نصل إلى المفهوم الثامن في جهاز المفاهيم وهو: ضرورة إنشاء علم للعلل الثقافية، لتحليل ونقد قبحيات الثقافة قياسًا على فن العلل في علم الحديث الشريف، ومما قاله الغذامي عن هذه الفكرة: «هو إذن [أي النقد الثقافي] نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف سقطات في المتن أو في السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة..» (النقد الثقافي 84)، فإذا نظرنا في مؤلفات ابن نبي نجده تحدث في موضعين عن دورة الحضارة، التي تتم من خلال ثلاثة أطوار: الروح ثم العقل ثم الغريزة، ذاكرًا أنه في بداية طور العقل يبدأ اطراد العلوم والفنون، فإذا وصل الاطراد إلى ذروته تبدأ سيطرة الروح في الانفلات ويبدأ ظهور الأمراض الثقافية، ويذكر أن علم العلل الاجتماعي كفيل بكشف هذه الأمراض وتحليلها، يقول: «.. فأَوْجُ أيّ حضارة وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها يلتقي من وجهة نظر «علم العلل» ethiologieمع بدء مرض اجتماعي معين لَمَّا يجتذب انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع بعدُ، لأن آثاره المحسوسة لا تزال بعيدة، وبهذا تُواصل الغريزة المكبوحةُ الجماحِ بيد الفكرة الدينية سعيَها إلى الانطلاق والتحرر وتستعيد الطبيعةُ غلبتَها على الفرد وعلى المجتمع شيئًا فشيئًا، وعندما يبلغ هذا التحرر تمامه يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة..» (شروط النهضة 69، وميلاد مجتمع 104). ومصطلح ethiologieيقصد به حسب معجم المصطلحات الاجتماعية لأحمد بدوي: «دَرْس الأسباب والعلل، مجموعة العوامل التي تساهم في حدوث الظواهر المَرَضية... وتُحدّد بجانب دراسة الأعراض semeiologyحقيقة المرض» (141). فالاختطاف هنا ليس بحاجة إلى إيضاح. لكني حينما قرأت حديث الغذامي عن علم علل الحديث (بقطع النظر عن الخطأ في نسبة مصطلح «الخطاب» لنقاد الحديث؛ فليس هو من مصطلحاتهم، بل من مصطلحات الأصوليين) استبشرت خيرًا وقلت لعل هذه الإضافة القليلة مما يهون ولو قليلًا! من قبح السرقة، فابن نبي لم يربط علم العلل الذي استعان به في كشف أمراض الثقافة وتحليلها بعلم العلل الحديثي وإنما استعاره من علوم الاجتماع التي هي أغلب مصادره، بالإضافة إلى علوم النفس والفلسفة، فالغذامي إذن قد أضاف من حرّ عقله شيئًا ما إلى الفكرة المختطفة، فأصبح في جهازه المفاهيمي شيء «صغير لطيف» يستحق أن يُنسب إليه وحده! ولكن سرعان ما عكّرتْ ذاكرتي عليَّ استبشاري لناقدنا النسقي فأحالتْني إلى مقابلة مع الدكتور لطفي عبدالبديع رحمه الله نُشِرتْ قديمًا في ملحق الأربعاء بصحيفة المدينة، قبل نشر الغذامي لكتابه في النقد الثقافي، تحدّث لطفي في تلك المقابلة الصحفية عن كون علم علل الحديث أهم منهجية نقدية يحتويها تراثنا الفكري، وأنه يجب الإفادة منها في تطوير منهجيتنا النقدية الحديثة، هذا فحوى كلامه لا نصه، فمات استبشاري في مهده!! فحتى هذه الفكرة الصغيرة اللطيفة أصبحت مختطفة!! ولْيعذرني القارئ على عدم توثيقي لعدد الصحيفة الوارد فيها اللقاء فإني حاولت عن طريق محرك البحث في الشبكة ولم أفلح، فإن اكتفى القارئ بالثقة بذاكرتي كنت له شاكرًا، وإن أبى وشكّك وله ذلك استعنت بالله واستخرجت تاريخ النشر، ولعل أحد الإخوة الصحفيين يساعدنا في ذلك. نأتي إلى العناصر المتسلسلة في جهاز المفاهيم من 9 12 (انظر الجزء الرابع) وهي ما يلي: 9 «الشعر هو المخزن الخطر لهذه الأنساق وهو الجرثومة المتسترة بالجماليات»، 10 «الدعوى الجوهرية [يقصد في مشروعه] هي أن الشخصية الشعرية نسق ثقافي مترسخ ومتعزز فينا، ونحن نعيد ترسيخه وتعزيزه عبر تمثله في الخطاب وفي السلوك»، 11 من أهم أنواع الأنساق المضمرة التي يتصدى لها مشروعه: نسق الفحل الشعري الذي تحول إلى صنم بلاغي ثم طاغية عام في سائر أنماط الثقافة، 12 ومن أنواعها: الشخصية الشعرية (= المتشعرنة). وكلها مبنية على مفهوم «الشِعْرِيّة» الذي سبق بيان اختطافه من ابن نبي عن طريق آلية التحريف فأصبح «الشَعْرَنة»! (انظر الجزء 6)، ومن ثم لسنا بصدد أفكار جديدة فنحتاج إلى كشف سرقتها. وفكرة تَرسُّخ النسق المريض في الذات المعتلة المضمرة سبق الحديث عنها كذلك (انظر الجزء 9). وفكرة إعادة ترسيخ النسق المريض سنتحدث عنها حين نصل إلى مفهوم الاستنساخ النسقي. يتبقى لدينا هنا فكرة الفحل الشعري النسقي المتحول إلى صنم بلاغي ثم طاغية في مجالات ثقافية عامة، فابن نبي تحدث عن فكرة تحول «الفرد» إلى «وثن» في مواضع من مؤلفاته؛ ورَجَع بأصل المشكلة إلى الخلل في شبكة العلاقات الاجتماعية حينما يتحلل جسد المجتمع بسبب الأمراض الاجتماعية فيتحول الإنسان من كونه «شخصًا» له وظيفة اجتماعية إلى «فرد» منفصل يفكر ويتصرف على ضوء غرائزه، ولذا درَس المشكلة في إطار «المرض الاجتماعي» الذي جعله عنوان فصل في كتابه ميلاد مجتمع، يقول: «إن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورًا ناميًا، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد. وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب «الأنا» عند الفرد من «تضخم» ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية، عندما يختفي «الشخص» أو بالأخص عندما يسترد «الفرد» استقلاله وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي، فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الاجتماعي المشترك صعبًا أو مستحيلًا...» (ميلاد مجتمع 40). وعلى مستوى العمل الحضاري كأن نكون بصدد بناء نهضة يصبح الأفق الذي تتطور باتجاهه الأنا المتضخمة هو أفق «الصنم» أو «الوثن»، وقد فصل في ذلك في موضعين؛ الأول في شروط النهضة والآخر في مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، فتحت عنوان «دور الوثنية» يقول: «من سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أيضًا»، مبينًا سبب إطلاق القرآن تسمية «الجاهلية» على حالة الوثنية مع ما كان لدى أهلها من أدب جميل: «.. لم يشفع لهم شعر رائع وأدب فذ من أن يصفهم القرآن بهذا الوصف لأن التراث الثقافي العربي لم يكن يحوي سوى الديباجة المشرقة الخالية من كل عنصر خلاق أو فكر عميق.. وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكارًا بل ينصب أصنامًا» (شروط النهضة 28). ويتحدث كما هو ديدنه في مواضع مختلفة عن أن داء الاستعمار هو نتيجة طبيعية لداء القابلية للاستعمار الكامن في النفوس، ولذا «لا يذهب كابوسه عن الشعب كما يتصور البعض بكلمات أدبية أو خطابية وإنما بتحول نفسي.. ومن الواضح أن السياسة التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه لا تستطيع إلا أن تُكوِّن دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها» (السابق 31). ويفرق بين أدب الفكرة وأدب الصنم قائلًا: «لم يتخلف الأدب الجزائري عن الركب، فقد بدأ يصور تقدم البلاد في قصائد جَدَّد فيها نشاطه بعد ركود طويل كانت تلك القصائد تغني ربيع النهضة؛ أي ربيع الفكرة لا ربيع الصنم» (السابق 33).