كان العالم قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم جيفة في حضن صنم، وجثة هامدة تحت أقدام وثن، جباه معفرة للات والعزى، وأنوف راغمة لمناة الثالثة الأخرى، عري في الأخلاق، ونكوص في الهمم، وانتحار في المبادئ، عقل مدفون تحت ركام الجهل؛ بصيرة مطموسة بغبش التقليد والتبعية، فأراد الله بهذا العالم خيرًا، منة منه وفضلًا، وكرمًا منه، فبعث محمد عليه الصلاة والسلام فهو النبأ العظيم، والنبي الخاتم، والحدث الجلل، بعث عليه الصلاة والسلام ليرد كل شيء إلى أصله، وكل أمر إلى حقيقته، وكل نبأ إلى مستقره، فملأ القلب إيمانًا، والعقل حكمة، والنفس يقينًا، والكون عدلًا، والدنيا رحمة، والأيام سلامًا، والليالي أمنًا. أصدق الناس لهجة، وأبرهم قلبًا، وأشرحهم صدرًا، وأعظمهم حلمًا، وأسدهم رأيًا، وأقواهم بصيرة، وأحسنهم هديًا، وأجملهم طريقة، وأتقاهم نفسًا، وأنقاهم سريرة، وأبينهم خطابًا، وأثبتهم جنانًا، وأسلمهم جانبًا، وأرضاهم سجية، وأقومهم قيلًا، وأعدلهم حكمًا، وأوصلهم رحمًا، وأطهرهم عرضًا، وأكرمهم يدًا، وأظهرهم حجة، وأمضاهم عزيمة، وأنبلهم سجية، وأعرقهم نسبًا، وأفضلهم حسبًا، وأوسطهم طريقة، وأوضحهم مذهبًا، وأجلهم قدرًا، وأعزهم فخرًا. كان الكون قبل رسالته هائمًا في حلم الكرى، سادرًا في خرافات الورى، العقول جامحة في هواها، والنفوس طائشة في مبتغاها، شطحات في الفكر، وكساح في المعرفة، وتشويه في الأخلاق والسلوك، وتخلف بهيمي في الإرادات، وعوج ظاهر في المدارك، وسفه عابث في القيم، أمة قبل مبعثه مبعثرة، تصب فضول الخمر على رأس الصنم، وتذبح البنات بالحجج الواهيات، العقل هائم، ووازع البصيرة نائم، والقلب خنس عليه الشيطان، والجسم في جنابة، لا وضوء ولا غسل ولا طهر ولا صلاة، ولا تسبيح، ولا تدبر ولا تفكر، ولا محاسبة، لا خشوع ولا دموع، لا توبة ولا إنابة، لا صلة ولا رحمة، لا علم ولا فهم، لا حج ولا جهاد، لا زكاة ولا قربة. ضلال مبين، وغي ثخين، وعتو جارف. فلو جمعت بلاغة سحبان، وكتابة ابن العميد، وذكاء إياس، وبيان ابن عباس، وشعر المتنبي، في وصف ذاك الحال لقصر المقال، ولم يستوف تلك الخصال. ومع هذا الجدب في المعرفة، والأخلاق، والقيم، كان هناك فقر مدقع في المعيشة، فالجوع يلازم البطون ملازمة الغريم الشحيح، والعدم سكن البيوت سكون الفكرة في الضمير، يأكلون الميتة، ويتعرقون الجلود، ويمصون العظم، ويلوكون الشجر. ومع هذا الجدب كله، والفقر كله، اندثار في الأجسام، فالرءوس شعث، والوجوه مغبرة، والأظفار ناتئة، والثياب وسخة، والشعور نافشة، والروائح كريهة، مع عبوس في المحيا، وكلوح في الوجه، وسوء في المعاملة، وفظاظة في الخلق، ويبس في الأدب، وضمور في السجايا، حتى طل هذا الفجر الزاهي، وسطع هذا النور الباهي، محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن الكون جرى في جسمه تيار فنفضه من أوله إلى آخره، ومن مشاش رأسه إلى أخمص قدميه، نفضه نفضًا قويًا، فنثر كل ذرة من الانحراف فيه، وأخرج كل قطرة آثمة منه، ودبت الحياة في جسم العالم الميت برسالته صلى الله عليه وسلم، دبيب البرء في الجرح، والماء في العود، والندى في الورد، واستفاق العقل، وأشرقت الروح، وانجاب الظلام وانقشع، وتم فرح الأجيال في ليلة ميلاد النبوة، وفي عرس الرسالة الأكبر، وفي مهرجان الهدى العظيم المبارك، فلله الحمد أولًا وآخرًا.