وأبدأ هذا المقال بأن أذكر سبب كتابته: فقد جاء الحرصُ على كتابة هذا المقال، بعدما بلغ السوء مداه، وشاهدنا ثمار أولئك الوعاظ والدعاة الجهلة، في الصد عن الدين، وفي إضعاف الأمة! فالوعظ فتوى، لكنها فتوى عامة، لا تخص شخصًا بعينه. وهي لكونها فتوى عامة يتخفف العلماء فيها من بعض شروط الفتوى الخاصة، كالعلم بحال المستفتي، ولكنهم (في المقابل) يتشددون لها بشروط أخرى؛ لأن هذه الفتوى العامة بعموميتها سيكون ضررها أعم، ولأنها فتوى تُشكّل الفكرَ الدينيَّ لدى المجتمعات الإسلامية، وتكوّنُ تصوراتِهم العامةَ ومبادئهم الكبرى، حيث إنها تتحدث عن عدد كبير من العلاقات المعقدة والعميقة، وهي لذلك التعقيد والعمق قد شابها كثير من التشويه، مع شيوع الجهل، وقلة العلم والفقه الحقيقي في الدّين. فهي علاقات تبدأ من مثل: - علاقة الدنيا بالآخرة، على جلالة هذه العلاقة ومصيرية تصورها، وكونها منطلق كل علاقة أخرى في حياة الإنسان! - وعن علاقة الزهد بطلب القوة المادية وبالإعداد المأمورَينِ به نصًّا. - وعلاقة الثقة بنصر الله بوجوب اتباع الأسباب. - وعلاقة تقديم الآخرة والعمل لها بعمارة الدنيا وإصلاحها وعدم السماح بإفسادها. - وعلاقة فرائض الدين بنوافله، وكيف نحث الناس على النوافل دون إيهامهم بتقصيرهم إذا لم يفعلوها، ودون مؤاخذتهم بغير ما يؤاخذهم ربهم عليه من الفرائض. - وعلاقة الحث على الطاعة بعدم التشديد والتعسير. - وعلاقة توسيع الثقة بالرحمة بعدم التواكل والاستخفاف. - وعلاقة شمولية معنى العبادة بالمعنى الخاص لها، فلا يطغى معناها الخاص (من عبادات محضة كصلاة وصيام) على عبادة حُسْن الخُلُق والإحسان للخَلْق وإتقان العمل ونحوها، ولا يُضيِّعُ معناها العام حقَّ معناها الخاص من الاهتمام. - وعلاقة عمل الجوارح بالإيمان وعلاقة عمل القلب به، وخطورة الفكر الذي يستخف بعمل الجوارح (الإرجاء) بفساد الالتزام الظاهر بالدين، وعلاقته بخطورة الفكر الآخر المقابل له، والذي يستخف بأعمال القلوب (والذي يقود لفكر الخوارج) بفساد الالتزام الباطن بالدين، وما مدى علاقة صلاح الباطن بالظاهر، وما هي حدود الاستدلال بالظاهر على الباطن. - وعلاقة إخوة الإسلام وحقوق المسلمين كلهم بحماية الدين من ضلال بعض أبنائه وابتداعهم. - وعلاقة العلاقات الإنسانية بالولاء والبراء. - وعلاقة كفالة الحريات وحفظها بعدم استغلالها لإفساد العقائد والتصورات. - وعلاقة إلزامية أحكام الشريعة (في مثل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعزيرات) بحدود هذا الإلزام وطريقته وعلاقته بالإحالة إلى الرقابة الذاتية التي تنمي التدين الحقيقي في النفس ... إلى آخر هذه القائمة. وهي قائمة طويلة وخطيرة وعميقة: من منطلقات الدين الكبرى، ومن محدداته الأساس، ومن محاور أفكاره وبؤر معالجاته. والمشكلة أن هذه الأمور الكبرى أصبحت في الحقيقة هي مجال حديث الوعاظ والدعاة اليوم.. غالبًا، وهي المسائل التي تلوكها ألسنتهم صباحَ مساءَ، شعروا بذلك أولم يشعروا!! مع أنها بهذا العمق الكبير كله!! ومع ما طرأ عليها من انحرافٍ في التصور وغموضٍ في الرؤية لدى كثير من المسلمين، ممّا يجعل خطأَ هؤلاء الوعاظ فيها أكثر بكثير من صوابهم، ويجعل زيادةَ تشويه تصورات الناس عنها هو عامة ما ينتج عن وعظهم، وترسيخَ ذلك الخلل في العقل الجمعي للأمة هو خلاصة مواعظ أكثرهم، ممّا يكون له أعظم الأثر في ضعف الأمة وهزيمتها وتَخلّفها! بل في ترك التدين والإعراض عن أحكام الشرع، إلى ترك الدين رأسًا ومعاداته بالكامل، في المحصلة النهائية الفاجعة لتراكم نتائج تلك الجرائم باسم الوعظ على فهم الدين وعلى واقع حَمَلَتِه ممّن يُفترضُ فيهم أن يكونوا هم (أمةَ الإجابة)!! وهذا ما يجعل مثل هذا الوعظ سببًا من أهم أسباب الفساد العام، ممّا لا يجيز التهاون مع أصحابه الذين لم يبلغوا منزلة استحقاق الوعظ، حتى ولو حَسُنت نياتهم! وسأتكلم -بإذن الله- في مقال الأسبوع المقبل عن شروط الواعظ.