عندما قامت ما سميت ثورات الربيع العربي، وما تلاها من فوضى وصراعات ما زالت محتدمة الى يومنا هذا، كان يتبادر الى الذهن تساؤل مرير: هو متى تستقر الاوضاع وتستتب الامور ويتحقق التغيير السياسي والثقافي؟ لاحظ ان الثورة الفرنسية مكثت سبع سنوات في دوامة الصراع والمخاض لينتج عنها تحولات ثقافية واجتماعيه والثورة البلشفية (الروسية) قطعت ثلاث سنوات من الصراعات الدموية لكي تحقق اهدافها سياسيا ولكن لم تصنع تحولات ثقافية تذكر. قد تصنع الثورات تحولاً ولكنها ليست بالضرورة تحقق إنجازاً، ولذا فالخروج من نفق ما يحدث الآن هو استيعاب إفرازات التجربة على اختلاف تجلياتها والرهان على وعي الشعوب، رغم ما نشهده من ظواهر سلبية مقلقة على ان هناك ثمة خشية في قدرة تلك الدول لتجاوز ازماتها لاسيما ان فترة المخاض تجاوزت مدة طويلة في بلدان عاشت عقودا من الاستبداد والفساد، ومن الطبيعي ان تحدث ارتدادات عكسية ومعوقات إلا انه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح وهو ما يبعث على التفاؤل بدليل ان ثمة تجارب مشابهة من الحراك الشعبي في اميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية في الثلاثة العقود الاخيرة شهدت تحولات ديمقراطية ما نتج عنها إنشاء حكومات ديمقراطية مستقرة. تاريخيا نجد ان الحركات الثورية في أوروبا لم تأت من العدم، بل جاءت كنتيجة لنظريات مفكري عصر الأنوار من فرنسيين وانجليز. هؤلاء أسسوا لحركة فكرية نقدية في القرن الثامن عشر مهدت لبناء تصور جديد للمجتمع يقوم على الديمقراطية والحرية والمساواة، ونادت بالقطيعة المعرفية وفك الاشتباك بنفوذ الكنيسة والاستناد على العقل وكشف عيوب المجتمع وتناقضاته، وهو ما أدى فعلا إلى تغيير مسار التاريخ بمقولاتهم، كنظريات جان جاك روسو جون لوك في العقد الاجتماعي وديفيد هيوم في علم الإنسان مقابل اللاهوت، ونقد فولتير للتعصب الديني والسياسي ودور مونتسكيو في بلورة فكر عقلاني مناهض للأنظمة الاستبدادية. غير ان القلق المتنامي يدور حول جزئية مفصلية قد تعرقل أي تقدم نهضوي للمجتمعات العربية ألا وهي الصراع المذهبي والطائفي اللذان استشريا في الجسد العربي، فملف الأقباط في مصر والتوتر السني العلوي الكردي في سوريا، والاحتدام السني الشيعي في العراق ولبنان وغيرها والصراعات القبلية المذهبية في اليمن وخلافات الاسلاميين مع بقية قوى المجتمع في ليبيا وتونس ومصر، كلها مؤشرات على انقسامات عرقية ودينية تعيق التحول الديمقراطي وبالتالي تهدد استقرار تلك الدول. ومع ذلك فهناك من يرى ان الوضع بعد الثورة أفضل بكثير منه قبلها. وان حالة الاستقطاب السياسي هو امر طبيعي ونتاج حتمي وصحي للثورة. ويضربون بنمطي الثورة الفرنسية والروسية اللتين اخذتا وقتا طويلا لكي تتضح تداعياتها. يرى المفكر المغاربي عبدالاله بلقزيز ويتفق معه كثيرون في "ان التغييرات في مجالي السياسة والاقتصاد قد تأخذ عقدا او عقدين بعد الثورة، لتتبين ملامحها، في حين ان التغيير الثقافي والاجتماعي يأخذان زمنا اطول قد يستغرق جيلا او جيلين قبل ان يفصحا عن ثمراتهما". مشيرا الى ان الثورة تعيش لحظتين هما الهدم والبناء، فاللحظة الاولى يتجسد فيها اسقاط النظام السياسي واللحظة الثانية يتجلى فيها تحقيق اهدافها ومع ذلك فكلا اللحظتين لا تحققان التغيير الشامل، لأننا "يجب ألا نتجاهل القوانين الموضوعية في التطور الاجتماعي ومنها قانون التطور المتفاوت بين سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي". ولكن لماذا التحول الثقافي للمجتمعات بطيء الحركة عبر التاريخ مقارنة بالتغير السياسي والاقتصادي؟! الاجابة تكمن في الفارق ما بين المصلحة والقناعة وفق رؤية بلقزيز، حيث يعتقد بان شعوب الامم تملك ان تغير خيارتها السياسية والاقتصادية في كل فترة زمنية معينة لكنها لا تملك ان تغير ثقافتها ومعاييرها بالسرعة ذاتها التي تغير بها نظرتها الى السلطة والسياسة والاقتصاد. ولذلك يقول ان "الفارق كبير بين المبدأين اللذين تقوم عليهما علاقات السياسي والاقتصادي وعلاقات الثقافي والاجتماعي، فمبدأ الاولى هو المصلحة اما مبدأ الثانية فهو الاعتقاد والاقتناع فالثقافة لا تتغير من جيل الى جيل اما المصالح فتتغير". اذن الزمن هنا هو الذي يصنع الفارق "فزمن التطور في السياسة والاقتصاد وفق رؤية الكاتب، غير زمن التطور في الثقافة والاجتماع، فالأول زمن وقائعي أي محكوم بزمنية الوقائع اما الثاني فزمن ثقافي أي يتعلق بمنطق التطور طويل الامد الذي تقطعه الافكار كي تتبدل". وبين الزمنين تفاوت في التطور، فان الزمن المادي الذي تخضع له العلاقات السياسية والاقتصادية اسرع ايقاعا من الزمن الثقافي بمفهومها الانثروبولوجي. ذلك ان قابلية البنى السياسية والاقتصادية للتحول والتغير اعلى من قابلية البنى الثقافية والاجتماعية الفكرية". وفي هذا السياق جاءت تجربة ثورات الربيع العربي لتكشف ضعف الثقافة السياسية وقلة الوعي لدى من تسلم السلطة إلا أن التغاضي عن الاندفاعات والتجاوزات، بات ضرورة ان اردنا ضمان قطف ثمار الثورة. وان كان التشاؤم لدى البعض حول إمكانية نجاح مرحلة ما بعد الثورة له ما يبرره كونه يأتي بعد سلسلة من إخفاقات التجارب السياسية التي عاشها العرب منذ أن استقلت دولهم في أواسط القرن العشرين. صفوة القول، قد تصنع الثورات تحولاً ولكنها ليست بالضرورة تحقق إنجازاً، ولذا فالخروج من نفق ما يحدث الآن هو استيعاب إفرازات التجربة على اختلاف تجلياتها والرهان على وعي الشعوب، رغم ما نشهده من ظواهر سلبية مقلقة.