هو تساؤل يتبادر إلى الذهن ونقصد به هنا أيهما يملك القدرة على تغيير المجتمع؟! ومع ذلك فالتغيير الشامل بطبيعة الحال لا يحدث في ليلة وضحاها، وإن كان يتفاوت مدى هذا التحول ما بين مجال وآخر، وكذلك وعي المجتمع أيضاً من حيث إنه درجات ومستويات، وبالتالي هناك ثمة علاقة طردية ما بين طبيعة التغيير وتأثير الوعي على فكر الإنسان، وأي اختلال فيهما أو ضعف، فإنه ينعكس تلقائياً على السلوك العام. ولذا مكانة المجتمع تتشكل من خلال قدرة أفراده على فهم قوانين الحياة، واستيعاب تجارب التاريخ. ولعل ما يجعل من التحولات الثقافية والاجتماعية أمراً ليس باليسير هو المدة الزمنية؛ حيث تستغرق وقتاً طويلاً لكي تتضح نتائجها وتأثيراتها. وهذا ربما يفسر بطء دورة التغيير في المجتمع التي تنعكس على نموه وتطوره، ما يعني إعاقة التنمية وتعطيل العقل، وهو ما قد يصيب المجتمعات بالإحباط. على ان البعض يرى أن هذا البطء مبرر لارتباطه عضوياً بتغيّر الأفكار والتصورات والقناعات، بدليل اتصاله بالذهنية والتحليل والاستيعاب، أي أنها ليست وجبة سريعة، بل دسمة وثقيلة وتحتاج إلى وقت لهضمها. صحيح ان هناك مظاهر بناء وتحديث وتنمية اقتصادية في الكثير من دولنا، لكنه لم يترافق معها نقلة مشابهة لها في الجوانب المتعلقة بالحداثة الفكرية والثقافية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية. بعبارة أخرى إن رفض التحديث والتغيير والتجديد هو أبرز ظواهر التخلف والجهل التي تتسم بها بعض المجتمعات، والتي تنزع لنمط ماضويّ مضاد لمفهوم الأنسنة. على أن تنمية الدول لابد أن تكون بوصلتها ثقافية وعلمية، وأن ترتكز على التنمية في الإنسان لأنه هو منطلق الحضارة، إلى جانب أن العلم والمعرفة يشكلان وعياً بالحضارة وتوطيناً لها، لأنه بالنظر لحركية تطور المجتمعات والتاريخ تلحظ أن الفكر الإنساني هو الذي قاد التحولات الكبرى في الحضارة الإنسانية. وفي هذا السياق سبق أن طرح المفكر الأميركي فوكوياما تساؤلاً لافتاً قائلاً: حينما نفكر في الاندماج هل نضع حدود التعاون حسب العوامل الثقافية؟ أم هل نحن نتبع ما يفرضه منطق الاقتصاد؟ وهل يتم توليد الثقة بفضل الثقافة، أم نحن نستطيع أن نندمج بشكل أكبر عالمياً من دون هذا العامل؟ طبعاً في إجابته للتساؤل اعترف فوكوياما بأنه يتفق مع هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات في أن "العوامل الثقافية أصبحت العدسات التي ينظر من خلالها الكثير من الناس للقضايا الدولية اليوم". ومع ذلك اتفق الكاتبان في اعتبار أن الهوية الثقافية والسياسية المستندة إلى ثقافة مشتركة لن تختفي في المستقبل المنظور، فالناس كما يعتقدان سيظلون يعرَّفون بشكل أولي على أساس الوطن والتقاليد والثقافة والمجتمع المحلي. وهما محقان في ذلك لاسيما وقد أشارا إلى أن قوى العولمة تمارس سلوكاً مخالفاً لمبادئ الديمقراطية إن هي بادرت "بنزع القدرة عن المجتمعات المحلية في تحديد الكيفية التي تتم وفقها صياغة حياتها السياسية المشتركة". هذه الإشكالية تقودنا لتساؤل حول أثر التغيير في السياسة والثقافة وهل من تفاوت بينهما؟ الإجابة تكمن في الفارق ما بين المصلحة، والقناعة وفق رؤية المفكر المغاربي عبدالإله بلقزيز، حيث يعتقد بأن شعوب الأمم تملك أن تغير خياراتها السياسية والاقتصادية في كل فترة زمنية معينة لكنها لا تملك أن تغير ثقافتها ومعاييرها بالسرعة ذاتها التي تغير بها نظرتها إلى السلطة والسياسة والاقتصاد. ولذلك يقول إن "الفارق كبير بين المبدأين اللذين تقوم عليهما علاقات السياسي والاقتصادي وعلاقات الثقافي والاجتماعي، فمبدأ الأولى هو المصلحة أما مبدأ الثانية فهو الاعتقاد والاقتناع فالثقافة لا تتغير من جيل إلى جيل أما المصالح فتتغير". ولذا سبق أن ذكرنا تلك المعضلة مع قيام ثورات الربيع العربي، وما تلاها من فوضى وصراعات، كان التساؤل يدور دائماً حول الاستقرار والذي يأتي كنتيجة فعل سياسي ومضمون ثقافي إن جاز التعبير. يرى بلقزيز ومن وجهة نظر قد يتفق معها كثيرون في "ان التغييرات في مجاليْ السياسة والاقتصاد قد تأخذ عقداً أو عقدين بعد الثورة، لتتبين ملامحها، في حين ان التغيير الثقافي والاجتماعي يأخذان زمناً أطول قد يستغرق جيلاً أو جيلين قبل أن يفصحا عن ثمراتهما". مشيراً إلى أننا يجب "ألا نتجاهل القوانين الموضوعية في التطور الاجتماعي ومنها قانون التطور المتفاوت بين سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي". إذن النقطة الأساسية هنا تتركز على الزمن، "فزمن التطور في السياسة والاقتصاد - كما يرى الكاتب - غير زمن التطور في الثقافة والاجتماع، فالأول زمن وقائعي أي محكوم بزمنية الوقائع أما الثاني فزمن ثقافي أي يتعلق بمنطق التطور طويل الأمد الذي تقطعه الأفكار كي تتبدل". وبين الزمنين تفاوت في التطور، فإن الزمن المادي الذي تخضع له العلاقات السياسية والاقتصادية أسرع إيقاعاً من الزمن الثقافي". صفوة القول: الحياة المدنية تشكلها الثقافة والسياسة بكافة تجلياتهما وبغطاء من الوعي الذي يقف ضد الثقافة الاستلابية الرافضة للتطور الاجتماعي، ومع ذلك فالمسألة في تقديري ليس مهماً من يمتلك قرار التغيير بقدر ما أن المهم أن تكون فاعلاً ومنتجاً في حضارة إنسانية باتت إلى التلاقح هي أقرب.