المعاني وتوارد الأفكار والخواطر وتتابعها وتجاذبها بعضها لبعض أثناء التفكير في أي شيء، بل وحضور صور المشاهد أو ما سمعته الأذن وما يلفت الانتباه ويجذب ويفرح أو يروع، كل هذه تعد سمة من سمات التفكير والعقل، فالشخص لا يستطيع الجمود والتوقف عن التفكير فيما سمع وما رأى وما مر عليه من أحداث وما دار في رأسه من أفكار وخالط شعوره ولامس إحساسه ولا يقوى على مسح صور علقت في مخيلته، محزنة كانت أو مفرحة، مؤلمة كانت أو تكون له مصدر سعادة. الشعراء أثناء تفاعلهم مع المواقف الخاصة والعامة، تتبادر إلى أذهانهم وبحسب ثقافتهم وحصيلة تجاربهم وما يحفظونه وما اختزن، تتبادر المعاني وترد أفكار وأبيات وقصائد كانوا قد تحمسوا لها وتأثروا بمضامينها سابقا، وتشكلت لهم من جرائها تأثرهم بها حصيلة جديدة وقيم مضافة لما لديهم، وبالتالي لا يستطيعون الفكاك منها بالكلية ومسحها نهائيا وليس هذا ما يحاوله أحد وإلا تناثرت حصيلة المعارف وعادوا إلى المربع الأول والبداية المعرفية. وعند العزم على منتج شعري جديد، يصطبغ ذلك الإنتاج بشيء مما كان مخزونا من تلك المعارف السابقة، وهذا لا يعني وقوعهم في أسرها أو تقليدها أو السير وفق خطى شعراء آخرين تقليدا بلا تجديد وإن كانوا في الغالب يتأثرون من دون إرادة منهم، وهذا التأثير لا يعني سوى المزيد من الخبرة والإتقان والخبرات التراكمية وكل ذلك يسير في الاتجاه الإيجابي. وبعض الشعراء وهم قلة يقلدون بلا تطوير ويتحركون في محيط التأثر تأسرهم المعاني التي تتداعى عليهم، بل وربما أعادوا إنتاج ما يرد بثقافة أقل، ولكنهم في الغالب بعض قليل من شعراء مبتدئون. قلته على بيت قديم سمعت وهو مثل ما قال التميمي لصاحبه أما المبرزون فإنهم غير ذلك، ولكن هذا لا يمنع من استجلاب شيء من مضامين قصائد سابقة لها تفردها وقيمتها فتضمن القصائد شيء منها، ويستقطع بعض ما له صلة على سبيل الاقتباس جملا أو عبارات تناسب مع السياقات تشكل معها وحدة متجانسة، فيزيد الأسلوب والبيان تألقا خاصة عندما يكون التضمين داعما وليس مجرد إضافة بلا فائدة، فالشاعر يزيد شعره قيمة تكامل مضامينه وتلاقح الأفكار مع غيره وتبادل الصور الفنية مع شعراء آخرين والإشارة إلى مثل ذلك في حالة الغموض. يقول الشريف بركات: ومن وخر الهندي ومن قلط العصا اصبح بذل راكب فوق غاربه وقلته على بيت قديم سمعته وهو مثل ما قال التميمي لصاحبه اذا الخل ورى لك صدود فوره صدود ولو كانت جزال وهايبه والتميمي يقول من باعنا بالهجر بعناه بالنيا ومن جذ حبلي ما وصلت رشاه الاقفى جزا الاقفى ولا خير في فتى يتبع هوى من لا يريد هواه وقول الشريف بركات فيه استجلاب المعنى من شاعر آخر، علما أنه يستطيع أن يتجاهل قول ذلك الشاعر بالكلية ولا أحد يعترض عليه، فمثل هذه المعاني تعد مشاعة وليست أفكاراً إبداعية لها خصوصيتها وحصريتها، فيحتفظ صاحبها بحقوقه فيها، ومثل ذلك يقاس عليه كل ما يتكرر مع الجميع فالمعاني والأفكار كالطيور والكل يصطاد منها وقت تحليقها في سمائه، بقدر فطنته وحذقه وثقافته وتأثره وظروفه. ولكن الشاعر ومثله الكثير، لم يستسغ تجاهل من سبقه لمعنى ما دام وافق ما في نفسه، كما أن الإحالة إلى شاعر آخر مشهور وفي شعره قوة وبلاغة، تعتبر تعزيزا للقصيدة ولا تنقص من قدر شاعرها، وقد يضمن الشاعر قصيدته بيتا كاملا أو أكثر وهذا معروف، وكثير في القديم والحديث حتى في كلام النثر فضلا عن الشعر، حيث التتابع والتداعي للمعاني في وقت إعداد القصيدة وبعد بنائها ونظم عدد من أبياتها، ويأتي التضمين أولها أو في وسطها أو في أي جزء منها لا فرق في ذلك والمعول على وقت ورد المعنى أثناء قول القصيدة؛ لأن المحفز على التضمين تناسب ما يرد في الذاكرة عند الشاعر من منتج سابق له أو لغيره، وعادة لا يعرف الشاعر به إلا وقت استدعائه دون تكلف أو محاولة استجلاب له قسرا وبالقوة. وتكون وظيفة التضمين اختصار الفهم على المتلقي أو اكمال المعنى وزيادة بيان وبلاغة، ولأنه يرى في البيت توافقا مع جملة المعاني التي طرقها في قصيدته وتوارد الخواطر يورد الأبيات التي تذكرها الشاعر من غيره وكانت محفوظة لديه وبالتالي لن يتجاهلها. ولكن هناك من الشعراء من يستحثه بيت شعر ابتداء قبل أن يعتزم بناء قصيدته، يوافق هذا البيت هاجسه وشعوره ويعبر عن إحساسه ثم يبني عليه القصيدة، فيتعدى التضمين إلى كون البيت ومعناه محفز الفكرة الأساسية ومشعل فتيل القصيدة. ومثاله موقف الشاعر: خلف بن زويد، رفيقاً وصديقاً ل (عيادة بن محمد بن رمال الشمري) المعروف أيضا والمشهور بالكرم. فقد لاحظ، عيادة بن محمد أن رفيقه خلف بن زويد شارد الذهن، وفي نفسه ما يشغله، والذهول بادياً عليه، ومن السهل على الرفيق المهتم برفيقه معرفة مدى حضور الذهن لرفيقه أو معاناته وغيابه في هواجس خاصة. قال عيادة: ما بك يا أبا زويد؟ ماالذي تفكر فيه وما الذي يشغل بالك. فرد عليه أنه لا شيء فيه، فظن أن به عماس فقط، ولعل القهوة توسع الصدر وتطرد العماس، فقال عيادة بيتا من الشعر يخاطب نفسه: قم سو يارع المعاميل فنجال وكثر بها الهيل يغدي عماسه فأحدث هذا البيت في الشاعر خلف تغيراً مفاجئاً وانتبه وكأنما يستيقظ من غفوة ويقول في دهشة: ماذا تقول؟ قال ردا عليه: هو ما سمعت. قال: لمن هذا البيت ياعيادة؟! قال: البيت لي! وقد قلته الآن! فقال أبوزيد (قصدتك إياه)، بمعنى طلبتك البيت، فقد كان صدري يجيش بما فيه منذ ساعة وقد أعجبتني قافيته ومضمونه. فقال عيادة: هو لك. فقال أبو زيد قصيدته التي عبر فيها عن كل ما كان في شعوره وما كان سبباً في شروده في تفكير عميق، منذ لحظات، وتغيرت حاله من الشرود إلى الحضور ومن الهواجس إلى مشاركة عيادة في حديث طويل ومفرح. قال أبو زيد في القصيدة: قالوا تسير قلت ما من فضا بال ووقت على الأجواد ما به وناسه (قم سو ياراع المعاميل فنجال وكثر بهار الهيل يغدي عماسه) فالبيت الذي طلبه أبو زويد كان من أجل نظم وإنشاء القصيدة ابتداء وليس رغبة في نسبته لبقية قصيدة كانت قد قائمة وكان البيت متوافقا مع هاجسه الذي تحققت معه القدرة على إثارة القريحة وتحفيزها وإكمال المعاني وتوافقه مع شعور وإحساس الشاعر. وهذا يجري كثيرا في القصائد الشعبية على وجه الخصوص وفي الشعر العربي القديم والحديث على وجه العموم، وأهل البلاغة والبيان يدركون ذلك ولا يخفى عليهم. ويستغرب بعض المتلقين أحياناً من وجود بيت من الشعر لشاعر معروف قد ضمنه شاعر آخر في قصيدته، أو سمعوا منه حكمة تردد نصها من قبل، أو ما يشبه التكرار لجملة من الشهرة بمكان والكل يحفظها، أو إعادة لما هو بدهي من العبارات وكأن الشاعر يستجدي لقصيدته من عابر طريق الثقافة بعيدا عن عميقها، متهمين الشاعر بأنه يستخف بعقولهم، ويستغفلهم أو يستقلهم وينسبها إليه خاصة عندما يكون التضمين ومادته أيا كانت مستجلبة مستلة من قصيدة مشهورة وقائلها شاعر معروف، وهذا لا يأتي إلا من ظن المتلقي الذي يسرع في إطلاق أحكامه، بخبرة قليلة في نظم الشعر ونهج الشعراء وإبداع فن البيان والبلاغة وما يتصل بالتضمين والاقتباس والاستعارة وغيرها. ... يتبع