نبدأ بهذا البيت حيث يعتز قائله بمصداقيته وأمانته حيث يقول: من خِلقتي ما نيب قطّاع ساقه ولاخذ من أمثال الأجاويد ما لاق إن أعضاء المجتمع بكل مواهبهم وإمكاناتهم سواء كتابا أو شعراء أو روائيين وأصحاب قصة وحكاية وأفكار أو غيرهم، يعيشون في ظروف متشابهة متقاربة ما داموا في بيئة اجتماعية واحدة ، يخضعون للمؤثرات نفسها ويتطلعون للحاجات والآمال ذاتها و تتشابه معاناتهم. ولهذا يتأثرون ويتفاعلون بدرجات متقاربة مع ما يدور في أوساطهم وبالانفعالات المتشابهة أيضا لأنهم نتاج البيئة الاجتماعية التي فرضت أو وضعت كثيرا من المعايير وصبغت الجميع بصبغتها، وبالتالي لا تكون أفكارهم عادة بعيدة عن بعضها وكذا إنتاج عقولهم، والذي يختلف حتما هو تقديم وطريقة وأسلوب كل شاعر وعرض الفكرة في قالب يراه هو الأنسب. نأتي إلى موضوع المقال وأحسب له أهمية لمن يعنيه في هذا السياق من خلاله نعرض ثلاثة موقف لكل من الراوي من جهة والمتلقي من جهة أخرى ، وصاحب المنتج الشعري، ونترك الناقد كعنصر محايد له كرسيه الخاص به وحرية قلمه. ثلاثة في مقابل معطى واحد هو القصة أو القصيدة مثلا، ما مدى تفاعلهم معها وحكمهم عليها ومراقبتهم لميدانها وانتمائها وحفظهم لحقوق صاحبها؟ نبدأ أولا بالمتلقي، فهو في الحقيقة يهمه بالدرجة الأولى محتويات الحقيبة الأسرية وأن تكون وفيرة، مليئة متنوعة. وحقيبة الأسرة الأدبية أو الشعرية هي أوسع نطاقا وأكثر استيعاباً لكل ما يحفظ فيها ويلقى داخلها، بغض النظر عن الانتماء والحقوق المعنوية أو المادية، فالمتلقي وفق هذا الاهتمام لا يهمه كثيرا ولا يشغل باله لمن تكون القصة أو الرواية أو القصيدة، ولكنه يهتم بجزالة المنتج وقيمته الأدبية والفنية وقد يقوده الفضول أحيانا وهامشياً إلى البحث عن انتماء المنتج في الأخير لكن دون حماسة وإصرار. إذا المتلقي يهتم بالحصيلة النهائية التي أودعت في الحقيبة الأدبية أو الشعرية العامة ذات الانتماء الأسري التي تستوعب كل ما أنتجه وأبدعه وأودعه الشعراء والأدباء وأصحاب الإنتاج سواء كان مسروقاً أو ملحونا أو صادقا أو كاذباً أو ضارا أو نافعاً أو مختلطا مع بعضه أو مفصولا ومفروزا أو فوضويا أو منظما، أو كان هادفاً أو عفوياً عارضاً، المهم أن تستقبله تلك الحقيبة العامة وتأخذ بطرفه وهي أشبه بمحركات البحث اليوم التي يهمها بالدرجة الأولى الأخذ بتلابيب ما ينتجه الآخرون ولا تضمن لأحد شيئا. هذا هو المتلقي بصفة عامة لا يرى نفسه موكلا بتتبع الحقوق وحفظها للآخرين وإنما يجد نفسه مستمتعاً ومستريحا يستند على أريكة مريحة والعطايا تتجه نحوه بغض النظر عن مصدر تلك العطايا والهبات. نأتي إلى الراوي، الذي يرى نفسه مسؤولا وكأنه جهة تنظيمية لأن مصداقيته فيما يرويه وسلامة ما يقوله يعد رأس ماله وقوام بقائه واستمراره، وليس بالضرورة جودة المنتج وإن كان يتحرى الجيد ويكثر منه لكن المهم سلامة المصدر. من أجل مزيد من المكاسب لنفسه قبل غيره، فالاختيار الجيد الصادق ينعكس على من نقله ورواه وتفاعل معه، لهذا يحرص الرواة على حفظ مسار ما يروونه ومصداقية من يروون عنهم ويأخذون موادهم، ومن أجل ذلك يبذلون جهدا كبيرا في التحري والتدقيق، وقد لا يكون السبب الذي يقودهم أو يحملهم على مثل هذا الحرص والتحري هو اهتمامهم بحقوق الآخرين من قصاصين وشعراء وإن كان ذلك واردا من باب الأمانة واحترام الذات، إلا أن حرصهم الأكبر هو محبتهم وحرصهم على أنفسهم وسمعتهم ومصداقيتهم ومكانتهم، فلو اهتزت الثقة فيهم بنقلهم رديئا انهارت كل مكاسبهم السابقة واللاحقة وفقدوا مراكزهم وصدارتهم سواء في المجالس أو غيرها. نأتي إلى صاحب الحق ومصدر الإنتاج والأحق بالرعاية والحماية والتشجيع والمحاسبة أيضا والمتابعة ودلالته على مكامن النجاح ومصدر الإبداع لكي يستمر في العطاء الجيد وهو الشاعر. فالشاعر منبع العطاء الأدبي الشعري وهو الشمعة التي منها تبدأ الإضاءة وينبثق الإشعاع. الشمعة والقبس الذي أوقده حسه وشعوره وتفاعله واهتمامه بما حوله فترجم عن هذا الإحساس شعراً وقصائد لها حقها من الاهتمام والفائدة. نجد أن هذا العنصر المهم في حلقة العمل كله وأعني الشاعر مهتم جدا بإنتاجه إلى درجة الأنانية أحياناً، والتشبث به وعدم التفريط في شيء منه لا صغير ولا كبير، ويحق له ذلك، لأنه يعتبر إنتاجه، روحه ودماءه التي جرت من شرايينه وتدفقت على من حوله، صبغها بعاطفته وأفرزها بجهده وتفرغ لها بكامل خياله وامتزاجه بواقعه، وقد استلت أبياته من صميم فؤاده ولا أقول قلبه بل من مركز قلبه النابض، وتفاعل مع مكونات قصائده إلى درجة الذوبان فيها، فيجد نفسه متعلقة بهذا الإنتاج، حتى ولو كان المخرج النهائي يعتبر من الناحية العقلية وفي مقياس النقاد من تأثير المحيط حوله ويستقي كل أفكاره ممن هو بينهم، بل قد يكون بعض الشعراء في غفلة من نفسه وانسياقه يسطوا على أجزاء من قصائد شعراء آخرين وأمثال وصيغ بليغة وأقوال الحكماء والبلغاء عمدا أو دون علم منه لأن حصيلته من المفردات والرؤى والأفكار هي في الأساس مشترك جماعي وتعد من تراكيب بناء آخر تأثر به قسرا وقل أن يوجد جديد من العدم في الإنتاج البشري، فأي قصيدة كانت ومهما كانت من الصعب أن نقول عنها انها إبداع حتى ولو وصفناها مجاملة وتجاوزا بالإبداع. وفي مجال تعلق الشاعر بإنتاجه وعدم رضاه أن يمس أو يسرق منه شيء أو يقتبس دون إشارة له يقول الشاعر سويلم بن علي بن ناصر السهلي المعروف ب (سويلم العلي): يا طامع مالك بقولي علاقه قولي عليه الوسم عرقات وحلاق لا تسلب المعنى وتسرق سراقه يقال لك عند أهل العرف بواق أسمع وطعني لا يجي بك حماقه أدعيك عرصه في لسن كل هماق وأحمّلك من فوق حملك وساقه وأدعيك شارة في نظر كل تفاق بدع المثل ما هوب عندي إشفاقه أمثال اعدلها على أشكال وأرناق والبيت منها لا ظهر تقل ناقه ولا نيب أخلي ناقتي عند الأسراق إلا إذا جاني رفيق بصداقه أساعده وأصير له تقل ملحاق فهذه القصيدة التحذيرية التي تحمل الوعيد والتهديد لمن يسرق من إنتاج الشاعر سويلم العلي تعد تعبيرا يمثل لسان حال ومقال كل شاعر، وليست معبرة عن إحساس شاعر واحد هو شاعرها فحسب بل كأنه يعبر عن توجه ورأي الشعراء جميعاً ولا أعتقد أن هناك شاعرا يتنازل عن حقه في قصيدته وإن كان بعضهم يتغافل بعض الشيء عن المتطفلين تقليلا من شأنهم. والشاعر في قصيدته وصف القصيدة بأنها ناقة ضمن نياقه، بحكم طبيعة حياته ولم يكن التصوير الفني بليغاً عندما قال: والبيت منها لا ظهر تقل ناقه ولا نيب أخلي ناقتي عند الأسراق لأن الكتاب والمؤلفين يصفون مقالاتهم وكتبهم وإنتاجهم بأنه مثل أولادهم ، وهو وصف أعمق وأبلغ وربما أصدق مما ذهب إليه الشاعر. نأتي إلى أمر آخر قريب من الاقتباس والتفاعل بين الشعراء وهو ما أشار إليه الشاعر سويلم العلي حيث يقول: إلا إذا جاني رفيق بصداقه أساعده وأصير له تقل ملحاق فهو يشير صراحة في البيت إلى وجود مساعدة بين شاعر وآخر من باب الفزعة، ويصف الوضع بإشعال الضوء من مصدر سابق يلحق به من يريد، في تبادل منفعة يتفضل بها الأول على من بعده، حيث يقتبس الناس سابقا من نار لإشعال نار جديدة لصعوبة القدح وعدم وجود مصدر إشعال سريع، ويشمل الوصف أيضا ربط الحبل بحبل آخر لحاقة له. وفي هذا الإطار والسياق نفسه نستعرض حالة حصلت بالفعل بين الشاعر:خلف بن زويد، والشاعر: عيادة بن محمد بن عبيكة بن رمال الشمري، أوردها الأخ الزميل والصديق: عبدالعزيز سلطان المرمش الشمري في كتاب عن (موقق) المدينة المعروفة في الشمال حيث يذكر موقفاً من المعاناة لشاعر وفي الوقت نفسه التأثير الفجائي بعد سماع بيت من الشعر. فقد كان الشاعر: خلف بن زويد، رفيقاً وصديقاً ل (عيادة بن محمد بن عبيكة بن رمال الشمري) المعروف أيضا والمشهور بالكرم. وقد لاحظ، عيادة بن محمد أن رفيقه خلف بن زويد شارد الذهن، وكأن في نفسه ما يشغله، والذهول بادياً عليه، ومن السهل على الرفيق المهتم برفيقه معرفة مدى حضور الذهن لرفيقه وكذا معاناته ومدى حضوره أو غيابه في هواجس خاصة. قال عيادة: ما بك يا بو زويد؟ ما الذي تفكر فيه وما الذي يشغل بالك؟ فرد عليه أنه لاشيء فيه، فظن أن به عماس القهوة فقط (والعماس هو ما يصيب الرأس من دوار ودوخة أو شرود ذهن بسبب عدم تناول القهوة التي قد أدمن على شربها) ولعل القهوة توسع الصدر وتطرد العماس، فقال عيادة هذا البيت من الشعر يخاطب نفسه: قم سو يا راع المعاميل فنجال وكثر بهار الهيل يغدي عماسه هذا البيت نبه الشاعر خلف بن زويد عندما سمعه من صاحبه، وأيقظ إحساسه وأثاره، وأحدث تغيراً مفاجئاً في نفسه وإحساسه وتنبه وكأنما استيقظ من غفوة، فقال وهو يلتفت إلى الشاعر عيادة: بكل حضور ذهن ويقظة وفي دهشة: ماذا تقول؟ قال ما سمعت: قم سو يا راعي المعاميل فنجال وكثر بهار الهيل يغدي عماسه قال: لمن هذا البيت ياعيادة؟! قال: هو لي! وقد قلته الآن! فقال أبوزيد (قصدتك إياه)، طلبتك البيت، فقد كان صدري يجيش بما فيه منذ ساعة وقد أعجبتني قافيته وأطربني. فقال عيادة: هو لك. فقال أبو زيد قصيدة عبر فيها عن كل ما كان سبباً في شروده وغيابه في تفكير عميق، وتغيرت حاله من الشرود إلى الحضور ومن الهواجس إلى مشاركة عيادة في حديث طويل بكل فرح وسرور: يقول في قصيدته المعبرة: قالوا تسير قلت ما من فضى بال ووقت على الأجواد ما به وناسه (قم سو يا راعي المعاميل فنجال وكثر بهار الهيل يغدي عماسه) هذا زمان مقبل منه أنا ذال ناس كلت ناس بخبث ونجاسة قامت بصاع المنكر الناس تكتال ودلت تباع الجوهرة بالنحاسة إلى آخر القصيدة، والشاهد أن استعارة الأبيات ومعانيها والرؤى من شاعر إلى آخر وتلاقح الأفكار في المجلس الواحد أو في ميدان الرد والقلطة واضح بين مشهور، ولا يعد من قبيل السطو والسرقات، ولم يشمله تهديد الشاعر سويلم العلي، بل هو من قبيل التعاون وإشاعة المحبة والتلاقي بين الشعراء. فقد يكون البيت عند شاعر ما شابت عنده القصيدة ووصلت إلى طريق مسدود، ولكنه عند شاعر آخر بداية ينطلق منها إحساسه في قصيدة جديدة فتية، وبالتالي فإن استعارة البيت أو القافية أو حتى بعض معاني القصيدة شيء معروف وموجود ومن الأمور الإيجابية وشائع بين الشعراء، لكن بعضهم يصرح بذلك والبعض الآخر لا يصرح بمثل هذه الاستعارات التي نعلم بعضها ونجهل الكثير منها.