من تابع في الفترة الماضية بعض الممارسات والتصرفات التي قامت بها فئة ذات توجه منغلق، في اكثر من مكان رسمي وحكومي بدعوى تقديم اعتراض على قراراتٍ للدولة سبق ان أعلنتها، تصنف قانونيا من ضمن السلوكيات المرفوضة اجتماعيا والخارجة عن القانون بدلالة أنها تنطلق من قناعات ومفاهيم مجتمعية في المقام الاول لا علاقة لها لا بالشرع، ولا بمفهوم المناصحة وإن حاولوا اضفاء ذلك على مسعاهم. إن رفض التحديث والتغيير والتطوير هو ترسيخ لمظاهر التخلف التي تتسم بها تلك الفئات المتشددة، التي تجاوزت كل المحظورات وهي التي تنزع لنمط ماضوي على ان هذه اساليب استفزازية واندفاعية تتنافى مع النسق المجتمعي العام، ولا تتلاءم مع الطبيعة الفكرية والتركيبة النفسية لشرائح المجتمع لاسيما في جزئية آلية التعاطي والتواصل مع صانع القرار، وهي محاولة لإثارة الغبار والفتنة وحب الظهور لاسيما وأنها كما يبدو محاولة للانتقاص من مكانة الدولة وهيبتها وهذا امر غير مقبول ومجرم في الشريعة والقوانين الوضعية. على انه بالنظر لتلك التصرفات ومن منطلق فكري هل نستطيع ان نفهم لماذا هكذا افراد يمارسون هذا السلوك رغم انهم لا يمثلون التوجه السائد في المجتمع؟ من الواضح ان المسألة ليست مطالب مشروعة لأن هناك قنوات رسمية لإيصالها، ولكن القصة اكبر من ذلك بكل تأكيد. ولعل الرؤية الموضوعية هنا ترى بأن في كل مجتمع هناك فئة فاعلة ومنفتحة قادرة على الحركة والاشتغال والإنجاز، وفئة أخرى معطلة ومناهضة للتغيير لا يميزها عن الأولى سوى التشدد والانغلاق ما يجعل تقدم المجتمع وتطوره مرهوناً بأيهما الأكثر قدرة حضورا وتأثيرا في الساحة، وبالتالي إذا هيمنت الفئة الأخيرة، فمعنى ذلك أنها نجحت في ممارسة دور رافض ومحبط في دفع مسار تطور المجتمع. ولذلك فغياب الوعي هو بالتأكيد أزمة الازمات لأنه طالما ان الذهنية لازالت تلامس القشور، ولا يثير اهتمامها إلا الشكليات والهياكل دون المضمون والجوهر فإن إعاقة نمو المجتمع والتخلف الفكري سيبقيان مهيمنين بأدواتهما داخل نسيج المجتمع. نعلم بأن الوعي هو الأداة الأساسية التي تدفع باتجاه التفاعل في الحياة لتصبح مدنية، على اعتبار ان الانسان هو غاية التنمية ومحور الحضارة ومنتجهما، ولذا لا نستطيع قياس تطور الشعوب إلا بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في المجتمع. ولكن لماذا التحول الثقافي للمجتمعات بطيء الحركة عبر التاريخ مقارنة بالتغير السياسي والاقتصادي؟! الاجابة تكمن في الفارق ما بين المصلحة، والقناعة وفق رؤية عبدالإله بلقزيز، حيث يعتقد بأن شعوب الامم تملك ان تغير خياراتها السياسية والاقتصادية في كل فترة زمنية معينة لكنها لا تملك ان تغير ثقافتها ومعاييرها بالسرعة ذاتها. إذن النقطة الاساسية هنا تتركز على الزمن، "فزمن التطور في السياسة والاقتصاد - كما يرى الكاتب - غير زمن التطور في الثقافة والاجتماع، فالاول زمن وقائعي أي أنه محكوم بزمنية الوقائع اما الثاني فهو زمن ثقافي أي أنه يتعلق بمنطق التطور طويل الامد الذي تقطعه الافكار كي تتبدل. وبين الزمنين تفاوت في التطور، ذلك ان قابلية البنى السياسية والاقتصادية للتحول والتغير اعلى من قابلية البنى الثقافية والاجتماعية الفكرية". ولكي نمضي في مزيد من الشفافية نقول إن بطء دورة التغيير في المجتمع تنعكس بطبيعة الحال على نموه وتطوره وتنميته. فهل هذا البطء مبرر؟ الحقيقة أنه ليس بالضرورة لأن هناك افراداً يدفعهم مستواهم الفكري باستشعار ضرورة التغيير ولكنهم يرفضون ذلك ويتمسكون بقناعاتهم على الاقل علنا لان قبولهم بفكرة التغيير تعني فقدان او ضياع مصالح او مكانة او نفوذ. ومع ذلك هناك آخرون إن ارتهنا للموضوعية فهم بحاجة للوقت من اجل ان تتغير افكارهم وقناعاتهم، وهذا يعني حاجة كل عقلية الى الفهم والتحليل والاستيعاب وهي مسالة تتبلور صورتها من خلال الوقت، اي أنها ليست وجبة سريعة، بل دسمة وثقيلة تحتاج إلى وقت لهضمها. غير انه يمكن تسريع وتيرة هذا البطء الطبيعي في مجتمعنا، فقط في حالة انه تم وضع إستراتيجيات لرفع المستوى الثقافي والفكري على ان تشمل جميع فئات المجتمع. على أن هناك من يرى أن استمرار ظهور تلك التصرفات من وقت لآخر هو بسبب غياب الوعي ووجود ثقافة الممانعة التي تعني الجمود والسكون، والتمسك بالمألوف، والخشية من الجديد بل ورفضه ، في حين أن البعض يرى بأن هناك تناقضا ما بين بعض العادات والتقاليد وضرورات العصر ومتطلباته. ورغم أن كل ما ذكر صحيح، غير ان المهم ان المسألة هنا لا تتعلق بالشرع او بالنصوص الدينية وإنما حالة من الاشتباك والتداخل ما بين النص والعادة خلقها أولئك المتزمتون في اذهانهم وعقول غيرهم، ولا سبيل لإنقاذهم سوى فك هذا الاشتباك المتخيل في الذهن، ناهيك عن اسلوب الحزم والصرامة والحسم من قبل الدولة في التعامل مع هذه الفئات التي تجاوزت الخطوط الحمراء بارتكاب افعال مجرمة شرعا وقانونا. غير أن ثقافة الممانعة شكلت نمطا من وعي التخلف في عمقها وفي تركيبتها من بعض المفاهيم والتقاليد والتصورات والممارسات، ما هيأ للتخلف صناعة قناعاته وعاداته السلبية، ولعل احد أهم صوره تتمثل في الأحكام الجزافية، والتركيز على القشور وصغائر الامور ناهيك عن غياب الرؤية العقلانية. إن رفض التحديث والتغيير والتطوير هو ترسيخ لمظاهر التخلف التي تتسم بها تلك الفئات المتشددة، التي تجاوزت كل المحظورات وهي التي تنزع لنمط ماضوي تقليدي فالمسألة هنا ليست مطالبات شعبية بقدر ما هي محاولات هزيلة رافضة لقرارات تنموية وحضارية ما يعني مساساً بهيبة الدولة واستقرار المجتمع.