لا نعلم أمراً اجتمعنا على التفريط فيه والغفلة عنه ونسيانه، كاجتماعنا على التفريط في الدعوة إلى سؤال الله وحده، وترك سؤال المخلوق؛ فبالرغم من كونه أصل التوحيد، إلا أن العناية به قليل! ولا تكاد تجد أحدا يلفت النظر إليه، بل جل المواعظ في التحذير من الذنوب، ومن العدو، والمسارعة في الطاعات، أما هذا الأصل الكبير، فقل من يتكلم به، مع أن القرآن يوليه أهمية كبرى، والسنة تفسح له مكانا كبيرا بالتفصيل والبيان البليغ، حتى ليخيل إلى المتأمل أن الدين كله في سؤال الله وحده. فإذا تتبعنا آي القرآن، وجدناها تحرض على سؤال الله تعالى، وتأمر به: تارة ببيان أن الفضل له، يقول تعالى: “واسألوا الله من فضله”. وأخرى ببيان قرب الله تعالى من عباده، وسماعه كل ما يسألونه، وإجابته لهم، يقول تعالى: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان”. وثالثة بوعيد من استغنى، فلم يرفع حاجاته إلى الله تعالى، واستكبر عن سؤاله، يقول تعالى: “وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين”. ورابعة بالترغيب في طلب الرزق من الله تعالى، لا من الخلق الذين لا يملكون شيئا، قال الله تعالى: “إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون”. وخامسة بالثناء الكبير على المستعفين المستغنين عن سؤال الناس، يقول الله تعالى: “للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا”. والآيات في هذا المعنى كثيرة.. وإذا التفتنا إلى السنة وجدناها تفصل في هذه القاعدة تفصيلاً دقيقاً. فتارة ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل أحد شيئا لا يحل له فيقول: “ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم”. وأخرى يحث على العمل والتكسب حتى لا يتعرض لسؤال الناس فيقول: “لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس”. وثالثة يخبر بأن الجنة ثواب من عف عن سؤال الناس، يقول ثوبان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا فأتكفل له بالجنة؟، فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا”. وفي الرابعة يبلغ به الحرص لتأصيل هذا الركن، فيجعله من بيعته لأصحابه، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: “كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: “ألا تبايعون”؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: “ألا تبايعون رسول الله”؟، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: “ألا تبايعون رسول الله”؟، فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟، قال: “على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس وتطيعوا”، وأسر كلمة خفية: “ولا تسألوا الناس شيئا”، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه”. وخامسة لكون هذا الأمر من أصول الدين، فقد كان يبادر به الصبيان والصغار، فيأمرهم به، كما كان يأمرهم بالصلاة لسبع، فها هو يقول لابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام صغير: “يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله”، ويؤكد له هذا المعنى بقوله: “واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف”. وسادسة كان عليه الصلاة والسلام يستغل كل مناسبة وحادثة، ليبين للناس أن سؤال الله تعالى أجدى لهم من سؤال غيره، فيقول: “من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل”. وعن أبي سعيد الخدري أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: “ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر”. وقد انتفع الصحابة من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، ورسخت فيهم هذه القاعدة.. فكانوا لا يسألون أحدا شيئا، كما مر معنا في حديث عوف وثوبان .. جاء حكيم بن حزام فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال: “يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع.. اليد العليا خير من اليد السفلى”. قال حكيم: “فقلت: “يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، حتى أفارق الدنيا”. فكان أبو بكر يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال: “إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه،”، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأمرهم بهذا إلا ممتثلا قولا وعملا لما يدعو إليه، وذلك كان له بالغ الأثر في قلوبهم وسلوكهم، ففي رحلة الهجرة قدم له أبو بكر راحلة ليركبها فأبى إلا بالثمن. ومن هنا فلقد تربى الصحابة على سؤال وحده وترك سؤال المخلوق، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يسألونه شيئا من أمر الدنيا، إنما يسألون الله تعالى ويطلبونه قبل كل شيء. لما نزلت براءة عائشة قالت لها أمها: “قومي إلى رسول الله”، قالت: “والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي”. - ولما نزلت توبة كعب بن مالك جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: “أمن عندك أم من عند الله”؟، قال: “لا، بل من عند الله”. لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي رباهم على هذه القاعدة، التي هي من أصول الدين، فلا ينبغي لأحد أن يقدم على حق الله تعالى حق أي من البشر، ولو كان نبيا. ولقد كان خواص الصحابة لا يسألون رسول الله عليه وسلم شيئا لأنفسهم، ولم يكونوا يتقدمون بين يديه، ومن أدبهم أنهم لم يسألوه إلا أربع عشرة مسألة في الدين، كلها في القرآن. نعم، بعض الذين لم يلازموا رسول الله الملازمة الكاملة، كانوا يسألونه شيئا من أمور الدنيا، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يترفق بهم، ويربيهم، ويدلهم على الأحسن والأفضل.. - عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ أدع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك”. فخيره بين أمرين ورغبه في الصبر، ووصف ذلك بأنه خير له من دعائه له، لكنه قال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: - “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفعه في”. رغبه في دعاء الله والالتجاء إليه وحده، فلما ألح يطلب الدعاء، أجابه وعلمه شيئا فيه خير له؛ أمره بالدعاء هو أيضا، وهذا فيه غاية النصح، حيث علمه أن يرغب إلى الله، ولا يكتفي بدعاء النبي له. - وامرأة كانت تصرع، فسألت النبي أن يدعو لها، فقال لها: “إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك”. خيرها بين الدعاء وبين الصبر، وجعل صبرها ورغبتها إلى الله تعالى خير من دعاء النبي لها. ومثل هذا كثير، عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تعليق قلوب الصحابة بالله تعالى بالسؤال والرغبة، وصرفهم عن سؤال غيره مهما كان شأنه، ولولا أنه من أصول الإيمان والدين لما عني به. تشرب الصحابة القاعدة العظيمة، فتلاشت في نفوسهم حظوظ الدنيا، وأخلصوا لله تعالى، وكان ذلك من أهم أسباب ثباتهم من بعده، ونشرهم الإسلام. لما مات قام تلميذه الأول أبو بكر في الناس فقال: “أما بعد: من كان منكم يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين). ولما كتب أبو عبيدة عام اليرموك إلى عمر يستنصره على الكفار، ويخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى الناس، وكان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف، وأشار على عمر أن يخرج بالناس، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، فكتب إلى أبي عبيدة يقول: “مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة، فينزلها بالله، يجعل الله له فرجا ومخرجا، فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم”. هكذا كانت ثقتهم بالله تعالى، فقد تربوا وتعلموا أن يعبدوا الله وحده، ويسألوه وحده كل شيء: “ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع”. بعد أن عرضنا النصوص والآثار المرغبة في سؤال الله تعالى وحده، بقي أن نعرج إلى فوائد سؤال الله تعالى، ومفاسد سؤال الخلق: إن الذي يعتاد سؤال الله تعالى وحده ينعم بنعمتين كبيرتين: الأولى: لذة المناجاة. والثانية: محبة الله. أما عن لذة المناجاة: فالإنسان له حوائج لا تنتهي، ومسائل لا تنقضي، فإذا سأل الله تعالى وألحّ وأدام، اتصل به قلبه، ففتحت عليه أبواب معرفة الله تعالى، فيفيض عليه من الرحمة ما لم يكن يعلم، فيجد حلاوة الإيمان وطمأنينة النفس، كما قال تعالى: “الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب”. ورد عن بعض الصالحين قوله: “إنه ليكون لي إلى الله حاجة، فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته، وحلاوة مناجاته، ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضت انصرفت”. ومن ولى وجهه شطر الخلائق؛ يسألهم إلحاحاً وإلحافاً، فلا خبر له بهذه الغنيمة، بل الحال ما قاله عبد الله بن عون: “ذكر الناس داء، وذكر الله دواء”. وأما عن محبة الله تعالى: فمن سأل الله تعالى وأدام وألح، عرفه حق المعرفة، وأحسّ به، وقرب منه؛ من إجابته له، وعنايته، وصرف الشرور عنه، كما جاء في الحديث أن الداع له إحدى ثلاث: “إما أن يعجل له بالإجابة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له”. وهذا يولد في قلبه المحبة لله تعالى، حيث يراه محسنا رحيما، رؤوفا كريما جواد، عفوا غفورا توابا برا رزاقا، لا يرده حين يسأل، ولا يصده حين يرغب، فالقلوب جبلت على حب من أحسن إليها. ذلك في سؤال الله وحده، أما سؤال المخلوق فيه مفاسد كثيرة، منها: أولا: سؤاله يورث في القلب ألما؛ لأنه يجد منه الصد والكراهية، يبدو ذلك في وجهه وحركاته وكلامه، فيعود السائل خائبا بعد رجاء، وحسيرا محبطا بعد تطلع وطمع، فبنوا آدم يغضبون حين يسألون؛ شحا وبخلا.. نقصا وعجزا. ثانيا: إن أجابه تعلق به؛ ذلة وخضوعا وطاعة، فإن بالغ وخرج عن الحد، أضر بتوحيده لله تعالى. ثالثا: أنه يبقى في منتّهم وعلوهم عليه وذله لهم، ومثل هذه عبودية لا تنبغي إلا لله تعالى. رابعا: أنه يجب عليه أن يكافئهم، فقد لا يقدر فيبقى أسيرا لهم، كما قال بعضهم: “ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له”. وقال بعضهم: “ احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكون أميره”. وقد يقدر على المكافأة، لكن بما يضر؛ بما يخرق دينه ويمزق مبادئه. فإن قدر على المكافأة بلا ضرر، فقد استهلك عمره في قضاء ما عليه من منّة. خامسا: إذا لم يجد عونا، وقع في التناحر والقطيعة والتباغض والحقد والحسد. فكم من عداوات وقعت، وأرحام تقطعت، وأحوال طيبة تبدلت لذلك. سادسا: وهي أخطرها: أنها أدت بكثير من الناس إلى التعبد لغير الله تعالى؛ لأن السؤال يقود إلى الخضوع والذلة، وهما عين التعبد، والإسلام حرص على سد كل منافذ الشرك والعبودية لغير الله تعالى، فمنع الواسطة بينه وبين خلقه، وأمر بالسؤال منه مباشرة، ونهى عن اتخاذ الشفعاء، لأمرين: الأول: حتى تكون العبادة خالصة له. الثاني: حتى لا يحرم الإنسان فرصة القرب من الله والقبول.. وبيان هذا: أن الإنسان أذل ما يكون في حالين: بعد الذنب، وحين الحاجة. أما بعد الذنب: فشعور الإنسان بعظم ما أتى، وخوفه من الله تعالى والحياء منه، يحمله ويطير به إلى مقامات القرب من المولى جل شأنه، فالله تعالى يحب من عبده أن ينكسر له. وهو يكره العجب والكبر ولو بالطاعة، ولأجله كتب الذنب على عباده، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لو لم تكونوا تذنبون، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب، العجب). والشيطان هنا أحرص ما يكون على الغواية، والوسوسة بأن الله لن يقبل المذنب، فهذا ما أضل به المشركين قديما؛ زين لهم أن الله تعالى لن يقبلهم بذنوبهم إلا بأن يتوسلوا بالصالحين الطاهرين، فاستجابوا وأضاعوا على أنفسهم فرصة المغفرة والقبول والقربى، وانجروا إلى الشرك بما صنعوا. وقد وقع مثل هذا في المسلمين، حيث صار منهم من يعبد الأولياء والأئمة والأضرحة باسم الولاية والإمامة وجعلوهم الواسطة بينهم وبين الله، بالعلة نفسها التي تعلل بها المشركون، والله تعالى يقول: “ويعبدون من دون الله لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون”. كلا، إن الله تعالى يقبل العبد مهما أتى من الذنب ..!!. ألم يغفر الله تعالى لمن قتل مائة نفس؟. ألم يغفر لبغي، سقت كلبا من عطش، فشكر الله لها فغفر لها. وهو الذي يقول: “يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك، ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة”. تأكيد وتحريض من الله تعالى لعباده، أن يسألوه وحده، كل شيء من متاع الدنيا وثواب الآخرة والمغفرة، فلا يفتحوا بابا يقف الشيطان عليه، ينتظر متى تدار مصاريعه؟ وحين الحاجة: يكون الإنسان أذل ما يكون لمن يقضي حاجته، والله تعالى يحب من عبده الذلة له، فإذا ترك سؤال الله تعالى وسأل المخلوق، ذل لمن لا يستحق. إن خزائن الله ملأى لا تنفد، والله يرزق بغير حساب، فقط ينبغي: 1- الثقة بالله تعالى، ودعاؤه مع اليقين بالإجابة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة). 2- دعاؤه تضرعا وخفية، كما قال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين). 3- دعاؤه بعزم وإلحاح، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقل: اللهم إن شئت فأعطني، فإن الله لا مستكره له). 4- دم استعجال الإجابة، قال عليه الصلاة والسلام: “يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟، قال: يقول: قد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء”. فالله تعالى يفرح بدعوة العبد، والمخلوق يغضب من السؤال؛ جهلا ونقصا، قال ابن تيمية: “فالرب سبحانه: أكرم ما تكون عليه، أحوج ما تكون إليه، وأفقر ما تكون إليه. والخلق أهون ما يكون عليهم، أحوج ما تكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟!” مما سبق نتحصل على نتيجة مهمة: أنه: كلما اعتاد الإنسان سؤال الله تعالى، فتح لنفسه أبواب الإيمان والتوحيد، وأغلق عنها أبواب الشرك. وكلما اعتاد سؤال المخلوق، فتح على نفسه باب الشرك، وأغلق عنها باب التوحيد. ولأن هذه القاعدة من قواعد الإسلام العظيمة، فقد لفتت نظر العلماء، فبنوا عليها أحكاما فقهية: - فالحج لا يجب بالهبة، دع عنك المسألة، فمن لم يملك الزاد والراحلة لم يجب عليه قبول الهبة من أجل أن يحج، ولو كان فريضة، حتى لا تكون للمخلوق عليه منّة، قال ابن تيمية في شرح العمدة: “ فإن كان قادرا على تحصيله بصنعة أو هبة أو وصية أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت المال: لم يجب عليه ذلك”، أي الحج. - وكذا لا يلزم قبول الهبة لمن عدم السترة في الصلاة، مع كون ستر العورة من شروط الصلاة، جاء في الروض المربع: “ (وإن أعير سترة لزمه قبولها)؛ لأنه قادر على ستر عورته بلا ضرر فيه، بخلاف الهبة للمنة، ولا يلزمه استعارتها”. ولأجل ما سبق قال الإمام ابن تيمية: “سؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلا على الله تعالى أفضل”وأسند ذلك إلا الإمام أحمد رحمه الله. فهذه قاعدة مهمة، أن: الأصل في سؤال الخلق أنه محرم لكن لما كانت بعض حاجات الناس لا تقضى إلا بالسؤال فيما بينهم، حتى يتم التعاون والمودة والتكافل، أباح الله هذا السؤال بشرطين: الأول: أن لا يتجاوز الحد، بحيث لا يكون هو الديدن والأصل، فيسأل كل شيء، من غير تفريق بين ما يحسن وما لا يحسن، ولا بين الضروري وغير الضروري. الثاني: أن لا يسأل مخلوقا ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. والكمال ألا يسأل قدر الإمكان، وإذا تعرض لسؤال اضطرارا، فعليه أن يرد بالمثل ويجتهد في الرد بأحسن من ذلك، فإن لم يقدر لضيق في رزقه، فليجتهد في الدعاء، يقول عليه الصلاة والسلام: “من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه”. على هذا يحيا المسلم، وعليها يموت، ويعلم ويزكي بها نفسه، وزوجه، وأولاده.