مواصلا نهج المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن – طيب الله ثراه- وأبناؤه الملوك من بعده سعود وفيصل وخالد وفهد – رحمهم الله-، بالاهتمام بالعلم والمعرفة، شهدت الثقافة في عهد فقيد الأمة العربية والإسلامية الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- طفرة من خلال اتساع مساحة الحرية وزيادة حركة النشر وإقامة الأنشطة الثقافية المختلفة، ومن جانب آخر كان هنالك العديد من المبادرات التي تجاوزت رقعة الوطن لتشمل العالم أجمع ومن أهمها دعوته -رحمه الله- في أكثر من مناسبة إلى تعزيز الحوار بين اتباع الاديان والثقافات والحضارات المختلفة وإلى ضرورة تعميق المعرفة بالآخر وبتاريخه وقيمه وتأسيس علاقات على قاعدة الاحترام المتبادل والاعتراف بالتنوع الثقافي والحضاري واستثمار المشترك الانساني لصالح الشعوب. وللتأصيل الشرعي لمفهوم الحوار الاسلامي مع أتباع الاديان والثقافات والحضارات المختلفة في العالم رعى الملك عبدالله بن عبدالعزيز ال سعود -رحمه الله- في الثلاثين من شهر جمادى الأولى 1429ه حفل افتتاح المؤتمر الاسلامي العالمي للحوار الذي نظمته رابطة العالم الاسلامي بقصر الصفا في مكةالمكرمة. وأوصى المشاركون في المؤتمر بإنشاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي للتواصل بين الحضارات بهدف إشاعة ثقافة الحوار وتدريب وتنمية مهاراته وفق أسس علمية دقيقة وإنشاء جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للحوار الحضاري ومنحها للشخصيات والهيئات العالمية التي تسهم في تطوير الحوار وتحقيق أهدافه. وتتويجا للجهود التي يبذلها الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتعزيز التواصل والحوار بين الحضارات والثقافات والتوافق في المفاهيم تم إطلاق جائزة عالمية للترجمة باسم جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة إيمانا بأن النهضة العلمية والفكرية والحضارية إنما تقوم على حركة الترجمة المتبادلة بين اللغات كونها ناقلاً أميناً لعلوم وخبرات وتجارب الأمم والشعوب والارتقاء بالوعي الثقافي وترسيخ الروابط العلمية بين المجتمعات الإنسانية. مبادرة أخرى ومهمة للراحل الكبير الملك عبدالله -رحمه الله- لخدمة اللغة العربية هي مبادرة الملك عبدالله للمحتوى العربي الذي تشرف عليه مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم التقنية بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة داخل المملكة وخارجها، حيث حققت وجودا للغة العربية على شبكة الإنترنت، وذلك في إطار جهودها الكبيرة في مجال ترجمة العلوم المختلفة والتقنيات الحديثة إلى اللغة العربية لخدمة أكثر من مليار مسلم في العالم. وقد تمخضت المبادرة عن قرارات القمّة العربية التاسعة عشرة التي انعقدت في الرياض عام 1428ه برئاسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- ودعت لتعزيز حضور اللغة العربية في جميع الميادين، بما في ذلك في وسائل الإعلام والاتصال، والإنترنت، والعلوم والتقنية. وأتيحت مبادرة الملك عبدالله للمحتوى العربي للمستفيدين عام 1429ه عبر موقعها لتتمكن من تسخير المحتوى الرقمي لدعم التنمية والتحول إلى مجتمع معرفي، وحصول جميع شرائح المجتمع على المعلومات والفرص الالكترونية، مع الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للمجتمع، وتعزيز المخزون الثقافي والحضاري الرقمي، والتمكين من إنتاج محتوى إلكتروني عربي ثري لخدمة المجتمعات العربية والإسلامية. لم يتوقف الملك عبدالله -رحمه الله- اهتمامه باللغة العربية بهذه المبادرة لذا فقد أصدر أمره الكريم في 23/7/1429ه القاضي بالموافقة على إنشاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، وذلك لتحقيق عدد من الأهداف الطموحة للمحافظة على هذه اللغة، ودعمها ونشرها، وتكريم علمائها. ومن جانب آخر شهدت المكتبات بأنواعها كافة الجامعية والعامة والمدرسية ومراكز المعلومات المتخصصة وغيرها من مراكز البحوث في المملكة العربية السعودية في عهد الملك عبدالله -رحمه الله- نهضة تطويرية وتحولاً جذرياً واكبت أحدث ما وصل إليه العالم في مجال المكتبات والمعلومات، حيث دعمت بإدخال التقنيات الحديثة، وتم تأمين وتشغيل آلاف الحاسبات المزودة بالبرامج المعلوماتية التي تحتاجها المكتبات، كما تم تطوير شبكات الاتصالات والمعلومات وإتاحة خدمة الإنترنت في جميع المكتبات مما حقق نقلة نوعية في توفير كثير من وظائف المكتبات وخطت بموجبه مكتباتنا خطوات واسعة نحو ما نسميه بالمكتبة الإلكترونية. وتمثل مكتبة الملك عبدالعزيز العامة شاهداً على اهتمام الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- فهو مؤسسها ورئيساً أعلى لمجلس إدارتها، وقد حظيت المكتبة بمتابعتة المباشرة -رحمه الله- حيث كان يرعى الاجتماعات السنوية لمجلس إدارتها وهو دائماً يشدد على أهمية عناية المكتبة بنشر العلم والثقافة ودعم الكتاب المفيد باعتباره السبيل إلى تحرير الإنسان من الجهل والأخذ بيده إلى رحاب المعرفة الواسعة في عصر تلاقت فيه الثقافات والحضارات وتجادلت على صعيده الاتصالات. وكان الهدف من إقامتها توفير مصادر المعرفة البشرية وتنظيمها وتيسير استخدامها وجعلها في متناول الباحثين والدارسين. وللمكتبة اهتمام مميز بتوثيق تاريخ المملكة العربية السعودية وتاريخ الملك عبدالعزيز على وجه الخصوص بوصف المكتبة تتشرف بحمل اسمه. وقد عرف الملك عبدالله -رحمه الله- بدعمه لكل مشروع يحقق النمو والتقدم للوطن ويأمر بتهيئة كل مناخات النجاح لكل مشروع متميز، من تلك المشاريع (الفهرس العربي الموحد)، وهو أحد برامج البنى التحتية في مجال المكتبات والمعلومات وله توجه عربي خالص نحو استقطاب الموارد المعلوماتية الببليوجرافية التي تمثل النتاج الفكري العربي المنشور وغير المنشور والموجود في المكتبات العربية والأجنبية على هيئة قاعدة معلومات ببليوجرافية ضخمة تقوم على مواصفات ومعايير عالمية من شأنها توحيد بيانات أوعية المعلومات وتسهيل تبادل التسجيلات الببليوجرافية بين المكتبات على الخط المباشر مما يجنبها تكرار فهرسة الوعاء الواحد عشرات بل مئات المرات داخل المكتبات العربية، وتعتبر المملكة صاحبة السبق في إنجاز هذا المشروع الكبير التي طالب به جميع المكتبيين في الوطن العربي لخدمة الكتاب المطبوع باللغة العربية ليكون متاحاً الوصول إلى معلومات شاملة ودقيقة عنه في كل مكان في العالم. ومن المشاريع الثقافية المهمة مشروع (موسوعة المملكة العربية السعودية) التي تهدف الى امداد المكتبة السعودية خاصة والعربية والعالمية عامة بمؤلف موسوعي للتعريف بالمملكة العربية السعودية ومناطقها ومدنها وقراها بصورة كاملة وشاملة، ومن المشاريع التي تحظى باهتمام خادم الحرمين الشريفين (المشروع الوطني الثقافي لتجديد الصلة بالكتاب) الذي وجه المقام السامي الكريم بأن تكون مكتبة الملك عبدالعزيز العامة مقرا لأمانته العامة بمشاركة المؤسسات الثقافية السعودية ذات الصلة حتى يكون الكتاب في متناول يد كل مواطن. وقد سعى الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- إلى تطوير المكتبات والمؤسسات الثقافية في المملكة ومشروع توسعة مكتبة الملك فهد الوطنية الذي تم في عهده خير دليل، وقد كان دعمه السخي وتوجيهه السديد الأثر الكبير لتصبح المملكة رائدة في التأليف والنشر ويشهد على المكانة الثقافية المتطورة عدد الكتب السعودية المسجلة والمودعة في مكتبة الملك فهد الوطنية. وقد شهدت وزارة الثقافة والإعلام في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- تغييرات عديدة، منها إعادة تشكيل الأندية الثقافية، وإقامة العديد من الأسابيع الثقافية السعودية خارج المملكة، إضافة إلى تفعيل معارض الكتب، ومن أهمها معرض الرياض الدولي للكتاب الذي أصبح تظاهرة ثقافية عربية، شاركت فيه العديد من دور النشر العربية والعالمية وأقيم على هامشه العديد من الفعاليات الثقافية وبالذات مايحقق تطويراً لصناعة الكتاب في المملكة. لقد اقترن اسم خادم الحرمين الشريفين بمشاريع ومبادرات وأنشطة ثقافية، لا تخفى على أحد مطلقاً، فالمهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية"، لن يغيب مطلقاً عن ذاكرة الجميع مقترناً باسم الملك عبدالله، الذي دعمه ليصبح من أهم المهرجانات الثقافية ليس في الوطن العربي فقط بل في العالم أجمع لما يقدم به من أنشطة مختلفة ويعقد به من ندوات، وما تتميز به قاعاته من حضور لنخبة من المثقفين والعلماء والمبدعين من الوطن العربي والعالم، إضافة إلى نافذته المهمة على تراث الوطن. وبنظرة شاملة لعهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- ومتابعة دقيقة لكل ماقام به وقدمه من مبادرات وأوامر وتوجيهات، وكل ما قدمه للوطن من مشاريع ثقافية مختلفة، منطلقاً من مبدأ الحوار وتقديم الرأي مهما كانت حدته، بكل ذلك فتح مساحة للحرية المسؤولة التي قد لا تتوفر في كثير من دول العالم، هذه الحرية أعطت لكل القنوات الإعلامية المقروءة والمسموعة والمشاهدة مساحة للتفوق والبروز، فأصبحت الصحف سلطة رابعة بصورة حقيقة تناقش المسؤولين وتوضح وجود خلل أوتقصير - إذا وجد- وتبحث عن حلول له، وهذا ينطبق أيضاً على ماتقدمه الإذاعة والتي اتسعت محطاتها لتنبثق عدد من قنوات الإف إم، إضافة إلى المحطات الرسمية ليتسع الفضاء الإذاعي للمستمعين، وقنوات التلفزيون المختلفة والتي اشتملت على قنوات متخصصة للثقافة والاقتصاد، هذا العالم الكبير من الانفتاح الثقافي في عهد فقيد الوطن الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي فتح الباب واسعاً لكل مواطن ومواطنة دون استثناء، كان سبيلاً للتميز الثقافي من خلال حصول عدد من السعوديين والسعوديات على جوائز عالمية وعربية في الثقافة سواء في الرواية أو المسرح أو الشعر والقصة، وحصول عدد من البرامج الاذاعية والتلفزيونية على جوائز مختلفة، إضافة إلى تميز كثير من الباحثين والعلماء في عدد من الملتقيات والمؤتمرات العلمية، من ذلك حصول مكتبة الملك فهد الوطنية على جائزة أفضل ناشر في مجال المكتبات والمعلومات، وهنالك أمثلة كثيرة، ربما لن تتحقق لو لم يكن هنالك الدعم والتوجية من قبل الفقيد الغالي الملك عبدالله ولولا تلك المساحة الكبيرة من الحرية المسؤولة التي جعلت الجميع يعمل بثقة واقتدار. تطوى صفحة ملك بموت الملك عبدالله -رحمه الله- لتفتح صفحة جديدة مشرقة كسابقاتها لتواصل مسيرة الاهتمام بالثقافة والمعرفة، لرجل يعيش المعرفة ويهتم بها، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، مسيرة بدأت بعهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وستتواصل -بإذن الله- إلى الأبد.