مايدور بشارع لدينا، يجعلك تتوقف كثيراً ، تارة تدمع عينك حزناً على ماتراه وأخرى تفقد السيطرة على أعصابك أمام إلحاح المتسوّلين، فمن خلال حديثنا مع بعض المتسوّلين والمواطنين والمسؤولين وجدنا أن السعوديين والسعوديات لا تتجاوز نسبتهم 1% من المقبوض عليهم في مراكز إيواء المتسوّلين و 99% منهم غير سعوديين ويقيمون داخل البلاد بطريقة غير نظامية، فنسبة المحتاجين بينهم لا تتجاوز 2% فيما نجد الباقين يمتهنون التسوّل لأنها تدرّ مبالغ خيالية عليهم، ولعل ما يثير القارئ الكريم ما قاله أحد المسؤولين: بأنهم يجدون البعض من المتسوّلين داخل أحياء وشقق جيدة ولديهم أثاث فاخر!! ما قاله المسؤول يؤكد ماحدث للمواطنة التي وجدت أن مَنْ تتبرع لها غير محتاجة وهي أغنى منها، تحزن كثيراً عندما تجد المواطن هو المساهم الأول في نقلهم وتوفير السكن لهم والمتصدق عليهم بل يجعلك تسأل نفسك: هل نحن شعب ساذج ؟ القضية تجعلني أتكلم باسهاب لكنني أريد منك عزيزي القارئ أن تسرح بخيالك مع قصص هؤلاء المتسولين وتصرفات بعض المواطنين فإلى الحصيلة التالية : في البداية يقول الشيخ صالح بن محمد الجبري خطيب جامع أم الخير أن الرسول صلِّى الله عليه وسلم غرس في أصحابه عزة النفس وعلو الهمة، والترفع عن دنايا الأمور، فحثهم على أن تكون يدهم هي العليا، استعفافاً عمّا بأيدي الناس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله، وما أعطي أحد من عطاء أوسع من الصبر» وذكر الجبري أن الأمر وصل بالنبي صلِّى الله عليه وسلم أن جعل عدم سؤال الناس ضمن المبادئ التي يبايع عليها أصحابه رضي الله عنهم، فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: « كنّا عند رسول الله صلِّى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو تسعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله صلِّى الله عليه وسلم٬ ولنا حديث عهد ببيعة، قلنا: قد بايعناك! حتى قالها ثلاثاً، وبسطنا أيدينا فبايعنا، فقال قائل: يا رسول الله، إنا قد بايعناك فعلام نبايعك؟ قال: «أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا» وأسرّ كلمة خفية، قال «ولا تسألوا الناس شيئاً» وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلِّى الله عليه وسلم قال : من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاَ وأتكفل له بالجنة؟ فقال: أنا يا رسول الله فقال: لا تسأل الناس شيئاً، فكان لا يسأل أحداً شيئاً. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سؤال الناس وعنده ما يكفيه حرام على المسلم، لما في ذلك من تعريض النفس للهوان والمذلة. فإذا كان سؤال الناس بوجه عام بهذه الصورة، وغير حاجة بهذا الترهيب النبوي فكيف بنا ونحن نسمع حكاية عيسى المتسول و هى الأكثر غرابة بين رفاقه الذين يضمهم مركز ايواء الاطفال المتسولين بل كانت الصدمة كبيرة حين أصرّ عيسى على ألا يفتح فمه ويكمل حكايته إلا إذا أخذ ريالاً هذا يعنى فى أبسط دلالاته أن « عيسى» قد تدرب تدريباً مؤسسياً على أن يستغل كل الظروف من أجل جمع كل المال لكى يرضى عنهم من يقوم على تشغيله فى التسول والصّادم فى الأمر أنها كانت أمه!!. وقبل العودة إلى تفاصيل حكاية عيسى التى حتمًا تختلف عن حكايات الآخرين بحكم التنوع فى الخبرات والجغرافيا والجنس وطرق التسول التى لا تفتقر إلى أفكار خلاقة .. توجد ثمة تساؤلات مشروعة من قبيل : هل نحن شعب ساذج لا يدرك هذا الخيط الرفيع بين حب الخير والاستغفال .. وبين الرغبة فى مساعدة الآخر والتورط فيما يمس أمن الوطن وبين السعى للتربح وارتكاب المخالفة التى ربما لو توقفنا قليلاً قبل الاقدام عليها لاعتبرها ضميرنا أقرب ل « الخيانة» العظمى . لنؤجل التساؤلات إلى أن نقرأ الحكايات: كريم واكرم ومهربان سعوديان كريم لا يزال يذكر مشهده، هو وتسعة آخرين من بينهم شقيقه الأكبر أكرم.و حين امتطوا ظهور الحمير وعبروا الحدود إلى جازان ليدفع كل منهم خمسين ريالاً للمهرب ... كان ذلك بالنسبة له هى المرة الأولى أما أكرم فقد دخل المملكة قبلها ست مرات لهدف واحد وهو التسوّل .. وفى جازان كان بانتظارهم رجل سعودى اتفق معهم على تهريبهم إلى جدة ب2000 ريال .. أما وسيلة التهريب فكانت شاحنة محملة بملابس وبطاطين اندس المتسوّلون العشرة وسطها حاملين مؤونة الطريق ليصلوا إلى حى الرحيلى بجدة بعد 12 ساعة الذي يعرف مخارجه ومداخله أكرم العصابة في منزل سعودي انصرف الآخرون وانضممت أنا وأخى إلى 11 فتاة أعمارهن بين 3 و17 سنة إحداهن متزوجة ومعها طفلة تركهما زوجها حين قبض عليه وهو يتسوّل ، استأجرنا من رجل سعودى بيتاً شعبياً وبدأنا العمل فى اليوم التالى .. انقسمنا إلى فريقين الاول يعمل من الثالثة عصرا إلى الثالثة فجراً .. والثانى فى الفترة المتبقية من اليوم.. وتوزعنا كل ولد مع فتاة وكان أخى الأكبر مع البنت المتزوجة يعملان معاً وينامان فى غرفة واحدة مع طفلتهما، سألته عن حصيلة يوم عمل فقال : البنت يتراوح دخلها ما بين 900 إلى 1200 ريال أما الولد فيعود آخر اليوم ومعه من 300 إلى 700 ريال. من التسوّل إلى السرقة نظرت إليه استحثّه أن يكمل فقال : بعد ثلاثة اشهر عمل اقترحت علينا احدى البنات أن نسلب محافظ الناس الذين نتسوّلهم، اقتنعنا وقمنا بتطبيق الفكرة على الفور وملخصها أن نستوقف الشخص فإذا استجاب لنا وأخرج محفظته وأعطانا ثم اعادها إلى جيبه نقوم بنشلها بولقد قبض علينا الأمن وبحوزتنا 14 ألف ريال كانت حصيلة يوم واحد . لا نقاط تفتيش معاذ دخل المملكة مشياً على الاقدام .. كانت معه والدته اتجها إلى جدة فى سيارة أخذ صاحبها أربعة آلاف ريال واتفق معهما أن يقولا أنهما عائلته فى نقاط التفتيش .. وطوال الطريق إلى جدة لم تستوقفهم أى نقطة تفتيش .. وعندما وصلا كان أقاربهما قد جهزوا لهما سكناً دفعوا ايجاراً له 500 ريال كل شهر .. وظل معاذ ووالدته يعملان فى أمان عاماً كاملاً إلى ان عاد يوماً من اشارة المرور التى يتسوّل بجوارها ليجد أن أمه ليست فى قبض عليها غادر السكن على الفور حين لجأ لزميل له يعمل فى نفس الاشارة فسكن معه ثلاثة اشهر كان يكسب فيها يومياً ما يتراوح ما بين 200 و300 ريال. عيسى هو آدم عدنا إلى عيسى البالغ 14 عاماً لم نفهم من كلامه سوى كلمة أمى التى كان يصرخ بها وهو يعرّى ظهره..جاء من نيجيريا مع احدى السيدات وأربعة أطفال قامت عصابة هناك بتشويه أطرافهم وزوّدتهم بجوازات سفر مزورة وتأشيرة حج مزورة أيضاً... ومعهم السيدة التى يقول عنها أنها أمه وهى فى الحقيقة ليست كذلك وصولا إلى مكة لتتولى تشغيلهم بجوار الحرم المكى مشترطة على كل منهم أن يعود اليها بألف ريال والا فمصيره الضرب على ظهره وأطرافه.. ويقضى نظام العمل - الذى تطبقه زعيمة العصابة وتراقب تنفيذه بشكل صارم بألا يشترى الطفل من دخله طعاماً أو شراباً لكن لا مانع من أن يتسولهما .. ويتذكر عيسى أن أقل مبلغ حصل عليه يوماً كان 500 ريال ويومها خضع للعقاب الشديد أما أفضل دخل فكان 1300 ريال.. وظل عيسى يعمل لمدة ثمانية أشهر قبل أن يقبض عليه وكانت حصيلة الأشهر الثمانية 185 ألف ريال!. المفاجأة جاءت على لسان عيسى فقد سبق له أن دخل المملكة لنفس الغرض وتم ترحيله.. ولأن الدخل مغرٍ فمهما كانت الصعوبات فإن عيسى ينوى العودة مرة أخرى باسم آخر اختاره من الآن وهو آدم . متسوّلة الكنز يقول خالد علوى : لدينا منزل شعبى استأجرته سيدة عجوز رقيقة الحال .. فكانت تدفع الايجار شهراً وتتعثر لشهور إلى أن انتهى بنا الوضع إلى اعفائها من الدفع نهائياً خصوصاً وأن حديثها عن ظروفها كان يدمى القلب وقالت لنا : إن الله لم يرزقها بأولاد وبناتها لا يسألن عنها. وتعاطف الجميع معها فمنهم من يسدد فواتير الكهرباء وآخرون تكلفوا باحضار الطعام والشراب وهكذا لمدة عشر سنوات لنفاجأ ذات يوم على خبر وفاتها بسكتة قلبية وحزن الجميع عليها وبعد وفاتها جاءت بناتها وتبرّعن بكل ما فى المنزل ولم يكن سوى سرير صغير ومكيف وثلاجة وقطعة موكيت وبعض الملابس.. وشرعنا فى ترميم المنزل وعمل الأرضية سيراميك لنقوم بتأجيره لكن قبل أن يحدث ذلك فوجئنا بعودة بناتها يطلبن دخول المنزل لأن والدتهن تركت لهن وصية عند أحد الاقارب ذكرت فيها أنها تركت لهن أشياء مدفونة فى أرضية إحدى الغرف.. لم نصدق خصوصاً وأننا كنا نعرف ظروف هذه السيدة وعلى مضض وافقنا بشرط أن يعدن أرضية الحجرة إلى وضعها بعد الحفر واستخراج ما ترك لهن .. وكانت المفاجأة التى حكاها عامل الحفر أن ماهو مخبأ أكياس بها نقود وذهب.