كانت حلقة طاش عن وصولي جعل من إعفاء لحيته وتقصير ثوبه وسيلة لخداع الناس وسرقة مئات الملايين باسم المساهمات العقارية ضاربة في الصميم، وقد كان وقعها على بعض ضحايا النصب الذين ينتظر بعضهم رد أموالهم منذ سنوات فوق برداً وسلاماً، فمع أنها لم تكشف سراً، بل ألمحت إلى واقع يتكرر دائماً عن بعض أولئك الذين وجدوا التظاهر بالصلاح أحبولة للربح السريع وخداع السذج، فقد كانت ردة فعل بعض من كتاب الصحف ومواقع الإنترنت على الضد من ذلك، ورغم أن القائمين على المسلسل الشهير كانوا - كما يبدو - حذرين من اتهامهم بلمز المتدينين على وجه العموم جاءت الانتقادات في الحلقة نفسها على لسان متدين آخر، بذل نصائحه للشيخ النصاب وحذره من عقاب الله في الآخرة. في الآونة الأخيرة تتابعت القصص التي تنشرها الصحف عن فساد وانحلال بعض ممن ينتسبون للتدين كالاتجار بالمخدرات أو تعاطيها، وسرقة الأموال وغيرها، كما في بيانات الداخلية السعودية عن خلايا القاعدة، وسريعاً ماتتحول قصة ما إلى ساحة للنقاش والتهم المتبادلة، بين ضفتين مابين المتدينين (الإسلاميين) ومابين آخرين وجدوا ذلك مدخلاً ومطعناً للتشكيك بكل إمام مسجد أو مدرس حلقة تحفيظ أو داعية، ولو أن النصاب الذي كان شخصية الحلقة لم يكن ملتحياً ولم يكن متظاهراً بالصلاح لما قوبلت بتلك العاصفة من الاستياء لدى فئة معينة فقط هي فئة الملتحين! فما الحيلة وبعض ممن تتصدر صورهم الصفحة الأولى في صحفنا من نصابي المساهمات هم من ذوي اللحى؟ الواقع هنا يراد طمسه وتجاهله، مع أن الجميع يعلمه، وهذا هو الكذب على النفس وتزوير الواقع. بين الفينة والأخرى والصحف ووسائل الإعلام الغربية تنقل بصفة مستمرة أخبار التحلل الأخلاقي لدى رجال الدين الكاثوليك وأنباء الدعاوى والتعويضات الهائلة التي تدفعها الكنيسة ستراً لفضائحها، والخزي الذي يجلل الفاتيكان والقلق الذي يشعر به البابا إزاء هذا التفسخ، وهو أمر يقع مثله لدى نظرائهم من رجال الدين في الديانات الأخرى الذين يحيدون تحت وطأة الهوى والنفس الأمارة عما يجب أن يتمتعوا به من ورع وطهر. البشر بحكم تركيبتهم منساقون خلف غرائزهم وضعاف للغاية أمام نزواتهم، والتغافل عن هذا الأمر هو الذي يجعل الناس يسلمون أموالهم وقلوبهم، وأبناءهم مرتاحي الضمير ودون قلق لوحوش وذئاب تتظاهر بالتدين، لهذا امتلأ كتاب حلية الأولياء للأصفهاني وتلبيس إبليس لابن الجوزي بالتحذير من الخلوة بالأطفال والقصّر مع من يكبرونهم سناً مهما كانت درجتهم من التقوى والصلاح، ومن القصص المؤسفة التي تقع كل فترة يعلم الجميع أن بعضاً ممن يمارسون الرقية والمعالجة بالقرآن ينساقون خلف غرائزهم حينما تنداح أيديهم إلى أماكن حساسة ومحظورة من أجساد المريضات بحثاً عن الشيطان، كما يكتشف الإنسان حينما يتقصى أخبار كثير منهم الهوة الشاسعة في باطنهم عن صفات وأخلاق وفروض يحتم عليهم إيمانهم وتعاليم قرآنهم الذي اتخذوا آياته وسيلة للكسب والمعالجة التمسك بها. الفترة التي قضاها المؤرخ ابن خلدون في مصر (قاضياً للقضاة) كانت نقطة سوداء أبقت أثرها على حياته وصبغت سيرته برائحة كريهة فمن اتهام معاصريه ومن تلاهم من مؤرخين له بالفساد والنفاق وعظائم الأمور التي بلغت حد اتهامه بالفاحشة فترة إقامته في مصر، إلى قصته الشهيرة مع تيمورلنك التي كشفت عن أقذر مايمكن أن تتكشف عنه الوصولية والنفاق. ونظرة عابرة لتراجم الآلاف من الفقهاء والمحدثين والصوفية والقصاص (الوعاظ والدعاة ) ممن حوتهم كتب السير والتاريخ منذ العهد الأول لظهور الإسلام وحتى عصرنا الحديث، تكشف عن مئات الأسماء ممن حكي عنهم أخبار وأخلاقيات على الضد تماماً مما كان ينبغي أن يتحلوا به ويمتثلوه من آداب وسمت، ويتجلى ذلك عبر حكاية تتعلق بتجارة أحدهم، أو بموقفه من خصومه في المذهب أو الاعتقاد، أو أقرانه ممن دخل معهم بشحناء أومنافسة على منزلة أو حظوة لدى العامة أو منصب، وسيجد ذلك من يتصفح بشكل عشوائي كتابي سير أعلام النبلاء للذهبي، أو الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني وهما من أئمة علم الحديث. كان أبو جعفر المنصور يوماً وفي مجلسه فقهاء ومحدثون وقضاة، وقد استدعى عمرو بن عبيد المعتزلي المتكلم إلى مجلسه فوعظه عمرو، وحينما خرج من مجلسه التفت أبو جعفر إليهم وقال: كلكم طالب صيد* كلكم يمشي رويد* غير عمرو بن عبيد وقد تضمنت معظم الكتب التي ترجمت ليحيى بن أكثم قاضي القضاة ما أشيع عنه من شذوذ وميل إلى الغلمان، ولكن أحمد بن حنبل أثنى عليه وقال: لقد ثبتت عندنا عدالته. كانت مسألة توافق الظاهر والباطن وتواطئهما، وردم الهوة مابين الادعاء بالتقوى وتحقيق لوازمها، مسألة أشغلت أئمة الزهد والتصوف والعباد وأقضت مضاجعهم، ولهذا قال سفيان الثوري أحد مشاهير الزهاد في القرن الثالث الهجري: مارأيت أشد علي من نيتي، إنها لتتقلب علي في اليوم أكثر من مائة مرة، ورغم ماعرف عن الحلاج من تصوف ومن نسك وقسوة على النفس فإنه لم يسلم من اتهامات له بالشعوذة ومراودته لزوجة ابنه، وكانت شهادات ضده جمعها خصومه من الفقهاء بادعاء الألوهية سهلت قتله وإحراقه بتأليب من الوزير أبي علي ابن عيسى الذي لقي هو الآخر حتفه بعد ذلك مقتولاً شر قتلة. تلقيت العلم الشرعي لسنتين ونصف على عالم الحديث العابد الزاهد عبدالله الدويش الذي توفي عن 36 عاماً في مدينة بريدة في الربع الأول من عام 1988م، كان الشيخ قد تلقى تعليمه على صفوة من المشايخ لم يكن يميز أكثرهم العلم الواسع بقدر ماكانت زينتهم التقوى والعبادة، كانت حياته القصيرة نموذجاً لمخبت كان يعيش بيننا وأشواقه ومرسى سفنه عند أناس رحلوا منذ مئات السنين، كان يتعمد في طريق عودته إلى بيته وفي تنقله بين مسجدي السكيت ومحمد الصالح المطوع ببريدة تجنبَ المرور بسيارته في الأسواق المزدحمة بالناس، والمحال التجارية، ويرتاد طريقاً أقل اختصاراً، وأقل أناسي، تكررهذا منه مراراً وأنا بصحبته، فسألته يوماً عن السبب، فقال: أنا مخطئ عدد أنفاسي وأعمالي الصالحة قليلة والقليل منها يشوبه الرياء ورؤية النفس واستكثار العمل، فماذا سيبقي إذا رأيتُ أموراً تسخط الله وأنا عاجز عن تغييرها؟ السلامة أولى. كان الدويش يصلي أربع ساعات كل ليلة، ويسبح الله مع كل خفقة قلب، ويصوم يوماً ويفطر الآخر، ويحب النكتة، ويستظرف ذوي الظل الخفيف، ويضحك أحياناً حتى يسقط على ظهره، وإذا كان أصيل يوم الجمعة رفع يديه باكياً متضرعاً حتى يرفع المؤذن صوته بالأذان، وأنا أعرف صديقاً من تلامذته كان يتجر بالتمور، وحينما علم أنه كان بين صناديق التمر الذي باعه أشياء رديئة تصدق بكل ماحصله من مال وأصابه الغم لأيام، ولم يعد إلى السوق إلى بعد أن اندملت جراح روحه المرهفة. كنا عام 1987أربعة من طلبة العلم: افتقدنا أحدنا بعد تغيبه عن دروس الشيخ ودروس غيره من المشايخ لأسابيع، وانقطع عن مواصلة حفظ القرآن، ولزم بيته وانشغل بالصلاة والصيام، ولأيام كنا نتساءل دون أن نفاتحه في الأمر عن سبب ذلك، وأخيراً عزمنا على مصارحته، فكانت إجابته أنه يعجز عن أن ينهض بتكاليف العلم الذي أوجب الله عليه القيام بمقتضاه، وأنه كلما تعلم آية أو حديثاً أو حكمة، عظمت حجة الله عليه وأنه لاطاقة له بأمانة هذا العلم، الذي إن قصر في العمل به ناله عذاب الله، لكنه بعد أيام عاد إلى سابق عهده بعد إقناعه بأنه لا يلزمه أكثر مما يجب على غيره من المؤمنين من الفرائض والواجبات واجتناب الموبقات والمحرمات، وأن العلم خير من الجهل وأن الأمر لايعدو المقاربة والاجتهاد قدر المستطاع، فسددوا وقاربوا. ربما يهيئ لك القدر يوماً - وهذا ليس نادراً في مجتمعنا - رفقة جمهرة من المتدينين، قد يكونون متشددين منغلقين، أو متطرفين على تفاوت بينهم في ذلك، ولكنك ستلحظ أنهم ليسوا سواسية في مستوى التزامهم الحقيقي الذي يتجاوز توفير اللحية وتقصير الثوب والسواك، ستجد فيهم الناسك المتساهل في التعاملات المالية حد أكل الحرام، وستجد فيهم قليل العبادة ولكنه ورع في حقوق الناس وجِلٌ من أن يأكل مالا يحل له أو أن يدخل جوفه سحت من المال، وستجد فيهم النزيه اللسان البسام العفيف الخلق ولكنه يضعف حين يبتعد عن الرقيب وأصابعه تعبث بزر الراديو عن أن يصيخ بسمعه إلى فيروز وهي تغني (جادك الغيث إذا الغيث هما)، وستجد فيهم أتقياء أنقياء لايقلون إيماناً وطهراً وإخلاصاً عن أولئك الذين نقرأ سيرهم من صالحي الأزمان الغابرة، وحينما تصيبك الغمة عن أن تعلم هذا التفاوت بين الناس فإن عقلك ليس في رأسك. والحق أن التنازع مابين العلم وآداب حامله والتركيز على فضله وتفضيل أهله، ومابين أهل التصوف والنسك والورع المهمومين بالعمل وتصفية النفس عن شوائبها يتجلى أثره في قراءة وصايا أهل السلوك وكتب الرقائق، وفي المؤلفات التي كتبت في فضل العلم والفقه في الدين وتصدت لحجج أهل التصوف وقدحهم في الفقهاء ولمزهم لهم في منافستهم وإقبالهم على الدنيا وتزاحمهم على الوظائف في المدارس أو الأوقاف، وعبر التاريخ الإسلامي كان الفقهاء النساك والمتصوفون الفقهاء أندر من النادر، كابن الوزير اليماني وسعيد بن المسيب والأوزاعي وابن تيمية، وابن باز. كان ابن تيمية يقول عن ابن الوكيل الشافعي: لقد كان مسرفاً على نفسه، حيث كان صدر الدين ابن الوكيل معروفاً بالذكاء الخارق وقوة الحجة في مجالس المناظرة ولكنه كان يشرب الخمر. وفي قراءة سير بعض المتقدمين في العهد الأول نقرأ كيف أن وحشي قاتل حمزة كان يعاقر الخمرة حتى توفي، وأن عدداً ممن أدركوا ولاية عمر بن الخطاب كانوا يشربون الخمر ويحتجون بأن المؤمنين ليس عليهم جناح فيما طعموه من الخمور إذا مااتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ولكن عمر استدعاهم حتى تراجعوا، فضلاً عن أن كل الوصايا النبوية التي تناولت الأخلاقيات السيئة والصفات البذيئة وعظائم الذنوب من الغش والكذب والنميمة والإفساد ذات البين والغدر والسرقة، هي انعكاس لوقائع تتجدد يومياً وتحدث بين ظهراني المسلمين والرسول بينهم، فلم يكن الحديث عن صفات المنافقين يتناول أشخاصاً خارج الطائفة المؤمنة في المدينة على اختلاف درجات تمسكهم بتعاليم الدين، بل كانت تستهدف أفعال المؤمنين أنفسهم الذين ذكرهم القرآن. المحزن أننا نتحدث عن البديهيات. وكانت الحروب التي وقعت والمآسي والقتل والذبح والقذف الذي جرى في بداية عهد الدولة الإسلامية خير شاهد على تلك الهوة الفاصلة مابين القول والعمل، واندحار القيم وتقهقرها أمام المطامع الدنيوية والاقتتال على السلطة، لهذا نحن ندرك الفرق الكبير اليوم بين الإسلاميين من الرعيل الأول الذين كانوا قلة قليلة في السبعينيات وأوائل الثمانينات، ومن لحق بهم أواخر التسعينات وبعد حرب الخليج، فالرعيل الأول كانوا أشبه بمؤمني العهد المكي، ومن عداهم كانوا قريبي الشبه بمؤمني الفتح، فالغربة والشعور بالابتلاء والقلة تجعل الاهتمام ينصب على تربية النفس، على عكس من لحق ليقتسم شيئاً من الكعكة بعد أن اختلط الحابل بالنابل، وكثر الادعاء. كان ابن دريد يعلم في منزله اللغة وعلومها، وكانت كؤوس الخمر وآلات اللهو على مرأى من تلاميذه، وكان من تلاميذه بعض أهل الحديث، وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أحد المحدثين أنه لم يكن يراه أحد في المسجد يصلي، وكان بعضهم يصمه بعدم الصلاة. في العقود الأخيرة تعرض مفهوم التدين والإيمان التقليدي لنوع من الخلخلة أحدث انقلاباً وانزياحاً وإحلالاً، نتج عنه نمط من التدين المحدث وقصور في تصور الإيمان وماهيته وحقيقة الظاهر والباطن، حيث ترعرع مفهوم جديد للإيمان احتلت المفاهيم السياسية فيه مكان الصدارة، حيث تضاءلت حصة النسك والعبادة لصالح أخرى جرى اعتبارها عبر القرون الأولى من بنية السياسة الشرعية والآداب المندرجة تحت المستحبات، فتحولت أفعال اعتبرها مؤمنو العهد الأول والمتصوفة والعباد الكبار خوارق لإيمان المؤمن وناقضة لكماله الواجب إلى صغائر ومحقرات، بينما انزاحت أخرى كان ينظر إليها على أنها صغائر ومن الآداب لتحتل مكان الصدارة في مفهوم الإيمان كاللحية والثوب، وتعاظمت ذرائعية ذات صبغة دينية تجد جذورها في فقه عقائدي طائفي ومذهبي تستسيغ أفعالاً هي في القرآن من الموبقات والكبائر لصالح فهم ضيق مذهبي متوحش، تعتبر قتل الأبرياء والأطفال والإفساد في الأرض وتحريم الطيبات اجتهاداً في الدين يغفر الله لصاحبه، وتلوذ بالصمت إزاء مرتكبيه وتعتبر انتقاد ملتح ونبز شيخ والسخرية من فهم متخلف، وفتوى تثير الفتن وتزلزل المجتمع وتهدم البيوت استهزاء وكفراً بالدين! هذه مقاربة لمفهوم التدين حرصت فيها أن تكون مقاربة للمفاهيم الشرعية، فأنا أؤمن أن الروحانية حاجة أساسية في أعماق الإنسان، إن القضية بعد من أبعاد الشخصية الإنسانية، لكن أن تكون متديناً بهذا المعنى المشرع الأبواب في نظري، لا يعني أن تكون غير متسامح، ولا أن تكون ممارستك للدين طقوساً لاروح فيها أو أحبولة تصطاد بها أموال المساكين.