مسيرتها ووزن عطائها والبحث عن أفضل السبل لرسم ملامح مشروع ثقافي وطني يأخذ بالاعتبار أن الأندية الأدبية ليست مجرد واجهة ثقافية نخبوية، بقدر ما هي تشكيل أساسي وضروري له جمهوره ومرتادوه وقراؤه ومستفيدون كثر من فعالياته، والتحول هنا محله الانتقال من المفهوم الأدبي الضيق، إلى مفهوم الفعل الثقافي/الإبداعي الذي يستوعب عناصر أي مشروع ثقافي جاد ويستلهم دور تنمية عناصر التذوق ورعاية الإبداع بكل مجالاته الثقافية والانتشار الأفقي الذي يستهدف تكوين بنية ثقافية مؤسسة، لا مجرد أندية خاصة مغلقة ومحروسة بمفاهيم عفى عليها الدهر وأكل وشرب. والمؤتمر بحد ذاته ليس غاية، المهم أن يتحول إلى عامل مساعد للوزارة لاكتشاف ملامح مشروع ثقافي اوسع من احتباسات أندية أدبية ظلت قضيتها اليوم متِى يستقيل رؤساؤها المعمرون، ومن هم المرشحون لخلافتهم، وهل هذا سيحدث بالانتخاب أم بالتعيين، وهذا يعيدنا إلى أول مؤتمر للمثقفين السعوديين الذي نوقشت فيه قضايا كثر، وقدمت فيه توصيات جديرة بالمتابعة، وظلت قضايا صغيرة مثل تكوين اتحاد أو رابطة أو جمعية للكُتَّاب السعوديين حتى اليوم مسألة فيها نظر!!. على المثقفين السعوديين أن يتواضعوا، ويرتبطوا بترابهم - وإن كنت لا اعرف وجهاً لمثقف حقيقي يهرب من تراب وطنه - لكن على وزارة الثقافة أن تبادر لخلق حالة تجعل المثقفين السعوديين يشعرون انهم فاعلون على ترابهم، وقادرون على الإسهام في مشروع ثقافي يتجاوز ملامح مرحلة الأندية الأدبية العتيقة إلى ملامح مرحلة، عليها في البدء أن تعترف بوجودهم وبحقهم الطبيعي في جمعية مدنية تنظم نشاطهم وترعى شؤونهم وتساهم في تعزيز دورهم. يؤكد وزير الثقافة والإعلام في حفل تكريم الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين أن جائزة الدولة التقديرية التي كانت تعطى للأدباء محل اهتمام الوزارة وانها ستعود لتعطي الأدباء والرواد حق قدرهم وعطائهم، وإذ كانت تلك إشارة مهمة للتعبير عن تكريم الرواد والأدباء الكبار فإني أود أن اذكر بأن هذه البلاد التي حباها الله كل مقومات بناء مشروع ثقافي اوسع بكثير من ملامح ريادة، هي افقر بلاد الله في منح جوائز الثقافة والإبداع. وإذ نتمنى أن تعود الجائزة ليس فقط لتكريم الرواد والأدباء، ولكن لتكون جزءاً من ملامح مشروع ثقافي وطني مؤسس على فكرة أن الإبداع بكل أشكاله الفنية يستحق التقدير ليطال أوجه تتجاوز فكرة الريادة وحدها أو الأدب وحده، لتكون جزءاً من منظومة عمل ثقافي يطال النشاط الثقافي بكل تلويناته.. لا نريد أن تتوقف الجائزة بعد عام أو عامين ولا نريد أن نتصور أن الجائزة هي حكر على مفاهيم الريادة.. وتلك جدلية أخرى تختصر الاستحقاق في ملمح ريادة لا اعرف ماذا تبقى منها بعد هذه العقود الطوال التي انتجت أجيالاً وأجيالاً.. وربما أصبحت الجائزة هنا مثار جدل أكثر منها تقدير استحقاق. أعتقد أن الانتقال بمفهوم الجائزة من حفلة ريادة إلى حفلة لها علاقة بمشروع ثقافي يستهدف الإبداع كقيمة، ويستهدف الباحث أو المبدع أو المشتغل في فن من الفنون أو أوجه الثقافة أو العمل العام هي التي تعزز حضور مشروع ثقافي في عقل المتلقي وهي التي تشجع على ادماج النشاط الثقافي في صلب مشروع وطني يعترف بالمنجز وثمرته وقيمته الفنية. لتكن جائزة واسعة ومتعددة الأبعاد ليست حصراً على أدباء أو رواد، لتطال الفن والإبداع بكل أنواعه، لتكن جائزة سنوية تمنح لأفضل الأعمال في الفنون المختلفة وفي الأدب بكل أنواعه وللإبداع بكل تجلياته، لتكن عرساً للثقافة التي ينتجها ويستهلكها ويتفاعل معها أبناء الوطن.. لتكن أعمالاً تُقيَّم من قبل لجان تعزز حضور العمل الإبداعي في صلب أهداف جائزة في الصحافة والفن المسرحي والتشكيلي والقصة والرواية والنقد والتأليف والإخراج والتصميم وغيرها من فعاليات الثقافة.. هل يعقل في بلاد مترامية الأطراف ومهيئة لمشروع ثقافي كبير وزاخرة بالعناصر الوطنية الجادة أن تكون بلا جوائز تقديرية.. وعندما نفكر باستعادة جائزة نحاصرها بالريادة والأدب وحده. أعتقد أن وزارة الثقافة بإمكانها أن تفعل الكثير من أجل أن تؤسس لمشروع ثقافي يتجاوز ما هو قائم الآن، بل إن أهمية المشروع الثقافي - كما نفهمه - هو وسيلة لاستعادة جيل أو أجيال قادمة من أتون ثقافة الانغلاق أو الانفلات. الانتقال بالمفهوم الثقافي/الإبداعي من المستوى النخبوي الضيق إلى عقل جمعي يتذوق المعنى الثقافي ويتفاعل مع الإبداع، لا باعتباره تحليقاً وجدانياً في فضاءات معرفية أو إبداعية خاصة متوارية خلف حجب كثيرة لا يفكك طلاسمها سوى نخبة أكثر ضيقاً من النقاد والباحثين إلى مستوى أن يكون حضوره اليومي في حياة الإنسان تذوقاً وإقبالاً وتفاعلاً هو هدف ذلك المشروع وعنوانه.