بعض القصائد أو جزء منها تتحول تلقائيا إلى حكمة أو قول مشهور يتم تناقله أو يستشهد بعباراته كمثل ، وهي لم تكن كذلك قبل أن يصوغ الشاعر كلماتها من تجربة أو بلاغة قول ، ولم تكن معروفة قبل أن يعمل على أن تكون مؤثرة في المتلقي تحكي واقعاً اجتماعياً أو تتوافق مع تجربة إنسانية ، يستعذبها ويقتنع بها من يسمعها أو يقرأها. ومثال ذلك كثير مما لا يمكن حصره ، فجميع شعراء الحكمة والمواعظ والبلاغة والوصايا قد عمدوا إلى صياغة عبارات مؤثرة استقبلها المتلقي واتخذها تجارب مقنعة يستشهد بها تضاف لرصيد المجتمع الثقافي . ومن ذلك بعض ما جاء في شعر راشد الخلاوي أو حميدان الشويعر أو رميزان بن غشام أو القاضي ، وراكان بن حثلين ومحمد السديري و غيرهم الكثير . حتى أنه أطلق على هذا الشاعر أو ذاك : شاعر الحكمة ، ويعنون وجود العبارات التي هي أقرب ما تكون إلى الحكمة أو المثل يقول حميدان الشويعر : طالب الفضل من عند الشحاح مثل مهدي وقت الصرام اللقاح أو مثل (طابخ الفاس يبغي مرق) أو مثل حالب التيس يبي مناح والمثل هو ( مسكين يا طابخ الفأس يبى المرق من حديدة ؟!) ويقول الشاعر : راكان بن حثلين : ماقل دل وزبدة الهرج نيشان الهرج يكفي صامله عن كثيره ويقول الشاعر محمد بن لعبون : أهلي يلوموني ولايدرون ( والنار تحرق رجل واطيها ) فعبارة : النار تحرق رجل واطيها ، تعد مثلاً شعبياً ضمّن الشاعر قصيدته به اختصاراً لمزيد من الإيضاح ولتقريب الصورة التي يريد إيصالها للمتلقي. وللشاعر محمد بن عبد الله القاضي قصيدة طويلة نورد منها هذه الأبيات : من خاطب الجاهل جهل منه ملزوم حده لما ياطا الخطا بالخطامي ومن يبذل المعروف بالنذل مليوم خاب وخسر من ياعظه بالملامي ومن شاف عيب الناس بالعين معلوم مغرا وعن عيبه عما العين عامي هيهات من يسلم من الشوم واللوم ( رضا الناس فيها غاية ماترامي ) ماذكر مخلوق عن العيب معصوم الا الذي ظلل عليه الغمامي فأبرز ما ورد المثل : ( رضا الناس فيها غاية ما ترامي ) ولكن قد جاءت القصيدة كلها حكما وتجارب وأمثال تداخلت في نسيج واحد ولعل الشاعر أراد أن يضع ثقافته العامة المستقاة من التجارب والعلم والمعرفة ضمن أبياتها لتكون أكثر بلاغة وأثرا في المتلقي ويقول شاعر شعبي : البرق يبرق والرعد وسط الخيال واللي بليا ساس تاليه الزوال هذا مثل معروف من ماض الليال واللي عقد روس الحبال يحلها وفي هذين البيتين عبارة ( اللي بليا ساس تاليه الزوال ) وقد استخدم الشاعر حميدان الشويعر المعنى نفسه حيث قال : مثل باني بنى فوق تل الرمال ما له أصل سلوب الهواء تقعره أما العبارة الثانية فهي ( اللي عقد روس الحبال يحلها ) وهي مما درج من العبارات يستخدمها الشعراء جاهزة التضمين في أشعارهم ولو طرحنا سؤالاً : لماذا يضمن الشاعر قصيدته حكمة أو مثلا ، فيأتي به جاهزاً بحذافيره وصياغته ، أو على الأقل يأتي بكل معانيه المعدة مسبقاً من غيره ومن ثقافة المجتمع ؟ هل هو داعم لقصيدته وقبولها لدى المتلقي ، أم أنه رافد لمعانيها متمم لما يهدف إليه فيكون ضرورة ؟ وليس من الصعوبة الحصول على جواب مقنع لهذا السؤال ، فالجواب لا شك أن الحكمة أو التجربة السابقة أو المثل عند إيراد الشاعر له ، يختصر مسافة طويلة بينه وبين المتلقي بمثل هذه الإضافة أو التضمين ، فهو يتمم به المعنى كمضمون ويختصر على المتلقي فهمه لمراده ووصول الرسالة ، كما أن وجوده يدل على ثقافة الشاعر، ويغنيه أيضا عن الإطالة كما أنه يحصر المفهوم في مجال محدد محصور فلا تتنازع المتلقي مفاهيم مختلفة تشتته أو مقاصد لم يعنها الشاعر. كما أنه من ذكاء الشاعر أن يستفيد من تجارب السابقين قبله وحكمتهم وتجاربهم وبلاغتهم ويبني عليها ، ولا يعيد اختراع العجلة من جديد كما يقولون خاصة في مجال كهذا ، لأنه لن يعلو ببلاغة أكثر منها مهما كان بارعاً وهذا أيضا لا يعني حصر اللغة والبلاغة فيما مضى من أقوال الحكماء وأهل التجربة ، وبعبارة أوضح لا يعني توقف الإبداع ولكن من الإبداع بلا شك تضمين البلاغة والقول البليغ الذي ثبت نجاحه وقبوله اجتماعياً ، قصائد يراد لها أن تبقى في الذاكرة و تعيش مرافقة لثقافة وفكر المتلقي ليصل معها الهدف المراد دون أن ينازعه فهم آخر أو يقع في حيرة المعاني والألفاظ ونختم بقول راشد الخلاوي : أوصيك يابني وصاةٍ تضمها ليا عاد مالي من مدى العمر زايد وصية عودٍ ثالثت رجله العصا وقصر خطوٍ كان قبلٍ بعايد وصية عودٍ زل حلو شبابه عانيه بالدنيا وعانيك واحد لا تاخذ الهزلى على شان مالها ولا تقتبس من نارها بالوقايد ولا تتقي في خصلةٍ ما بها ذرى ولا تنزل الا عند راعي الوكايد ومن كثر الطلعات للصيد ربما يوافيه غرات ٍ يجي منه صايد ومن تابع المشراق والكن والذرى يموت ما حاشت يديه الفوايد الايام ما باق ٍ بها مثل ما مضى والاعمار ما قد فات منها بعايد نعد الليالي والليالي تعدنا الاعمار تفنى والليالي بزايد قولوا لبيت الفقر لا يامن الغنى وبيت الغنى لا يامن الفقر عايد